(صفحه 293)
فيكون التتبّع الكامل ودقّة النظر والإحاطة بجميع ألفاظ العبادات للإنسانالواحد محالاً عاديّاً، فهذا ادّعاء عظيم وغير معقول عند العقلاء.
وثانياً: بأنّ من الآيات الكريمة ما وردت في الكتاب وكانت في مقام البيان،مثل آية الوضوء والتيمّم، نحو قوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوآاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَىالصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(1)، ونحو قوله تعالى:«فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم»(2)، فإذا شكّ في جزئيّةشيء فيهما فلا مانع من التمسّك بإطلاق هذه الآيات، وهكذا في آية الصومكقوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ»(3)، فلوشككنا في اعتبار شي غير ما ذكر في الآيات ـ كالكفّ عن الارتماس في الماءفيها ـ فلا مانع من التمسّك بإطلاقها على عدم اعتباره، كما أنّه لا مانع منالتمسّك بإطلاق «أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ» في باب المعاملات عند الشكّ في اعتبارشيء فيها.
هذا، مضافاً إلى ما في السنّة والأخبار من الروايات المطلقة الواردة في مقامالبيان.
واُورد على هذه الثمرة أيضاً: أنّ الأعمّي كالصحيحي في عدم إمكانتمسّكهم بالإطلاق عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته، فإنّ النزاع بينالصحيحي والأعمّي إنّما هو في مقام التسمية والوضع، وأمّا الثمرة المذكورة فإنّمهي مربوطة بمقام تعلّق الأمر والتكليف بالمأمور به، فلا إشكال ولا خلاف فيأنّ متعلّق الأمر هو عبارة عن الصلاة الصحيحة عند الصحيحي والأعمّي؛ إذ
(صفحه294)
الشارع لا يأمر بالصلاة الفاسدة، ولا بما هو الجامع بينه وبين الصحيح قطعاً.
والحاصل: أنّ في مرحلة النزاع بينهما لا محلّ للتمسّك بالإطلاق، وفيمرحلة تحقّق الإطلاق لا نزاع بينهما في أنّ المأمور به هي الصلاة الصحيحة،وفي هذه المرحلة لا يجوز التمسّك بالإطلاق على كلا القولين فلا ثمرة في البين.
وجوابه يحتاج إلى الدقّة والتأمّل، فإنّ المأمور به على كلا القولين وإن كانهو الصلاة الواجدة لجميع الأجزاء والشرائط فلا فرق بينهما من هذه الناحية،إلاّ أنّ الاختلاف بينهما في أنّ صدق اللفظ على الفاقد لجزء المشكوك معلومعند الأعمّي وغير معلوم عند الصحيحي.
توضيح ذلك: أنّ القائل بالصحيح يدّعي أنّ ماهيّة الصلاة ومفهومها، ما فيقوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» عبارة عن معنى لا ينطبق إلاّ على الأفرادالصحيحة والواجدة لجميع الأجزاء والشرائط، فإذا شكّ في جزئيّة شيءـ كالسورة للصلاة ـ فلا يجوز له التمسّك بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»؛ إذ الشكّفي الجزئيّة مساوق للشكّ في صدق عنوان الصلاة، فلا معنى للتمسّك به فيالشكّ في المصداق.
وأمّا القائل بالأعمّ فيدّعي أنّ لفظ «الصلاة» وضع للأعمّ من الصحيحةوالفاسدة، ولكنّ المراد من الصلاة في قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» هو الصلاةالصحيحة، ولا يخفى أنّه لم يلتزم بمجازيّة استعمال ألفاظ العبادات في تلكالموارد، بأنّ استعمال لفظ الموضوع للعامّ أو المطلق في الخاصّ أو المقيّد مجازُ،كما أنّه لم يلتزم أحد بحذف وصف الصحيحة في الموارد التي ذكر فيها كلمةالصلاة فإنّه ممّا لم يلتزم به العالم فضلاً عن الفاضل، بل الظاهر أنّ المتكلّم إذقال: «اعتق رقبة» ثمّ قال: «لا تعتق الرقبة الكافرة» تحقّقت هنا إرادة استعماليّةوإرادة جدّيّة، ولا شكّ في أنّ الإرادة الاستعماليّة تعلّقت بمطلق الرقبة بعنوان
(صفحه 295)
بيان حكم كلّي، فإن لم يتحقّق دليل المقيّد كانت الإرادة الجدّيّة تابعة للإرادةالاستعماليّة، وإنّ تحقّق فيوجب التضييق في دائرة الإرادة الجدّيّة، ولا يُوجبالتجوّز أو التضييق في المطلق والإرادة الاستعماليّة، كما قال به صاحبالكفاية قدسسره في باب العامّ والخاصّ.
فالصحيحي في مقام تصوير الجامع يقول: إنّ الصلاة وضعت للأركانـ مثلاً ـ فيكون معنى قوله تعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» أقيموا هذه الأركانالخمسة، سواء تحقّقت بقية الأجزاء أم لا، فهو مطلق من هذه الحيثيّة، فإذشكّ في جزئيّة شيء يتمسّك لنفيها بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» إذا لم يكنالمشكوك محتمل الركنيّة؛ إذ الصلاة الفاقدة للسورة ـ مثلاً ـ بلحاظ واجديّتهللأركان يصدق عليها لفظ الصلاة قطعاً. وبالنتيجة يحكم قوله تعالى: «أَقِيمُواْالصَّلَوةَ» بإتيان الأركان بلحاظ الإرادة الاستعماليّة، وأمّا الأدلّة المقيّدة، مثل:«لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»(1)؛ و«لا صلاة إلاّ بطهور»(2) وأمثال ذلك، فتوجبالتقييد والتضييق في الإرادة الجدّيّة فقط، ولا دليل على التمسّك لجزئية السورةبعدم اعتبارها بإطلاق «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»، وهذا معنى كون المأمور به صحيحعند الأعمّي، فيترتّب على البحث الصحيحي والأعمّي ثمرة مهمّة.
