(صفحه 369)
خمراً يتبدّل الشيء من حالة إلى حالة اُخرى، ولا يتبدّل قطعاً من صورة إلىصورة اُخرى، فيصحّ على هذا إطلاق الخلّ على الخمر على نحو الحقيقةبلحاظ كونه في ما مضى خلاًّ، مع أنّه لم يلتزم به أحد.
وثالثاً: أنّه سلّمنا أنّ شيئيّة الشيء بصورته لا بمادته، ولكن لا دخل لهذالكلام في ما نحن فيه، فإنّه لا ينحصر بالجواهر، بل يشمل كلّ موجود حتّىالأعراض، فكما أنّ شيئيّة الجسم بصورته كذلك شيئيّة البياض بصورته، فليصحّ القول بأنّ الجسم اليوم أبيض بلحاظ عروض البياض له في ما مضى،مع أنّه لا كلام في صحّة هذا الإطلاق، وإنّما الكلام في أنّه حقيقة أو مجاز،فكيف يصحّ هذا الإطلاق مع تبدّل الصورة البياضيّة فلا يكون علّة لخروجهذه العناوين عن محلّ النزاع؟! إلاّ أنّ وضعها يكون بكيفيّة خاصّة يعني وضعالواضع لفظ الإنسان لما هو بالفعل إنسان، ولفظ الحجر لما هو بالفعل حجرٌ،فالمسألة لغويّة، ويلزمنا متابعة الوضع والواضع كما مرّ آنفاً.
وأمّا العناوين المنتزعة عن الذات بواسطة أمر خارج عن الذات فهيداخلة في محلّ النزاع، بلا فرق بين أن تكون الواسطة أمراً حقيقيّاً وجوديّـ مثل عنوان الأبيض الذي ينتزع من الذات بواسطة البياضيّة ـ أم تكونالواسطة أمراً حقيقيّاً عدميّاً ـ مثل عنوان العمى الذي ينتزع من الذات بواسطةعدم البصر ـ أم تكون الواسطة أمراً اعتباريّاً من ناحيّة الشرع أو العقلـ كالملكيّة والزوجيّة، وأمثال ذلك ـ أم تكون من العناوين الانتزاعيّةـ كالفوقيّة والتحتيّة ـ فتدخل في محلّ النزاع مثل: «الجسم أبيض» و«زيدأعمى» و«زيد زوج» و«هذا السقف فوق» و«زيد مالك»، وهكذا.
وأمّا العناوين التي تكون لها مصداقان إذا لوحظت بالنسبة إلى أحدهما
(صفحه370)
تكون من العناوين المنتزعة عن الذات، وإذا لوحظت بالنسبة إلى الآخرتكون من العناوين المنتزعة بواسطة أمر خارج عن الذات، مثل عنوانالموجود فإنّه إذا لوحظ بالنسبة إلى واجب الوجود انتزع من الذات، وإذلوحظ بالنسبة إلى ممكن الوجود لم يكن كذلك، وهكذا سائر العناوينالمشتركة بين الواجب والممكن، فلا إشكال في أنّ هذه العناوين داخلة في محلّالنزاع، فإنّ النزاع في المقام ينحصر في هيئة المشتقّ ولا يتوجّه الواضع حينوضع هيئة المفعول أنّه قد تتحقّق في ضمن موجود وكان له فردان.
الحيثيّة الثانية: لا شكّ في أنّ للمشتق النحوي معان كثيرة، فإن قلنا بأنّمبدأ المشتقّات هو المصادر المجرّدة فيشمل عنوان المشتقّ جميع الأفعال واسمالفاعل والمفعول واسم الزمان والمكان والآلة وصيغة المبالغة والمصادر المزيدة،ولكنّ الإشكال في أنّ الأفعال والمصادر خارجة عن محلّ النزاع، فإنّ الفعلوإن كان مشتقّاً إلاّ أنّه لا يتّحد مع الاسم والذات ولا يحمل عليها ولا ينطبقعليها، بل يسند الفعل إليها، ولذا لايصحّ القول بأنّ جملة «زيد ضرب» قضيّةحمليّة، بخلاف «زيدٌ ضاربٌ»؛ لأنّ ملاك القضيّة الحمليّة متحقّق في الثانية دونالاُولى.
