(الصفحة 304)
قال البغوي في شرح السنّة ـ على ما حكى عنه في الإتقان ـ : إنّ الصحابة جمعوا بين الدّفتين القرآن الذي أنزله الله ـ سبحانه وتعالى ـ على رسوله (صلى الله عليه وآله) من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئاً . . . فخافوا ذهاب بعضه بذهاب حفظته . . . فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله) من غير أن قدّموا شيئاً أو أخّروا ، أو وضعوا له ترتيباً لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يلقّن أصحابه ويعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل صلوات الله عليه إيّاه على ذلك ، وإعلامه عند نزول كلّ آية أ نّ هذه الآية تكتب عقيب آية كذا في السور التي يذكر فيها كذا .
فثبت أ نّ سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد ، لا في ترتيبه ; فإنّ القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على الترتيب الذي هو في مصاحفنا أنزله الله ـ تعالى ـ جملةً واحدةً في شهر رمضان ليلة القدر إلى السماء الدُّنيا . . . ثمّ كان ينزّله مفرّقاً على رسوله (صلى الله عليه وآله) مدّة حياته عند الحاجة . . . فترتيب النزول غير ترتيب التلاوة (1) .
وعن ابن الحصّار أ نّه قال: ترتيب السور ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي ، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: «ضعوا آية كذا في موضع كذا»(2) ، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، وممّا أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف (3) .
وبالجملة فهذه مسألة خلافيّة وإن كان التعبير بـ «الكتاب» الظاهر في النظم والترتيب من جميع الجهات ، في عصر النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعهده ، وانقسام السور بالأقسام
- (1) شرح السنّة للبغوي 4 : 521 ـ 523 ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 215 ـ 216 ، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه .
(2) البرهان في علوم القرآن 1: 256 عن جبريل (عليه السلام) .
(3) الإتقان في علوم القرآن: 1 / 216 ، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه .
(الصفحة 305)
الأربعة: الطوال ، والمئون ، والمثاني ، والمفصّل في عصره أيضاً، كما عرفت(1) سابقاً ، وبعض الاُمور الاُخر، كالتعبير عن السورة الاُولى بـ «فاتحة الكتاب» ربما يؤيّد كون الترتيب أيضاً بتوقيف من الرسول(صلى الله عليه وآله) ، وبأمر من جبرئيل (عليه السلام) ، ولعلّه لذلك لم يكتب ابن مسعود ـ على ما نسب إليه ـ في مصحفه المعوّذتين ، وكان يقول: «إنّهما ليستا من القرآن، وإنّما نزل بهما جبريل تعويذاً للحسنين (عليهما السلام) (2).
وذلك لما رآه من وقوعهما في آخر القرآن، فزعم أنّهما لاتكونان منه، وإن كان بطلان هذاالزعم لايحتاج إلى إقامة الدليل بعد افتقار ثبوت القرآن إلى التواتر ، ووجوده في السورتين أيضاً ، كما مرّ سابقاً(3).
وأمّا عدم كون المخالفة في الترتيب بقادحة فواضح ; ضرورة أنّ النزاع ليس في الاختلاف في ترتيب السور بوجه ، بل في كون القرآن الموجود ناقصاً عن مصحف عليّ (عليه السلام) في مقدار ممّا نزل بعنوان القرآن .
وأ مّا ترتيب الآيات، فقد عرفت أ نّه كان بتوقيف من الرسول (صلى الله عليه وآله) وبأمر من جبريل (عليه السلام) ، ويؤيّده التعبير بـ «السورة» ، التي معناها مجموعة آيات متعدّدة مترتّبة مشتملة على غرض واحد أو أغراض متعدّدة مرتبطة ، في نفس الكتاب العزيز في مواضع متكثّرة ، سيّما الآيات الواقعة في مقام التحدّي ، وكذا في لسان النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) ، والأحكام المترتّبة على السورة ; كوجوب قراءتها في الصلاة الفريضة
- (1) في ص 283 ـ 290.