أدلّة القولين
إذا عرفت مقدّمات البحث وثمراته فلنبدأ في ذكر أدلّة القولين:
فقد استدلّ المحقّق الخراساني قدسسره (3) للقول بالصحيح بوجوه: منها: التبادر،
- (1) المستدرك 4: 158، الباب 1 من أبواب القراءة في الصلاة، الحديث 5.
- (2) الوسائل 1: 365، الباب 1 من أبواب الوضوء، الحديث 1.
- (3) كفاية الاُصول 1: 43 ـ 45.
(صفحه296)
وقال: «إنّ المنسبق إلى الأذهان من ألفاظ العبادات هو الصحيح، ومعلوم أنّهمن علائم الحقيقة، بل لعلّه كان علامة وحيدة لها».
ثمّ استشكل عليه بأنّه كيف تصحّ دعوى تبادر الصحيح من ألفاظالعبادات مع ما تقدّم في مقام تصوير الجامع على هذا القول من أنّ الجامع لطريق للعلم به؟! إلاّ أنّه قابل للإشارة إليه من طريق الآثار كالناهي عنالفحشاء وما هو معراج المؤمن وأمثال ذلك، فالجمع بين تبادر الصحيح منهوبين عدم العلم بالجامع بعينه جمع بين المتناقضين لمنافاة التبادر مع إجمالالمعنى.
وقال قدسسره في مقام الجواب عنه: إنّ المنافاة بينهما إنّما تتحقّق فيما إذا كان المجملمجملاً من جميع الجهات، وأمّا إذا كان مجملاً من جهة ومبيّناً من جهة اُخرىـ مثل منشأيّتها للآثار كالمعراجيّة وغيرها ـ فيكفي ذلك في صحّة دعوىالتبادر. نعم، يتوجّه هذا الإشكال إلى الأعمّي، فإنّه لو ادّعى التبادر علىمدّعاه بعد كون الجوامع المتصوّرة عندهم جميعاً مخدوشة، فيستشكل عليهبأنّ الجامع إذا لم يكن مبيّناً لا بالذات ولا بالآثار كيف يتبادر إلى الأذهان؟!هذا محصّل كلامه قدسسره .
ولكن أشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) وإشكاله يبتني علىمقدّمتين:
الاُولى: في أنّ الماهيّات في وعاء تقرّرها متقدّمة على الوجود، ولا يكونوعاء تقررها في عرض تحقّق الوجود، بل هي بعنوان الموصوف متقدّمة منحيث الرتبة على الوجود، ويشهد له قولهم: بأنّ الماهيّة من حيث هي ليست
- (1) تهذيب الاُصول 1: 82 ـ 84 .
(صفحه 297)
إلاّ هي، لا موجودة ولا معدومة، يعني: لا ارتباط بينها وبين الوجود والعدمفي وعاء تقرّرها، بل الوجود والعدم يعرضان لها بعنوان الوصف. ولذا يقال:الماهيّة قد تكون موجودة وقد تكون معدومة، أو يقال: الماهيّة موجودة، وليقال: الوجود ماهيّة، فالماهيّة متقدّمة على الوجود كتقدّم الجسم علىالأعراض، فكما أنّ لوازم الماهيّة متأخّرة عنها نحو تأخّر الزوجيّة عنالأربعة، فكذلك الوجود متأخّر عنها، بل تأخّره أظهر منه؛ لأنّه قابلللانفكاك عنها بخلاف لوازمها، وهكذا هي متقدّمة على لوازم الوجودبمرتبتين؛ لتوسّط الوجود بينها وبين لوازم الوجود، كما هو المعلوم.
المقدّمة الثانية: في أنّ الانتقال من شيء إلى شيء آخر يحتاج إلى العلّةوالدليل، فلا يمكن الانتقال إلى ماهيّة الإنسان من الحجر. نعم، يصحّ الانتقالمن ماهيّة الأربعة إلى لازمها ـ أي الزوجيّة ـ لشدّة الاُنس والارتباط بينهما،وأمّا الانتقال من العلّة إلى المعلول أو بالعكس في برهان الإنّ واللِمّ فهومربوط بالوجود، فإنّا نستكشف وجود المعلول من وجود العلّة أو بالعكس؛إذ المشكوك هو الوجود لا الماهيّة، فالانتقال إلى الماهيّة يحتاج إلى الدليل، وليخفى أنّ التبادر مربوط بعالم الماهيّة، فإنّ ألفاظ العبادات كأسماء الأجناسوضعت للماهيات، فلا دخل لها في عالم الوجود، فنستكشف بواسطة التبادرـ كمراجعة الكتب اللغويّة ـ أنّ الألفاظ لأيّ ماهيّة وضعت.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّه لا شكّ في أنّ النهي عن الفحشاء، والمعراجيّةوأمثالهما من لوازم الوجود الخارجي، لا من آثار الماهيّة، فكيف يمكنالانتقال من آثار الوجود الخارجي إلى الماهيّة مع تأخّرها عن الماهيّةالموضوع لها بمرتبتين؟! فلا معنى للانتقال من العرض المفارق ـ أي الوجود ـ