وهكذا المصادر المزيدة، فإنّها وإن كانت من المشتقّات قطعاً، ولكنّهخارجة عن محلّ النزاع، فإنّها لاتتّحد مع الذات ولا تنطبق عليها، بل تعرضعليها كعروض البياض على الجسم، فإنّ قول: «زيد إكرامٌ» لا يخلو عنمسامحة.
وهكذا المصادر المجردّة، فإنّ جملة «زيد عدل» ليست قضيّة حمليّة فيالواقع؛ إذ العدل ملكة نفسانيّة عارضة على الذات لا أنّها تتّحد معها، فالنزاع
(صفحه 371)
يجري في كلّ عنوان يتّحد مع الذات وينطبق عليها.
وقال صاحب الفصول قدسسره (1) باختصاص محلّ النزاع باسم الفاعل ومبمعناه، كالمصادر المستعملة بمعنى اسم الفاعل، وكالأسماء المنسوبة مثل: القميوالطهراني والبغدادي وغير ذلك، كما يدل على هذا المعنى تمثيلهم بذلك، وكميدلّ عليه احتجاج الأعمّي بإطلاق اسم الفاعل على الأعمّ دون بقية الأسماء.
والإنصاف أنّ هذين الدليلين في كمال الضعف، فهما غير قابلين للتمسّكبهما، فإنّ التمثيل به والإطلاق في مقام الاستدلال لايدلّ على الانحصار قطعاً.
ولكنّه قدسسره استدلّ لخروج بقية الأسماء بأنّ من أسماء المفعول ما يطلق علىالأعمّ كقولك: هذا مقتول زيد أو مصنوعه أو مكتوبه، ومنها: ما يطلق علىخصوص المتلبّس، نحو: هذا مملوك زيد أو مسكونه أو مقدوره، ولم نقف فيهعلى ضابطة كلّيّة، والمرجع فيه إلى العرف، واسم الزمان حقيقة في الأعمّ، وكذاسم المكان، واسم الآلة حقيقة فيما اُعدّ للآليّة أو اختصّ بها، حصل المبدأ أو لميحصل بعد، وصيغة المبالغة فيما كثر اتّصافه بالمبدأ عرفاً. انتهى كلامه قدسسره .
ومحصّل كلامه أنّه لابدّ من كون المشتقّ في هذه الموارد موضوعاً للأعمّ،فاختلاف مبادئ المشتقّات الموجب لاختلاف أنحاء التلبّسات يوجب خروجماعدا اسم الفاعل وما يلحق به عن حريم النزاع.
وأجاب عنه في الكفاية(2): أوّلاً: بأنّ منشأ زعم بعض الأجلّة توهمّ كونما ذكره لكلّ منها من المعنى ممّا اتّفق عليه الكلّ، مع أنّه ليس في محلّه؛ لعدمتبيّن مفهوم سائر المشتقّات كاسم الفاعل؛ لكونها محلاًّ للخلاف أيضاً.
- (1) الفصول الغرويّة: 59 ـ 60.
- (2) كفاية الاُصول 1: 58 ـ 59.
(صفحه372)
وثانياً: بأنّ اختلاف أنحاء التلبّسات بحسب اختلاف المبادئ لا يوجبتفاوتاً في وضع هيئة المشتقّ، وإن كان يوجب اختلافاً في كيفيّة التلبّس، فإنّالمبدأ إن كان فعليّاً يزول التلبّس به بسرعة كالشرب ـ مثلاً ـ فالتلبّس به هوالاشتغال بالشرب وبانتهائه ينقضي عنه المبدأ، وإن كان ملكة كالاجتهادفالتلبّس به هو بقاء ملكته وإن لم يكن له استنباط فعلي، وإن كان الشأنيّةفالتلبّس به هو بقاء شأنيّته كالمفتاح، فإنّ التلبّس بالمفتاحيّة بقاؤه على الهيئةالمفتاحيّة، وإن كان الصناعة كالخياطة والنجارة ونحوهما فإنّ التلبّس بميتحقّق بالممارسة، ولا تنقضي إلاّ بالإعراض، فيصدق الخيّاط والنجّار والبقّالعلى تاركي هذه المبادئ لا بقصد الإعراض، فاختلاف هذه المبادئ من حيثالفعليّة والشأنيّة، وغيرهما لا يوجب اختلافاً فيما هو المبحوث عنه في المقامـ أعني وضع هيئة المشتقّ ـ فإن قلنا بوضع هيئة المشتقّ لخصوص المتلبّسبالمبدأ، فيكون إطلاق المشتقّ على الذات بعد انقضاء المبدأ الفعلي عنها علىنحو المجازيّة، وإن قلنا بوضعها للأعمّ، فيكون إطلاقه عليها بعد انقضائه علىنحو الحقيقة.
