(الصفحة 94)
وبالجملة: لا ينبغي الارتياب في أنّ اتّصاف الإنسان بالاختيار في أفعاله الإراديّة وصحّة إسنادها إليه ـ لأنّه فاعل مختار ـ من الاُمور البديهيّة عند العقلاء الذين هم الحكّام في باب التقنين ، وجعل الأحكام ، وما يتفرّع عليه من الإطاعة والعصيان ، واستحقاق المدح أو الذمّ ، والجنان أو النيران ، وما هو بمنزلتهما من المثوبات والعقوبات الدنيويّة .
ومع قطع النظر عن جميع ما ذكرنا أنّ العاقل يرى الفرق الواضح بين حركة يد المرتعش ، والحركة الاختياريّة الصادرة من غيره ، ولا يرتاب في المغايرة البيّنة بين سقوط الإنسان من شاهق إلى الأرض قهراً ، وبين إسقاطه نفسه منه إليها اختياراً ، فيرى أنّه مختار في الثانية دون الاُولى ، ويستحقّ الذمّ فيها دونها .
فانقدح أنّ اتّصاف الإنسان بالاختيار ـ الذي هو المصحّح لإسناد الأفعال الاختياريّة الصادرة منه إليه ـ ممّا لا ريب فيه عند العقل والعقلاء ، ولا شكّ فيه عند الوجدان أصلاً .
وأمّا صحّة إسناد هذه الأفعال ـ التي تسند إلى الإنسان حقيقة ـ إلى الله ـ تبارك وتعالى ـ بالإسناد الخالي عن العناية والمسامحة ، فلأنّ واجب الوجود لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد ، لما ثبت في محلّه ـ من العلم الأعلى ـ من أنّ الممكن كما يفتقر في حدوث وجوده وتلبّسه بلباس الوجود إلى العلّة ، كذلك يحتاج في البقاء والاستمرار إليها ; لأنّ الافتقار والحاجة من لوازم ذات الممكن وماهيّته ، قال الله تبارك وتعالى :
(يَـأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَآءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ ) (1) .
وقال الشاعر الفارسي:
(الصفحة 95)
سيه روئى ز ممكن در دو عالم *** جدا هرگز نشد و الله أعلم(1)
فمثل الموجودات الممكنة إلى خالقها وبارئها ليس كمثل البناء والكتاب إلى البنّاء والكاتب ، حيث لا حاجة في بقائهما إلى بقاء صانعهما ، أو مثل الولد إلى والده ، حيث يستغني الولد في بقائه عن بقاء والده ، بل مثلها إليه ـ تبارك وتعالى ـ مثل شعاع الشمس ونورها إليها ; فإنّه يحتاج إليها حدوثاً وبقاءً ، كما أنّ نور الوجود لايعقل بقاؤه بدون علّته الواجبة ، وكذا مثل الضوء بالإضافة إلى القوّة الكهربائيّة المؤثِّرة في إيجاده ; فإنّه لا يزال يفتقر في بقائه إلى الاستمداد من تلك القوّة ، كما أنّه كان في حدوثه محتاجاً إلى اتّصال سلكه بمصدر تلك القوّة .
وبالجملة: من البديهيّات الواضحة الثابتة في العلم الأعلى ، أنّ الممكن كما أنّه يحتاج حدوثاً إلى إفاضة الوجود عليه من المبدع الأوّل ، كذلك يفتقر في بقائه إلى الاستمداد منه واتّصاله بالمبدإ الأعلى ، بل قد ثبت في ذلك العلم أنّ الممكن ليس شيئاً له الارتباط الذي مرجعه إلى وصف زائد على حقيقته ، بل ذاته عين الربط ، وحقيقته محض الاتّصال ، فكيف يعقل حينئذ غناؤه وخلوّه عن الربط الذي هو ذاته وحقيقته؟! .
