(صفحه 137)
إخبار صحيح حتّى مع عدم علم المتكلّم من زمان السير وانتهائه، وهذا دليلعلى أنّه لا دخل للجزئيّة الخارجيّة في المعاني الحرفيّة؛ إذ الموضوع له فيهكالوضع يكون كلّيّاً.
إن قلت: إنّ المراد من الجزئيّة هي الجزئيّة الذهنيّة، بأنّ كلمة «من» وضعتللابتداء الذي لُوحظ وصفاً وآلة للغير، ولعلّ هذا المعنى يستفاد من كلامالنحويّين في مقام تعريف الحرف، من أنّه كلمة تدلّ على معنى في غيره.
قلنا: وفي هذا المعنى إشكالات متعدّدة:
منها: أنّ المولى إن قال: «سر من البصرة إلى الكوفة» فلا شكّ في أنّه قابلٌللامتثال أوّلاً، والامتثال يكون بالسير الخارجي ثانياً، فعلى هذا يكونالامتثال مبايناً للمأمور به؛ إذ المأمور به مقيّدٌ بالأمر الذهني، والامتثال بالسيريتحقّق بالأمر الخارجي، وبينهما بون بعيد.
ومنها: أنّ اللحاظ لو كان موجباً للجزئيّة فلِمَ لا يكون موجباً لها فيالأسماء، فإنّ معنى الابتداء عبارة عن الابتداء الذي لوحظ مستقلاًّ، ولازم ذلكأن يكون المعنى في الأسماء أيضاً جزئيّاً.
ومنها: أنّ تحقّق الاستعمال يحتاج إلى لحاظين ـ يعني لحاظ اللّفظ والمعنى فإنّه عمل إرادي، وكلّ عمل إرادي مسبوقٌ باللحاظ، ولكن بلحاظ كونهوصفاً إضافيّاً يحتاج إلى تصوّر اللفظ، إلاّ أنّ هذا التصوّر لكثرة اُنس الذهنبالألفاظ والمعاني كان سريع التحقّق وبلا التفات إليه.
إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: إنّ في جملة «سرت من البصرة إلى الكوفة»تتحقّق معاني اسميّة وحرفيّة، ولا نشكّ في أنّ المعاني الاسميّة ـ كالبصرة،والكوفة، والسير ـ تحتاج إلى لحاظين، ولكن في كلمة «من» و«إلى» مع أنّهما
(صفحه138)
لا يحتاجان في الواقع إلى الأزيد من لحاظين، ولكن إن قلنا: بمدخليّةخصوصيّة ذهنيّة في معناهما فلابدّ من لحاظ ثالث فيهما، فإنّ معنى «من»عبارة عن الابتداء الذي لوحظ آلةً للغير.
والحاصل: أنّ استعمال كلمة «من» يحتاج إلى لحاظ اللفظ أوّلاً، وإلى لحاظالابتداء آلةً للغير ثانياً، وإلى لحاظ مجموع القيد والمقيّد بعنوان المعنى ثالثاً،ويعبّر عن الثاني باللحاظ الآلي، وعن الثالث باللّحاظ الاستعمالي، مع أنّالوجدان يأباه.
إن توهّم أنّ اللحاظ الثاني كافٍ ولا نحتاج إلى اللحاظ الثالث، قلنا: إنّلازم ذلك تقدّم الشيء على نفسه، فإنّ اللحاظ في المعاني الحرفيّة اُخذ قيدللمعنى، وهو مقدّمٌ على الاستعمال من حيث الرتبة، واللحاظ الاستعماليمتأخّرٌ عن المعنى.
والحاصل: أنّ المعاني الحرفيّة لم تكن جزئيّة، بلا فرق بين الجزئيّةالخارجيّة والذهنيّة، بل هي متّحدة مع المعاني الاسميّة في جميع المراحل الثلاثة.
إن قلت: فعلى هذا لم يبق فرق بين الاسم والحرف في المعنى، ويلزم أنيكون مثل كلمة «من» و «الابتداء» مترادفين، وصحّة استعمال كلّ منهمموضع الآخر، وهكذا سائر الحروف مع الأسماء الموضوعة لمعانيها.
قلنا: إنّ هذا باطل كما هو واضح.
وما قاله صاحب الكفاية قدسسره فيه احتمالات، والمهّم منها احتمالان:
الأوّل: أنّ الواضع حين وضع كلمة «الابتداء» لاحظ مفهوماً كلّيّاً بما أنّهمفهوم كلّي الابتداء، ثمّ وضع لفظ «الابتداء» ولفظ «من» لهذا المفهومواستعملهما فيه، والفرق بينهما في شرط الوضع كالشرط في باب المعاملات؛
(صفحه 139)
إذ الواضع في مقام الوضع اشترط أنّ صحّة استعمال كلمة «من» في هذا المفهومالكلّي مشروطٌ بلحاظه آلة للغير، وصحّة استعمال كلمة «الابتداء» فيهمشروطٌ بلحاظه مستقلاًّ.
ولكن هذا الاحتمال مخدوشٌ من جهات: الاُولى: أنّه لا دليل لنا لوجود هذالشرط مع خلوّ كُتب اللغة عنه.
الثانية: أنّه على فرض وجوده لا دليل يدلّ على وجوب اتّباعه، فإنّ كوناللّه تعالى واضعاً غير معلوم، وأمّا لزوم اتّباع الشرط في المعاملة فتكون لتعهّدالمتعاملين أوّلاً، ولقوله صلىاللهعليهوآله : «المؤمنون عند شروطهم»(1) ثانياً.
وأمّا في باب الوضع مع فقدان المستعمل حين الوضع فلا دليل على لزوماتّباعه.
