(الصفحة 181)
أ مّا الرواية الاُولى : فظاهرة في أنّ اعتراض الإمام (عليه السلام) على أبي حنيفة إنّما هو لأجل ادّعائه معرفة القرآن حقّ معرفته ، وتشخيص الناسخ من المنسوخ وغيره ممّا يتعلّق بالقرآن ، وليس معنى قوله (عليه السلام) : «وما ورّثك الله من كتابه حرفاً» أ نّه لاتفهم شيئاً من القرآن ، ولا تعرف مثلاً معنى قوله تعالى : (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ) (1) ; ضرورة أ نّه لو كان المراد ذلك ، لكان لأبي حنيفة ـ مضافاً إلى وضوح بطلانه ـ الاعتراض على الإمام (عليه السلام) ، وأن لا يخضع لدى هذا الكلام ، مع أنّ الظاهر من الرواية خضوعه لديه وتسليمه دونه .
فالمراد منه : أ نّ الله ـ تعالى ـ قد خصّ أوصياء نبيّه (صلى الله عليه وآله) بإرث الكتاب ، وعلم القرآن بجميع خصوصيّاته ، وليس لمثل أبي حنيفة حظّ من ذلك ، ولو بالإضافة إلى حرف واحد ، فهذا القول مرجعه إلى قوله ـ تعالى ـ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَـبَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (2) .
فالرواية أجنبيّة عمّا نحن فيه من البحث والنزاع .
وأمّا الرواية الثانية : فالتوبيخ فيها إنّما هو على تصدّي قتادة لتفسير القرآن ، وقد عرفت أنّ الأخذ بظاهر القرآن لا يعدّ تفسيراً أصلاً ، ولا تشمله هذه الكلمة بوجه ، وعلى تقديره فمن الواضح أ نّ قتادة إنّما كان يفسّر القرآن بالرأي أو الآراء غير المعتبرة ، والتوبيخ إنّما هو على مثل ذلك . وقد مرّ(3) أنّ حمل اللفظ على ظاهره لايكون من مصاديق التفسير بالرأي قطعاً ، وعلى فرض احتماله لابدّ للمستدلّ من الإثبات وإقامة الدليل على الشمول ، ويكفي في إبطاله مجرّد احتمال العدم ، وقد شاع وثبت أ نّه إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال .
- (1) سورة البقرة 2 : 20 .
(2) سورة فاطر 35 : 32 .
(3) في ص177 ـ 178 .
(الصفحة 182)
ثالثها : أ نّ القرآن مشتمل على المعاني الشامخة ، والمطالب الغامضة ، والعلوم المتنوّعة ، والأغراض الكثيرة ، التي تقصر أفهام البشر عن الوصول إليها ودركها ، كيف؟ ولا يكاد تصل أفهامهم إلى درك جميع معاني «نهج البلاغة» الذي هو كلام البشر ـ ولكنّه كيف بشر ! ـ بل وبعض كتب العلماء الأقدمين إلاّ الشاذّ من المطّلعين ، فكيف بالكتاب المبين الذي فيه علم الأوّلين والآخرين ، وهو تنزيل من ربّ العالمين ، نزل به الروح الأمين على من هو سيِّد المرسلين صلّى الله عليه وآله الطيّبين المعصومين ، على مرور الأيّام وكرور الدهور ، وبقاء السماوات والأرضين ؟!
والجواب : أنّ اشتمال القرآن على مثل ذلك وإن كان ممّا لا ينكر ، واختصاص المعرفة بذلك بأوصياء نبيّه تبعاً له وإن كان أيضاً كذلك ، إلاّ أنّه لا يمنع عن اعتبار خصوص الظواهر التي هي محلّ البحث على ما عرفت(1) بالإضافة إلى سائر الناس ، فهذا الدليل أيضاً لا ينطبق على المدّعى .
