(صفحه 385)
واعلم أنّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) بعد القول بخروج الأفعال والمصادر المزيدفيها عن حريم النزاع لكونها غير جارية على الذوات ولا تحمل عليها، ذكربالمناسبة أنّه قد اشتهر في ألسنة النحاة دلالة الفعل على الزمان حتّى أخذوالاقتران به في تعريفه وجعلوه فارقاً بينه وبين الاسم، وهو اشتباه.
واُورد على هذا الكلام إشكالات متعدّدة:
منها: أنّ جميع الأفعال لا تقترن بالزمان ولا تدلّ عليه؛ إذ الأمر والنهي معأنّهما من الأفعال لم تؤخذ في معناهما الخصوصيّة الزمانيّة أصلاً، فإنّهما وضعلإنشاء طلب الفعل أو الترك من دون دلالتهما على الزمان، غاية الأمر أنّالإنشاء بهما وقع في الحال، كما هو الحال في الإخبار بالجملة الاسميّة مثل:«زيد قائم» أو بالماضي أو المستقبل، فلا تكون ظرفيّة زمان الحال للإنشاءوالإخبار بالأفعال المذكورة دليلاً على كونه جزءً لمدلولها كما لا يخفى.
ومنها: أنّه يمكن منع دلالة الفعل الماضي والمستقبل على الزمان بالوضعبحيث يكون جزءً لمدلولهما أيضاً، فإنّ الفعل إذا اُسند إلى نفس الزمان، مثل:
مضى الدهر والأيام والذنب حاصل
|
وجاء رسول الموت والقلب غافل
|
لزم تجريد الفعل عن الزمان والالتزام بالمجازيّة؛ إذ الزمان لا يكون في زمانآخر.
وهكذا إذا اُسند إلى المجرّدات مثل: «علم اللّه» و «خلق اللّه»، فإن كانالزمان مأخوذاً في مدلول الفعل فلابدّ من تجريده عنه في هذه الأمثلة، وكوناستعماله فيها مجازاً، مع أنّه لا شكّ في أنّ هذه الاستعمالات حقيقة.
نعم، إذا اُسند إلى الزمانيّات ـ أي ما كان الزمان ظرفاً لوجوده كغالب
- (1) كفاية الاُصول 1: 61 ـ 62.
(صفحه386)
الموجودات ـ فتدلّ على الزمان، لكنّ هذه الدلالة مستندة إلى الإطلاقوالإسناد إلى الزمانيّات، لا إلى الوضع الذي يقول به النحاة.
ثمّ استشهد صاحب الكفاية قدسسره (1) لتأييد هذه المسألة بشاهدين، لكن لنطيل الكلام بذكرهما، بل نذكر متمّماً ومكمّلاً لبيانه، وهو: أنّ الأساس والمحورفي باب الأفعال هي الهيئة لا المادّة ـ مثل شيئيّة الشيء بصورته لا بمادته ـ فقدمرّ أنّ مداليل الهيئات معانٍ حرفيّة، ومعلوم أنّ للمعاني الحرفيّة واقعيّةمتحقّقة، إلاّ أنّ سنخ وجودها مغاير لسنخ وجود سائر الموجودات؛ لأنّالوجودات على أقسام بعضها لا يفتقر في وجوده إلى شيء أصلاً ـ مثل وجودالجوهر ـ وبعضها يفتقر في وجوده إلى شيء واحد ـ مثل وجود العرض وبعضها في أدنى مراتب الوجود؛ إذ يفتقر في وجوده إلى شيئين كالظرفيّة فيجملة «زيد في الدار»، فإنّها تفتقر في وجودها إلى الظرف والمظروف، فكما أنّجملة «الجسم له البياض» حاكية عن الواقعيّة العرضيّة، كذلك جملة «زيد فيالدار» حاكية عن الواقعيّة، وهي المعنى الحرفي، أي كون زيد في الدار، وهوقائم بالطرفين.
وقد سبق أن ذكرنا نكتة في المعاني الحرفيّة، ولا يخلو ذكرها في المقام عنفائدة؛ لدفع ما توهّمه الأعاظم، ومنهم صاحب الكفاية قدسسره فاعلم أنّ المشهورقائل بأنّ الوضع في المعاني الحرفيّة عامّ والموضوع له فيها خاصّ، يعني لاحظالواضع حين الوضع معنى كلّيّاً فوضع اللّفظ لمصاديقه.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره (2) أنّه: إذا كانت الجملة خبريّة مثل: «سرت من
- (2) كفاية الاُصول 1: 13 ـ 14.
(صفحه 387)
البصرة إلى الكوفة» يكون الابتداء باعتبار الحكاية عن الواقعيّة الخارجيّةجزئيّاً، وأمّا إذا كانت الجملة إنشائيّة مثل: «سر من البصرة إلى الكوفة» فليكون الابتداء فيها جزئيّاً، بل هو كلّي باعتبار تعدّد الطريق وتعدّد كيفيّة طيّالطريق، فعلى المشهور أن يفرّق بين الجملتين من حيث عموميّة الموضوع لهوخصوصيّته.
وجوابه: أنّ المراد من الخصوصيّة في كلام المشهور ليست الخصوصيّةالخارجيّة، بل هي خصوصيّة الطرفين اللذين يتقوّم بهما المعنى الحرفي.
وبعبارة اُخرى: أنّ الواضع حين الوضع لاحظ مفهوم الابتداء، وهومستقلّ في عالم المفهوميّة، مثل: استقلال مفهوم البياض والإنسان، إلاّ أنّه إذتحقّق في الخارج يحتاج إلى الطرفين، كالسير والبصرة، فيكون المراد منالخصوصيّة خصوصيّة السير والبصرة، فإنّها غير خصوصيّة السير منطهران، وهكذا.
