(صفحه 459)
الأمر، كما صرّح به قدسسره آنفاً.
قال المحقّق القمي(1) صاحب القوانين قدسسره : إنّ الاستعلاء عبارة عن تغليظالقول. ومن المعلوم أنّه مساوق للإيجاب والطلب الوجوبي.
ولا يخفى على أحدٍ مغايرة معنى الاستعلاء والإيجاب؛ إذ الإيجابوالاستحباب نوعان من الطلب، وأمّا الاستعلاء فهو الاتّكاء بالعلو ولو لميكن في الواقع عالياً، وهو يتحقّق بعدم تغليظ القول أيضاً. نعم، يمكن أنيكون في بعض الموارد تغليظ القول أمارةً للاستعلاء.
وقال بعض: إنّ أحد الأمرين على سبيل منع الخلو، إمّا علوّ الطالب واقعاً،وإمّا استعلاؤه كافٍ في صدق الأمر، واستدلّ لكفاية الاستعلاء في صدقه بأنّالعقلاء يقبّحون السافل المستعلي الذي يأمر العالي، ويذمّونه بأنّك لِمَ تأمرالعالي؟ فإطلاقهم الأمر على طلب السافل المستعلي يدلّ على كفاية استعلاءالطالب في صدق الأمر وعدم اعتبار العلو الواقعي فيه، وإلاّ يذمّونه بأنّك لِمَتستعلي على العالي.
وجوابه: أنّ التقبيح إنّما هو على استعلائه على العالي لا على أمره حتّىيقال: إنّ التقبيح على هذا الأمر يكشف عن عدم اعتبار العلوّ الواقعي فيصدقه، وإطلاق الأمر على طلبه في مقام توبيخه إنّما هو بحسب مقتضىاستعلائه، فإنّه يعلم أنّ للعلو دخلاً في الأمر، ويعلم أيضاً أنّه فاقدٌ لذلك، فلذيأمر السافل اتّكاءً على العلوّ الادعائي والتخيّلي، فيكون إطلاق الأمر علىطلب المستعلي السافل مجازاً؛ لمناسبته صورة الأمر الحقيقي، فلا يكفيالاستعلاء بدون العلوّ في صدق الأمر.
- (1) قوانين الاُصول 1: 81 .
(صفحه460)
في مفاد الأمر وأنّه خصوص الطلب الوجوبي
الجهة الثالثة
في أنّ مفاد الأمر عبارة عن خصوص الطلب الوجوبي أو أعمّ منه؟
حكى صاحب الكفاية قدسسره (1) أدلّة عن القائلين بالأعمّ وأجابها، والمهمّ منها:أنّ تقسيم الأمر إلى الإيجاب والاستحباب بقولهم: الأمر إمّا للوجوب وإمّللاستحباب يدلّ على كون الموضوع له هو الأعمّ؛ إذ لابدّ في صحّة التقسيممن وجود المقسم في جميع الأقسام، فكما أنّ الأمر يطلق على الطلب الوجوبيعلى نحو الحقيقة كذلك يطلق على الطلب الاستحبابي على نحو الحقيقة.
وجوابه: أنّ التقسيم المذكور لايدلّ على أزيد من استعمال الأمر المقسم فيالمعنى الأعمّ، وأمّا دلالته على المدّعى ـ وهو كون هذا الاستعمال على نحوالحقيقة ـ فممنوعة؛ إذ يمكن أن يكون على سبيل المجاز؛ لعدم الملازمة بين صحّةالاستعمال في معنى وبين كونه على نحو الحقيقة، كما صرّح به المحققّون في مقابلالسيّد المرتضى قدسسره .
ولا يقال: إنّا نتمسّك بأصالة الحقيقة، فإنّ هذا الأصل يجري فيما كان مرادالمتكلّم مشكوكاً، وأمّا إذا كان مراده معلوماً وشككنا في كيفيّة الاستعمال
(صفحه 461)
ـ مثل ما نحن فيه ـ فنقطع بعدم جريانه، ولا أقلّ من الشكّ، وهو يكفي في عدمجريانه؛ إذ لابد من إحراز مورد جريان الأصل العقلائي. كما لا يخفى.
واستدلّ المحقّق الخراساني قدسسره (1) على كون الأمر حقيقةً في خصوص الطلبالوجوبي بأدلّة متعدّدة:
منها: التبادر، وهو أمر وجداني لايمكن الاستدلال به له، ولذا أنكره بعضكالمحقّق العراقيّ قدسسره (2)، ولكنّ مراجعة الاستعمالات العرفيّة تؤيّد التبادر المذكورفي كلام صاحب الكفاية قدسسره ، بل هو دليل مهمّ في المقام، ولعلّه هو الدليلالمنحصر ههنا.
ومنها: قوله تعالى: «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِىآ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْيُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ»(3)، والاستدلال مبتنٍ على ما سيأتي إثباته من أنّ دلالةهيئة «افعل» على الوجوب، فتقريبه على هذا: أنّه تعالى هدّد وحذّر مخالفالأمر بأنّه يجب على مخالف الأمر الحذر من إصابة الفتنة أو العذاب الأليم؛ إذلا معنى لندب الحذر أو إباحته، فيدلّ ترتّب وجوب الحذر على مطلق مخالفةالأمر على أنّ الأمر حقيقة في الوجوب.