(2) كذا في الميزان في تفسير القران 12: 132، ولكن لم نعثر عليه، وإنّما الموجود في المسند لابن حنبل 8 : 36 ح21244ـ 21247 ، والمعجم الكبير للطبراني 9: 234ـ 235 ح9148ـ 9152 ، والإتقان في علوم القرآن: 1 / 271ـ 272 النوع 22 ـ 27 ، تنبيهات ، الأوّل ، وفتح الباري لابن حجر 9: 5828 ، والدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 8 : 624 ، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 20 : 251 تفسير سورة الفلق ، هكذا: إنّهما ليستا من كتاب الله، إنّما أمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) أن يتعوّذ بهما.
(3) في ص 146.
(الصفحة 306)
بعد حكاية الفاتحة أو استحبابها ، ومثل ذلك لا يتلاءم مع تفرّق الآيات ، وعدم وضوح كون كلّ واحدة منها جزءاً من أجزاء السورة التي هي جزء لها ، كما لا يخفى .
نعم ، ذكر بعض الأعلام في تفسيره المعروف بـ «الميزان» أ نّ وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرّقة موقعها الذي هي فيه الآن ، لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد ، وأنّ رواية عثمان بن أبي العاص ، عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قال : أتاني جبريل (عليه السلام) فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الاِْحْسَـنِ . . .) (1) لا تدلّ على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة .
واستدلّ على ذلك بالروايات المستفيضة الواردة من طرق الشيعة وأهل السنّة: أ نّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة ، كما رواه أبو داود(2) والحاكم(3) والبيهقي(4) والبزّار(5) من طريق سعيد بن جبير ـ على ما في «الإتقان» ـ عن ابن عبّاس قال: كان النبيّ (صلى الله عليه وآله) لا يعرف فصل السورة حتّى تنزل عليه ( بسم الله الرحمن الرحيم) .
وزاد البزّار : فإذا نزلت عرف أنّ السورة قد خُتمت واستقبلت ، أو ابتُدئت سورة اُخرى (6) .
وغير ذلك من الروايات الواردة من طرقهم وطرقنا عن الباقر (عليه السلام) ، وهي
- (1) المسند لابن حنبل 6: 272 ح17940 ، الإتقان في علوم القرآن 1 : 212 ، النوع الثامن عشر في جمعه وترتيبه ، والآية في سورة النحل 16: 90 .
(2) سنن أبي داود: 128 ح788 .
(3) المستدرك على الصحيحين 1: 355 ـ 356 ح845 و 846 .
(4) السنن الكبرى للبيهقي 2: 337 ح2428 و 2429 .
(5) كشف الأستار عن زوائد البزّار 3: 40 ح2187 .
(6) انظر الإتقان في علوم القرآن: 1 / 268 ، النوع 22 ـ 27 ، تنبيهات، الأوّل .
(الصفحة 307)
صريحة في دلالتها على أنّ الآيات كانت مرتّبة عند النبيّ بحسب ترتيب النزول ، فكانت المكّيات في السور المكّية والمدنيّات في سور مدنيّة ، إلاّ أن تفرض سورة نزل بعضها بمكّة وبعضها بالمدينة ، ولا يتحقّق هذا الفرض إلاّ في سورة واحدة .
ولازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستنداً إلى اجتهاد من الصحابة»(1) انتهى ملخّص موضع الحاجة من كلامه أدام الله أيّامه.
ويرد عليه: أ نّ رواية عثمان بن أبي العاص وإن كانت بظاهرها لا تدلّ على العموم والشمول ، إلاّ أنّه يستفاد منها ذلك بعد ملاحظة أ نّه لا خصوصيّة لموردها ، خصوصاً بعدما ذكرنا من الجهات التي ترجع إلى كون الآيات مرتّبة في عهده وبيده (صلى الله عليه وآله) ، والروايات الدالّة على أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة ، لا تنافي صدور الأمر أحياناً بوضع آية كذا في السورة الفلانية ; فإنّ كون العلم بتمام السورة متوقّفاً على نزول البسملة لا دلالة فيه على عدم إمكان وضع آية فيها بأمر من جبرئيل أصلاً .