إذا عرفت ذلك; يظهر لك صحّة إسناد الأفعال الاختياريّة الصادرة من الممكنات إلى خالقها أيضاً ; ضرورة أنّه من جملة مبادئ الفعل الاختياري الذي هو الركن العظيم في صدوره وتحقّقه ، هو نفس وجود الفاعل ، بداهة أنّه مع عدمه لايعقل صدور فعل اختياريّ منه ، فوجوده أوّل المبادئوأساس المقدّمات .
ومن المعلوم أنّ هذه المقدّمة خارجة عن دائرة قدرة الفاعل واختيار الإنسان ; ضرورة أنّه يكون باختيار العلّة المؤثِّرة التي يحتاج إليها الإنسان حدوثاً وبقاءً ،
- (1) الحكمة المتعالية في الأسفار الأربعة ، الجزء الأوّل من السفر الأوّل : 69 .
(الصفحة 96)
فالفعل الاختياري الصادر من الإنسان بما أنّ بعض مبادئه خارج عن تحت قدرته واختياره ، بل يكون باختيار العلّة الموجدة يصحّ إسناده إليها .
وبما أنّ بعض مبادئه ـ كالإرادة الحاصلة بخلاّقيّة النفس وإفاضتها التي هي أيضاً عناية من العلّة صاحبة المشيئة والإرادة ، وإفاضة حاصلة من ناحيتها ، وعطيّة واصلة من جانبها ، ومظهر للخلاّقيّة الموجودة فيها ـ باختياره وإرادته يصحّ إسناده إلى نفسه ; ضرورة أنّ صحّة الإسناد لا تلازم الاستقلال ; فإنّ مرجع وصف الاستقلال ـ بمعناه الحقيقي ـ إلى أن يكون سدّ جميع الأعدام الممكنة ، حتّى العدم الجائي من قبل عدم الفاعل باختياره وإرادته ، مع أنّا فرضنا عدم ثبوت الاستقلال بهذا المعنى ; لأنّ وجود الفاعل ـ الذي قد عرفت أنّه الركن العظيم في صدور الفعل الاختياري ـ خارج عن حريم اختياره ، لكن هذا الأمر ينافي الاستقلال ، لا صحّة الإسناد إلى الفاعل المختار .
والظاهر وقوع الخلط بين هذين العنوانين بحيث توهّم أنّ صحّة الإسناد إلى الفاعل ملازمة لاختصاص الإسناد به ، الذي مرجعه إلى استقلاله في صدور الفعل ، مع أنّ الغرض مجرّد صحّة الإسناد بنحو الحقيقة .
وبعبارة اُخرى: المقصود إثبات الإسناد إليه فقط ، لا نفي إسناده إلى غيره أيضاً .
فانقدح ممّا ذكرنا أنّ الفعل الاختياري الصادر عن الإنسان ، كما أنّه منسوب إلى فاعله ومريده ، كذلك منسوب إلى الواجب الذي هو العلّة الموجدة للفاعل ، وهو يحتاج إليها حدوثاً وبقاءً ، وهذا هو الأمر بين الأمرين (1) ، والطريقة الوسطى
- (1) الكافي : 1 / 155 ـ 160 ، كتاب التوحيد ، باب الجبر والقدر والأمر بين الأمرين ، بحار الأنوار: 4 / 197 عن الصادق (عليه السلام) .
(الصفحة 97)
المأخوذة من إرشادات أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين ، والأمران هما: التفويض الذي مرجعه إلى استقلال الممكن في أفعاله ، والقائل به أخرج الممكن عن حدّه إلى حدّ الواجب بالذات فهو مشرك ، والجبر الذي مرجعه إلى سلب التأثير عن الممكن ، ومزاولته ـ تعالى ـ للأفعال والآثار مباشرة من دون واسطة ، والقائل به حطّ الواجب عن علوّ مقامه إلى حدود الممكن ، فهو كافر ، ولقد سمّى مولانا الرضا ـ عليه آلاف التحيّة والثناء ـ على رواية الصدوق في العيون ـ القائل بالجبر كافراً ، والقائل بالتفويض مشركاً(1) .