وأمّا الخصوصيّات الخارجيّة ـ مثل زمان السير وطريق الحركة وأمثالذلك ـ فلا تكون مرادة ولا تدلّ عليها الجملة حتّى الجملة الخبريّة ـ مثلسرتُ من البصرة إلى الكوفة ـ فإنّها حاكية عن الواقعيّة الجزئيّة، وهي تحقّقابتداء السير من البصرة فقط. ومعلوم أنّ الجملة الإنشائيّة ـ مثل: سر منالبصرة إلى الكوفة ـ أيضاً تدلّ على هذه الخصوصيّة، فلا فرق بين الجملتينمن حيث جزئيّة الابتداء أصلاً، فيكون الوضع في المعاني الحرفيّة عامّاً،والموضوع له فيها خاصّاً.
إذا عرفت هذه المقدّمة فنقول: إنّ المادّة في باب الأفعال وضعت للحدثخاليةً عن النسبة والقيد، إلاّ أنّ بعد عروض هيئة من الهيئات عليها يُضاف
(صفحه388)
قيداً ونسبة إليه. وأمّا هيئة الأفعال فوضعت للدلالة على تحقّق الارتباط بينالحدث والفاعل مثل: «ضرب زيدٌ» فإنّ هذه الهيئة وضعت للحكاية عنتحقّق صدور الحدث من الفاعل، وهذا معنى حرفي يحتاج إلى شيئين، فكما أنّجملة «زيدٌ في الدار» حاكية عن الواقعيّة المتقوّمة بالطرفين، كذلك هيئة الفعلحاكية عن الواقعيّة المتقوّمة بالطرفين، يعني صدور الحدث من «زيد» مثلاً.
ولكنّ هيئتا فعل الماضي والمضارع مع اشتراكهما في المادّة والارتباطالصدوري والمعنى الحرفي كانت لها خصوصيّة توجب الافتراق بينهما، وهيعبارة عن التحقّق والانطباق على زمان الماضي في فعل الماضي إذا كان فاعلهزمانيّاً، وعن الترقّب والانطباق على زمان الاستقبال في فعل المضارع إذا كانفاعله كذلك، لكن لا بمعنى وضع اللفظ بإزائهما، بل بمعنى وضع اللفظ لمعنىينطبق عليهما، فيكون مفاد هيئة الفعل مستقلاًّ في عالم المفهوميّة، وأمّا في تحقّقهالخارجي فيحتاج إلى الطرفين كالحروف، إلاّ أنّ وضع مادّة الحروف لا يكونمستقلاًّ في قبال وضع هيئتها، بخلاف الأفعال، فإنّه كان لكلّ من الهيئة والمادّةمنها وضع مستقلّ، ولكن مع ذلك يكون تحصّل المادّة بالهيئة، فيما فهم من فعلالماضي مادّة وهيئة عبارة عن شيء واحد.
ثمّ إنّ اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) قائل بالفرق بين الفعل الماضي المتعدّيواللازم ـ على ما في تقريراته ـ من حيث الوضع؛ بأنّ الارتباط المتحقّق بينالمبدأ والذات في الأوّل ارتباط صدوري، نحو «ضرب زيد» يعني صدرالضرب منه. وأمّا في الثاني حلوليّ بنحو «قام زيد» يعني اتّصف «زيدٌ»بالقيام، وحينئذٍ لابدّ من القول بتعدّد الوضع في فعل الماضي.
- (1) تهذيب الاُصول 1: 108 ـ 109.
(صفحه 389)
ولا يتوهّم أنّ القدر الجامع بينهما موجود، فلا ضرورة بتعدّد الوضع؛ بأنّالواضع وضع اللفظ لكلّي الارتباط، سواء كان صدوريّاً أم حلوليّاً؛ لأنّهمردود؛ إذ كلّي الارتباط يشمل الفعل الماضي المجهول أيضاً، مع أنّ الارتباطفيه وقوعيّ، فلا يكون جامعاً بين خصوص الارتباط الصدوري والحلولي،فلابدّ من تعدّد الوضع فيه وإن كانت الهيئة واحدةً. وأمّا الفعل المضارعفيختلف في الدلالة، فمنه ما يدلّ على المستقبل، ومنه ما يطلق على الحال، مثل:قول القائل: هل تعلم حكم هذه المسألة؟ والجواب: نعم أعلم حكمها، وهكذقوله: هل تقدر على الذهاب إلى المدرسة؟ والجواب: نعم أقدر على ذلك،فاستعمل في هذين المثالين بمعنى الحال، واستعماله في هذا المعنى كثير، ولذا قالالمحقّق النائيني قدسسره : إنّ الفعل المضارع وضع للحال ولا يستعمل في الاستقبال إلبالقرائن، واستدلّ بقوله تعالى: «وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً»(1).
وجوابه: أنّ الآية تدلّ على استعمال الفعل المضارع في الحال، لا أنّهيستعمل فيه مطلقاً، وهو يكون معنى حقيقيّاً له، فلا شكّ في استعمال الفعلالمضارع في الحال والاستقبال بدون القرينة، إنّما الكلام في أنّ اشتراكه بينهمهل يكون معنويّاً أم لفظيّاً، أو يكون في المسألة احتمال ثالث؟ ويستفاد منكلام صاحب الكفاية قدسسره (2) أنّ اشتراكه بينهما يكون معنويّاً، ومن هنا ذكرتأييداً لما ادّعاه من عدم دلالة الفعل على الزمان بقوله: إنّ المضارع يكونمشتركاً معنويّاً بين الحال والاستقبال، ولا معنى له إلاّ أن يكون له خصوصمعنى صحّ انطباقه على كلّ منهما، لا أنّه يدلّ على مفهوم زمان يعمهما مثل