وأمّا قولك: «هذا مقتول زيد» إن كان المراد منه مَن وقع عليه القتل فهوحقيقة على القول بالأخصّ، ومجاز على القول بالأعمّ، وإن كان المراد منه منزهقت روحه بواسطة «زيد» فهو حقيقة على كلا القولين.
والحقّ في المقام بعد الدقّة والتأمّل مع المحقّق الخراساني قدسسره كما لا يخفى،ويدخل أيضاً في محلّ النزاع باب النسبة كالقمي والخراساني والحمّامي وأمثالذلك، فإنّ ملاك البحث ـ أي الاتّحاد والانطباق على الذات ـ موجود فيه،ويدخل أيضاً فيه ما كان جارياً على الذات ومنتزعاً عنها بواسطة أمر خارج
(صفحه 373)
عنها ولو كان جامداً كعنوان الزوج والزوجة والرقّ والحرّ، كما يشهد بهماذكره العلاّمة في القواعد(1) وفخر المحقّقين في الإيضاح(2) في باب الرضاع فيمسألة مَن كانت له زوجتان كبيرتان وزوجة صغيرة وقد أرضعت الكبيرتانالصغيرة. قال صاحب الإيضاح: «تحرم المرضعة الاُولى والصغيرة مع الدخولبالكبيرتين، وأمّا المرضعة الاُخرى ففي تحريمها خلاف، فاختار والديالمصنف رحمهالله وابن إدريس تحريمها؛ لأنّه يصدق عليها اُمّ زوجته؛ لأنّه لا يشترطفي المشتقّ بقاء المشتقّ منه هكذا ههنا»، انتهى.
مع أنّ تقيّد الدخول بالكبيرتين في كلامه لايخلو من مسامحة؛ لأنّملاك الحكم في المسألة هو الدخول بالكبيرة الاُولى كما سنبيّنهإن شاء اللّه تعالى.
ولكنّ التحقيق: أنّ حرمة المرضعة الاُولى والصغيرة ممّا اتّفق عليه الكلّ كميدلّ عليه الإجماع المصرّح به في كلام صاحب الإيضاح والروايات(3) العديدةوالصحيحة، إلاّ أنّه ينبغي ملاحظة المسألة على مقتضى القاعدة الأوليّةوالعناوين الكلّيّة مع قطع النظر عن الإجماع والروايات.
وأمّا الصغيرة فتحرم على الزوج، فإنّ اللبن إذا كان منه فهي بنت له، وإذكان من غيره فهي بنت الزوجة المدخول بها، وكلا العنوانين قد ثبتت حرمتهمفي الكتاب والسنّة، كقوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَـتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَ تُكُمْوَعَمَّـتُكُمْ وَخَــلَـتُكُمْ وَبَنَاتُ الاْءَخِ وَبَنَاتُ الاْءُخْتِ وَأُمَّهَـتُكُمُ الَّـتِىآ أَرْضَعْنَكُمْوَأَخَوَ تُكُم مِّنَ الرَّضَـعَةِ وَأُمَّهَـتُ نِسَآلـءِكُمْ وَرَبَـآلـءِبُكُمُ الَّـتِى فِى حُجُورِكُم
- (3) الوسائل 20: 402، الباب 14 من أبواب ما يحرم بالرضاع.