ويؤيّده أنّه لو كان ترتيب النزول معلوماً عند الصحابة ـ كما هو المفروض ـ لكان الاعتبار يساعد على كون الترتيب بهذه الكيفيّة ، ولا مجال ـ على هذا التقدير ـ لإدخال الآية المدنيّة في السور المكّية أو بالعكس بمجرّد الظنّ بالتلائم والتناسب بين المطالب ; فإنّ مجرّد ذلك لا يقاوم الترتيب من حيث النزول الذي هو الأساس في هذا الباب ، وحينئذ يستكشف من عدم رعاية هذه الجهة ، كون الترتيب وتشكيل السور من الآيات التي هي جزء لها ، لم يكن مستنداً إلى اجتهاد واستنباط ونظر وتفكّر أصلاً .
وبالجملة: ما تقدّم(2) من الأدلّة المثبتة لكون القرآن مجموعاً في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله)
- (1) الميزان في تفسير القرآن: 12 / 127 ـ 128 ، تفسير سورة الحجر ، الآية 1 ـ 9 .
(2) في ص 283 ـ 290.
(الصفحة 308)
وبيده ، ومرتّباً مؤلّفاً في زمنه ، إن لم يكن مثبتاً لكون ترتيب السور أيضاً بأمره ونظره ، فلا أقلّ من إثباتها لكون ترتيب الآيات وتشكيل السور كذلك ; ضرورة أنّ له المدخليّة الكاملة في ترتّب غرض الكتاب وحصول الغاية المقصودة ; لأنّ المطالب المتفرّقة المتشتّتة لا تفي بتحقّق الغرض ، فالدليل على ترتيب الآيات هو الدليل المتقدّم على تحقّق الجمع في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) وبيده .
هذا كلّه فيما يتعلّق بمغايرة مصحف عليّ (عليه السلام) مع سائر المصاحف من جهة الترتيب بين السور . نعم ، لا ينبغي الارتياب في عدم اختصاص المغايرة بهذا المقدار ، بل الظاهر ثبوت المغايرة أيضاً من حيث اشتماله على إضافات وزوائد لاتكون فيها أصلاً .
لكنّ الظاهر أنّ تلك الإضافات والزوائد لا تكون جزءاً للقرآن ، وإطلاق «التنزيل» عليها لا يدلّ على كونها من القرآن ; لعدم اختصاص هذا الوصف بالقرآن . وكان المعمول به نزول بعض الاُمور بعنوان التوضيح والتفسير للقرآن ، وكان بعض الكتّاب يكتبه مع القرآن من دون علامة ; لكونهم آمنين من الالتباس ، ولأجله حكي أنّ ابن عباس قرأ وأثبت في مصحفه: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربّكم في مواسم الحجّ» (1) .
وحكي عن ابن الجزري أ نّه قال: وربما كانوا يُدخلون التفسير في القراءة إيضاحاً وبياناً ; لأنّهم محقّقون لما تلقَّوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) قرآناً ، فهم آمنون من الالتباس ، وربما كان بعضهم يكتبه معه (2) .
وحينئذ ، فالظاهر أنّ الإضافات الواقعة في مصحف عليّ (عليه السلام) كانت من هذا
- (1) صحيح البخاري: 5 / 186 ، كتاب تفسير القرآن 65 ب 34 ح4519 ، الإتقان في علوم القرآن: 1 / 265 ، النوع 22 ـ 27 .
(2) النشر في القراءات العشر 1 : 32 ، الإتقان في علوم القرآن 1: 266 ، النوع 22ـ 27 .