رابعها : أ نّا نعلم إجمالاً بورود مخصّصات كثيرة ومقيّدات غير قليلة لعمومات الكتاب وإطلاقاته ، وكذلك نعلم إجمالاً بأنّ الظواهر التي يفهمها العارف باللغة العربيّة الفصيحة بعضها غير مراد قطعاً ، وحيث إنّه لا تكون العمومات والإطلاقات وهذه الظواهر معلومة بعينها لفرض العلم الإجمالي ، فاللاّزم عدم جواز العمل بشيء منها قضيّة للعلم الإجمالي ، وحذراً عن الوقوع في مخالفة الواقع ، كالعلم الإجمالي في سائر الموارد ، بناءً على كونه منجّزاً كما هو مقتضى التحقيق .
والجواب أمّا أوّلاً : فبالنقض بالروايات ; ضرورة وجود هذا العلم الإجمالي بالإضافة إليها أيضاً ; لأنّه يعلم بورود مخصّصات كثيرة لعموماتها ، ومقيّدات
(الصفحة 183)
متعدّدة لمطلقاتها ، فاللاّزم بناءً عليه خروج ظواهرها أيضاً عن الحجّية ، مع أنّ المستدلّ لا يقول به .
وأمّا ثانياً : فبالحلّ ، بأنّ هذا العلم الإجمالي إن كان متعلّقاً بورود مخصّصات كثيرة ، ومقيّدات متعدّدة ، وقرائن متكثّرة على إرادة خلاف بعض الظواهر ووقوعها في الروايات ، بحيث لو فحصنا عنها لظفرنا بها ، فوجود هذا العلم الإجمالي وإن كان ممّا لا ينبغي الارتياب فيه ، إلاّ أنّه لا يمنع عن حجّية الظاهر الذي لم يظفر على دليل بخلافه بعد الفحص التامّ ، والتتبّع الكامل ; لخروجه عن دائرة العلم الإجمالي حينئذ على ما هو المفروض ، وقد عرفت(1) أنّ محلّ البحث في باب حجّية الظواهر إنّما هو هذا القسم منها .
وإن كان متعلّقاً بورودها مطلقاً ، بحيث كانت دائرة المعلوم أوسع من هذه الاُمور الواقعة في الروايات ، فنمنع وجود هذا النحو من العلم الإجمالي ; فإنّ المسلّم منه هو النحو الأوّل الذي لا ينافي حجّية الظواهر بوجه أصلاً .
خامسها : أ نّ الكتاب بنفسه قد منع عن العمل بالمتشابه ، فقد قال الله ـ تعالى ـ : (مِنْهُ ءَايَـتٌ مُّحْكَمَـتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَـبِ وَأُخَرُ مُتَشَـبِهَـتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَـبَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ) (2) .
وحمل اللفظ على ظاهره من مصاديق اتّباع المتشابه ، ولا أقلّ من احتمال شموله للظاهر ، فيسقط عن الحجّية رأساً .
والجواب : أ نّه إن كان المدّعى صراحة لفظ «المتشابه» في الشمول لحمل الظاهر على معناه الظاهر فيه ; بمعنى كون الظواهر من مصاديق المتشابه قطعاً ، فبطلان هذه الدعوى بمكان من الوضوح ، بداهة أنّه كيف يمكن ادّعاء كون أكثر
- (1) في ص170 ـ 171 .
(2) سورة آل عمران 3 : 7 .
(الصفحة 184)
الاستعمالات المتداولة المتعارفة في مقام إفهام الأغراض وإفادة المقاصد من مصاديق المتشابهات ، نظراً إلى كون دلالتها على المرادات بنحو الظهور دون الصراحة؟
وإن كان المدّعى ظهور لفظ «المتشابه» في الشمول للظواهر ، فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع ذلك لما ذكرنا من عدم كون الظواهر لدى العرف واللغة من مصاديق المتشابه ـ : أ نّه كيف يجوز الاستناد إلى ظاهر القرآن لإثبات عدم حجّية ظاهره ؟ فإنّه يلزم من فرض وجوده العدم ، ولا يلزم على القائل بحجّية الظواهر رفع اليد عن مدّعاه ; نظراً إلى ظهور الآية في المنع عن اتّباع المتشابه الشامل للظواهر أيضاً ، فإنّك عرفت عدم ظهوره عنده في الشمول لغةً ولا عرفاً بوجه أصلاً .