الثالثة: على فرض وجود هذا الشرط حين الوضع ولزوم اتّباعه فهذالتزام في التزام، ومطلوب في ضمن مطلوب آخر، وتخلّف الالتزام الثانيلا يوجب بطلان الالتزام الأوّل، كما أنّ تخلّف الشرط في المعاملة لا يوجببطلان المعاملة، بل يوجب الخيار كما هو واضح، مع أنّ استعمال كلمة «من»بدل كلمة «الابتداء» وبالعكس باطل بلا إشكال.
الثاني: أنّ الواضع لاحظ المفاهيم في مقام الوضع ورأى بينها اختلافاً منحيث الأصالة والتبعيّة، فإنّ مفهوم الإنسان ـ مثلاً ـ كان من المفاهيم الأصيلةغير الآليّة، فوضع لفظ الإنسان له بعنوان الوضع العامّ والموضوع له العامّ،بخلاف مفهوم الابتداء فإنّ الواضع رأى أنّ فيه يتحقّق نوعان من اللحاظ،وكلاهما مورد الاحتياج حين الاستعمال من حيث الاستقلاليّة والآليّة، فوضع
- (1) بحار الأنوار 75: 96، الحديث 18.
(صفحه140)
لفظ «الابتداء» لهذا المفهوم، ولكنّه في صورة لحاظ المستعمل المفهوم استقلالووضع لفظ «من» لهذا المفهوم، ولكنّه في صورة لحاظ المستعمل المفهوم آلةًووصفاً للغير.
وبعبارة اُخرى: انحصر الواضع وحدّد مورد استعمالهما في هذا المفهوم، وهذالمعنى مناسب لكلامه قدسسره وهو: «الاختلاف بين الاسم والحرف في الوضع يكونموجباً لعدم جواز استعمال أحدهما في موضع الآخر وإن اتّفقا فيما له الوضع».
ولكن يرد عليه ما مرّ إجماله آنفاً، وهو: أنّ استعمال كلمة «أسد» في الرجلالشجاع استعمال مجازي بعلاقة المشابهة، ولا نشكّ في صحّته، مع كونه مباينلما وضع له الأسد، أي الحيوان المفترس.
وأمّا استعمال كلمة «من» في محلّ كلمة «الابتداء» وبالعكس مع أنّهممتّحدان في المراحل الثلاثة ـ أي الوضع والموضوع له والمستعمل فيه ـ فكيفيوجب البطلان؟! ولو أوجب الاختلاف في محدودة الوضع لبطلان الاستعمال،فالاختلاف في الموضوع له بطريق أولى يوجبه، مع أنّه لم يقل به أحد.
والحاصل: أنّ من توجيهه قدسسره لا يعلم دليل بطلان استعمال أحدهما محلّالآخر.
واستشكل عليه أيضاً بأنّ المستفاد من كلامه قدسسره أنّ المعاني الاسميّة مقصودةبالأصالة وبالذات، والمعاني الحرفيّة مقصودة بالتبع، مع أنّا نرى أنّ كلاًّ منهممنقوض في موارد كثيرة، كما في الآية الشريفة: «وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَلَكُمُ الْخَيْطُ الاْءَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الاْءَسْوَدِ»(1)، أي حتّى تعلم، والتبيّن ههنطريق وآلة للعلم بالفجر ولا يكون مقصوداً بالأصالة، والأصالة والاستقلال
(صفحه 141)
تكون لذي الطريق، مع كون التبيّن من المعاني الاسميّة. ولا يخفى أنّ المراد منالمعاني الاسمّية ههنا ما يقابل المعاني الحرفيّة، فتشمل الفعل أيضاً.
ولكن هذا الإشكال مدفوع بأنّ الموضوعيّة والأصالة ههنا تكون للتبيّن،فتبيّن الفجر ملاك الحكم بالامساك عن الأكل والشرب، لا أنّه طريق لتحقّقالملاك وهو الفجر، وذو الطريق بيان له، وعبارة اُخرى عنه؛ إذ لا معنى للفجربدون التبيّن كما قال به اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّه على فرض كون التبيّن طريقاً للفجر لا يلزم أن يكون معناهأيضاً طريقيّاً، بل لوحظ معناه استقلاليّاً، كما في جملة: «إذا قطعت بحياة ولدكفتصدّق»، فإنّ كلمة «قطعت» من حيث المعنى لوحظت مستقلّة وإن كانت منحيث المتعلّق طريقاً إلى وجوب التصدّق، وهكذا فوقوع القطع الطريقيموضوعاً للحكم دليلٌ على أنّه لوحظ مستقلاًّ حين الاستعمال، فالتبيّن وإنكان دخله في الحكم طريقيّاً إلاّ أنّه في مقام الاستعمال لوحظ مستقلاًّ.
وأشكل أيضاً بأنّ المعاني الحرفيّة أيضاً تكون مقصودة بالإفادة في كثير منالموارد، كما في جملة: «زيدٌ قائمٌ»؛ إذ المقصود من هذه الجملة الإخبار عنالنسبة الموجودة بين الموضوع والمحمول، مع أنّها من المعاني الحرفيّة، وكما إذكان ذات الموضوع والمحمول معلومين عند شخص ولكنّه جاهل بخصوصيّتهمفيسأل عنها.
مثلاً: إذا كان مجيء زيد معلوماً، ولكن كانت كيفيّة مجيئه مجهولة عنده منحيث المعيّة والوحدة، فيسئل عنها، ثمّ يقال له: أنّه جاء مع عمرو، فالمنظوروالملحوظ بالاستقلال في الإفادة والاستفادة إنّما هو هذه الخصوصيّة التي هيمن المعاني الحرفيّة، بل الغالب في موارد الإفادة والاستفادة عند العرف النظر