إذن فلا محيص عن القول بالأمر بين الأمرين ، الذي هو الطريقة الوسطى لمن كان على دين الإسلام الحنيف ، وإليه يرشد قول الله ـ تبارك وتعالى ـ في بعض المواضع من كتابه العزيز : (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللَّهَ رَمَى) (2) .
فأثبت الرمي من حيث نفاه ، ومرجعه إلى صدور الرمي اختياراً من النبيّ (صلى الله عليه وآله) وعدم استقلاله في ذلك .
وكقوله ـ تعالى ـ في الآية التي هي محلّ البحث: (وَ مَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ) (3); فإنّ مفادها ثبوت المشيئة لله من حيث كونها لهم ، فمشيئة الممكن ظهور مشيئة الله ، وعين الارتباط والتعلّق بها ، وبذلك ظهر الجواب عن إشكال المناقضة المتقدّم ، ولكن لتوضيح ما ذكرنا ينبغي إيراد أمثلة .
فنقول: منها: أ نّ الأفعال الصادرة من الإنسان بسبب اليد والرجل والسمع والبصر وغيرها من الأعضاء تصحّ نسبتها إلى نفس تلك الأعضاء ، فيقال: رأت العين وسمعت الاُذن ، وضربت اليد ، وتحرّكت الرجل مثلاً ، وأيضاً تصحّ نسبتها إلى النفس الإنسانيّة التي هي المنشأ لصدور كلّ فعل ، وهي التي يعبَّر عنها بـ «أنا»
- (1) عيون أخبار الرضا (عليه السلام) 1: 124 ب 11 ح 17 ، وعنه بحار الأنوار: 25 / 328 ح3 .
(2) سورة الأنفال 8 : 17 .
(3) سورة الإنسان 76 : 30 .
(الصفحة 98)
فيقال: رأيت وسمعت ، وضربت ، وتحرّكت ونحوها ، ومثل الموجودات الممكنة إلى بارئها وخالقها ـ والمثال يقرب من وجه ـ مثل تلك الأعضاء إلى النفس .
ومنها : النور الحاصل في الجدار ، المنعكس من المرآة الواقعة في محاذاة الشمس وإشراقها ; فإنّ هذا النور كما أنّه يرتبط بالشمس ; لأنّ المرآة ليس لها بذاتها نور ; لعدم نور لها ، كذلك ليس من الشمس المطلق; أي من دون وسط وقيد ، بل هو نور شمس المرآة ، فيصحّ انتسابه إلى كلّ واحد منهما ; لدخالته في تحقّقه ، وارتباطه بكلّ واحد .
ومنها: ما فرضه بعض الأعلام من أنّه لو كان إنسان يده شلاّء لا يستطيع تحريكها بنفسه ، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إراديّة وقتيّة بواسطة قوّة الكهرباء ، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك المشتمل على تلك القوّة ، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده ومباشرة الأعمال بها ، فلا شبهة في أنّ هذا التحريك من الأمر بين الأمرين ; لأنّه لا يكون مستنداً إلى الرجل مستقلاًّ ; لعدم القدرة عليه بدون إيصال القوّة إلى يده ، ولا يكون مستنداً إلى الطبيب مستقلاًّ ; لأنّ صدوره كان من الرجل بإرادته واختياره ، فالفاعل لم يجبر على فعله ; لأنّه مريد له ، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه ; لأنّ المدد من غيره ، والأفعال الصادرة من الفاعلين المختارين كلّها من هذا القبيل(1) .
وقد انقدح ـ بحمد الله ـ ممّا ذكرنا مع إجماله واختصاره بطلان مسلكي الجبر والتفويض ، وأ نّ غاية ما يقتضيه التحقيق الفلسفي هو ما أرشدنا إليه الأ ئـمّة المعصومون ـ صلوات الله عليهم أجمعين ـ من ثبوت الأمر بين الأمرين ، وصحّة إسناد الأفعال الاختياريّة إلى الإنسان وإلى موجده ، والملاك في صحّة
- (1) البيان في تفسير القرآن : 89 ، أوهام حول إعجاز القرآن .