وإن كان المدّعى احتمال شمول «المتشابه» للظواهر الموجب للشكّ في الحجّية ، المساوق لعدم الحجّية رأساً ; لما تقرّر في علم الاُصول(1) من أنّ الشكّ في حجّية الظنّ يستلزم القطع بعدمها ، وعدم ترتّب شيء من آثار الحجّية عليها .
فيرد عليه ـ مضافاً إلى منع الاحتمال أيضاً ـ : أ نّه لو فرض تحقّق هذا الاحتمال لما كان موجباً لخروج الظواهر عن الحجّية ، بداهة أ نّه مع قيام السيرة القطعيّة العقلائيّة على العمل بالظواهر والتمسّك بها ، واحتجاج كلّ من الموالي والعبيد على الآخر بها ، لا يكون مجرّد احتمال شمول لفظ «المتشابه» للظواهر موجباً لرفع اليد عن السيرة .
بل لو كان العمل بظواهر الكتاب غير جائز لدى الشارع ، وكانت طريقته في المحاورة في الكتاب مخالفة لما عليه العقلاء في مقام المحاورات ، وإبراز المقاصد والأغراض ، لكان عليه الردع الصريح عن إعمال السيرة في مورد الكتاب ، والبيان
- (1) كفاية الاُصول: 279 ـ 280 ، مجمع الأفكار: 2 / 169 و ج4 / 443 ، محاضرات في اُصول الفقه: 3 / 266 ، 276 ، مباحث الاُصول: 1 / 568 وج2 / 71 ، 78 ، سيرى كامل در اصول فقه: 10 / 178ـ 192 .
(الصفحة 185)
الواضح الموجب للفرق البيّن بين الكتاب ، وبين الروايات ، وأ نّه لا يجوز في الأوّل الاتّكال على الظواهر دون الثاني ، ومجرّد احتمال شمول لفظ المتشابه لا يجدي في ذلك .
وبعبارة اُخرى: لو كان للكتاب من هذه الجهة الراجعة إلى مقام الإفهام والإفادة خصوصيّة ومزيّة لدى الشارع ، مخالفة لما استمرّت عليه السيرة العقلائيّة في محاوراتهم ، هل يكفي في بيانه مجرّد احتمال شمول لفظ «المتشابه» الذي نهى عن اتّباعه ، أو أ نّه لابدّ من البيان الصريح ؟ وحيث إنّ الثاني منتف ، والأوّل غير كاف قطعاً، فلامحيص عن الذهاب إلى نفي الخصوصيّة وعدم ثبوت المزيّة ، كما هو واضح.
سادسها : وقوع التحريف بالنقيصة في الكتاب العزيز المانع عن حجّية الظواهر واتّباعها ; لاحتمال كونها مقرونة بما يدلّ من القرائن على إرادة خلافها ، وقد سقطت من الكتاب ، فالتحريف الموجب لتحقّق هذا الاحتمال يستلزم المنع عن الأخذ بظواهر الكتاب ، كما هو ظاهر .
والجواب : منع وقوع التحريف المدّعى في الكتاب وعدم تحقّقه بوجه . وسيأتي البحث عنه مفصّلاً في حقل مستقلّ نختتم به أبحاث الكتاب بإذن الله تعالى بعنوان : عدم تحريف الكتاب وشبهات القائلين بالتحريف .
الأمر الثاني : قول المعصوم (عليه السلام)
لا إشكال في أنّ قول المعصوم (عليه السلام) ـ نبيّاً كان أو إماماً ـ حجّة في مقام كشف مراد الله ـ تبارك وتعالى ـ من ألفاظ كتابه العزيز ، وآيات قرآنه المجيد ; لما ثبت في محلّه من حجّية قوله ، أ مّا النبيّ (صلى الله عليه وآله) فواضح ، وأ مّا الإمام ; فلأنّه أحد الثقلين(1)
- (1) يلاحظ بحار الأنوار: 23 / 104 ـ 166 ب7 وغيره ، وقد تقدّم في ص 172 .