وما يستفاد من كلامه قدسسره في جواب المشهور أنّه مرّ مراراً أنّ خصوصيّةالموضوع له مساوق مع وجوده وجزئيّته، فلا محالة يكون الموضوع له فيالحروف جزئيّاً. ثمّ يُسأل بأنّه هل المراد من الجزئي الجزئي الخارجي أوالذهني؟ ولا ثالث له، ولا شكّ في أنّهما متباينان لا يجتمعان ولا يرتفعان، وليمكن أن يكون الوجود بدونهما ولا معهما.
إخبار صحيح حتّى مع عدم علم المتكلّم من زمان السير وانتهائه، وهذا دليلعلى أنّه لا دخل للجزئيّة الخارجيّة في المعاني الحرفيّة؛ إذ الموضوع له فيهكالوضع يكون كلّيّاً.
إن قلت: إنّ المراد من الجزئيّة هي الجزئيّة الذهنيّة، بأنّ كلمة «من» وضعتللابتداء الذي لُوحظ وصفاً وآلة للغير، ولعلّ هذا المعنى يستفاد من كلامالنحويّين في مقام تعريف الحرف، من أنّه كلمة تدلّ على معنى في غيره.
قلنا: وفي هذا المعنى إشكالات متعدّدة:
منها: أنّ المولى إن قال: «سر من البصرة إلى الكوفة» فلا شكّ في أنّه قابلٌللامتثال أوّلاً، والامتثال يكون بالسير الخارجي ثانياً، فعلى هذا يكونالامتثال مبايناً للمأمور به؛ إذ المأمور به مقيّدٌ بالأمر الذهني، والامتثال بالسيريتحقّق بالأمر الخارجي، وبينهما بون بعيد.
ومنها: أنّ اللحاظ لو كان موجباً للجزئيّة فلِمَ لا يكون موجباً لها فيالأسماء، فإنّ معنى الابتداء عبارة عن الابتداء الذي لوحظ مستقلاًّ، ولازم ذلكأن يكون المعنى في الأسماء أيضاً جزئيّاً.
ومنها: أنّ تحقّق الاستعمال يحتاج إلى لحاظين ـ يعني لحاظ اللّفظ والمعنى فإنّه عمل إرادي، وكلّ عمل إرادي مسبوقٌ باللحاظ، ولكن بلحاظ كونهوصفاً إضافيّاً يحتاج إلى تصوّر اللفظ، إلاّ أنّ هذا التصوّر لكثرة اُنس الذهنبالألفاظ والمعاني كان سريع التحقّق وبلا التفات إليه.
إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: إنّ في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة»تتحقّق معاني اسميّة وحرفيّة، ولا نشكّ في أنّ المعاني الاسميّة ـ كالبصرة،والكوفة، والسير ـ تحتاج إلى لحاظين، ولكن في كلمة «من» و«إلى» مع أنّهما
(صفحه138)
لا يحتاجان في الواقع إلى الأزيد من لحاظين، ولكن إن قلنا: بمدخليّةخصوصيّة ذهنيّة في معناهما فلابدّ من لحاظ ثالث فيهما، فإنّ معنى «من»عبارة عن الابتداء الذي لوحظ آلةً للغير.
والحاصل: أنّ استعمال كلمة «من» يحتاج إلى لحاظ اللفظ أوّلاً، وإلى لحاظالابتداء آلةً للغير ثانياً، وإلى لحاظ مجموع القيد والمقيّد بعنوان المعنى ثالثاً،ويعبّر عن الثاني باللحاظ الآلي، وعن الثالث باللّحاظ الاستعمالي، مع أنّالوجدان يأباه.
إن توهّم أنّ اللحاظ الثاني كافٍ ولا نحتاج إلى اللحاظ الثالث، قلنا: إنّلازم ذلك تقدّم الشيء على نفسه، فإنّ اللحاظ في المعاني الحرفيّة اُخذ قيدللمعنى، وهو مقدّمٌ على الاستعمال من حيث الرتبة، واللحاظ الاستعماليمتأخّرٌ عن المعنى.
والحاصل: أنّ المعاني الحرفيّة لم تكن جزئيّة، بلا فرق بين الجزئيّةالخارجيّة والذهنيّة، بل هي متّحدة مع المعاني الاسميّة في جميع المراحل الثلاثة.
إن قلت: فعلى هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ويلزم أنيكون مثل كلمة «من» و «الابتداء» مترادفين، وصحّة استعمال كلّ منهمموضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها.
قلنا: إنّ هذا باطل كما هو واضح.
وما قاله صاحب الكفاية قدسسره فيه احتمالات، والمهّم منها احتمالان:
الأوّل: أنّ الواضع حين وضع كلمة «الابتداء» لاحظ مفهوماً كلّيّاً بما أنّهمفهوم كلّي الابتداء، ثمّ وضع لفظ «الابتداء» ولفظ «من» لهذا المفهومواستعملهما فيه، والفرق بينهما في شرط الوضع كالشرط في باب المعاملات؛