ويمكن أن يقال: إنّ في الآية قرينة على دلالة الأمر على الوجوب، وهيعبارة عن إضافة الأمر إلى اللّه تعالى، وهذا لايناسب المدّعى من أنّ الأمرمطلقاً مساوق للطلب الوجوبي، ولعلّه كان دليلاً لجعلها مؤيّداً في الكفاية.
وأورد عليه أيضاً المحقّق العراقي قدسسره (4)، وبيان الإيراد متوقّف على ذكر مقدّمة
- (2) نهاية الأفكار 1: 160 ـ 163.
- (4) نهاية الأفكار 1: 162.
(صفحه462)
سيأتي تفصيلها في بحث العامّ والخاصّ، وهي: أنّه لو ورد خطاب بوجوبإكرام كلّ عالم، وقد علم من الخارج بعدم وجوب إكرام زيد، لكنّه يشكّ في أنّهمصداق للعالم حقيقة كي يكون خروجه عن الحكم العامّ بنحو التخصيص، أوأنّه لا يكون مصداقاً للعالم حقيقةً كي يكون خروجه من باب التخصّص، فهلتجري ههنا أصالة العموم لإثبات عنوان الجاهل لزيد وخروجه عن الحكمبنحو التخصّص أم لا؟ والمحققّون قائلون بعدم جريان أصالة العموم والإطلاقفي مثل ذلك المورد، فإنّ الدليل على حجّيّتهما عبارة عن السيرة وبناء العرفوالعقلاء، والقدر المتيقّن من جريانهما إنّما هو في خصوص الشكّ في المراد، وأمّإذا كان الشكّ في كيفيّة الاستعمال كما في ما نحن فيه فلا تجري أصالة العموموالإطلاق، فإنّا نعلم بعدم وجوب إكرام زيد ـ مثلاً ـ ونشكّ في خروجه عنالحكم بنحو التخصيص أو التخصّص، فلا محلّ لجريان أصالة العموم.
إذا عرفت هذا فنقول: إنّ لفظ الأمر في الآية بلحاظ ترتّب وجوب الحذرعلى مخالفته محمول على الأمر الوجوبي قطعاً؛ إذ لا معنى لترتّبه على الأمرالاستحبابي بعد جواز تركه شرعاً، فلا شبهة في مراده تعالى، وإنّما الشكّ في أنّالأمر الاستحبابي هل يطلق عليه الأمر حقيقةً وأنّه خارج عن الآية تخصيصـ مثل «زيد» المذكور في المثال إذا كان عالماً ـ أو يطلق عليه الأمر بالعنايةوالمجاز وأنّه خارج عنها تخصّصاً؛ لأنّ الأمر الاستحبابي لا يكون أمراً فليفيد جريان أصالة الإطلاق في الآية ههنا؛ إذ الشكّ خارج عن مراده تعالىومفاد الآية؟!
ومنها: قوله تعالى: «مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ»(1) فإنّه ورد في مقام
(صفحه 463)
توبيخ إبليس بسبب تركه لما اُمر به من السجود لآدم حينما قال تعالىللملائكة: «اسْجُدُواْ لاِءَدَمَ فَسَجَدُوآاْ إِلاَّآ إِبْلِيسَ»(1)، ومعلوم أنّه لا توبيخ إلاّ فيترك الواجب، فالأمر حقيقة في الوجوب.
يرد عليه أيضاً الإشكالان المذكوران؛ لأنّ غاية ما يستفاد من ذلك أنّ أمراللّه تعالى حقيقة في الوجوب؛ إذ يمكن أن يقال: إنّ مطلق الأمر لا يكونكذلك.
على أنّ توبيخه تعالى قرينة على كون الأمر في الآية حقيقة في الوجوب،فلا شكّ في مراده تعالى؛ وإنّما الشكّ في أنّ خروج الأمر الاستحبابي عن الآيةهل يكون بنحو التخصيص أو التخصّص؟ ولا طريق لإثبات ذلك، ولا تجريأصالة العموم أو الإطلاق ههنا.
ومنها: قوله صلىاللهعليهوآله : «لولا أنّ أشقّ على اُمتي لأمرتهم بالسواك»(2)؛ إذ الكلفةوالمشقّة لا تكون إلاّ في التحريم والوجوب، وأمّا إطلاق التكليف علىالاستحباب والكراهة والإباحة فلايخلو عن مسامحة، فهذا التعبير دليل علىأنّ الأمر في الآية حقيقة في الوجوب، مع أنّه صلىاللهعليهوآله أمر مراراً بالسواك على وجهالاستحباب، فلابدّ من كون هذا الأمر للوجوب، وإلاّ لزم لغويّة الأمر المترتّبعلى المشقّة.
ولكن يرد فيه أيضاً الإشكالان المذكوران؛ إذ يمكن أن يقال: إنّ أمره صلىاللهعليهوآله حقيقة في الوجوب، وأمّا مطلق الأمر فلايكون كذلك.
على أنّ مراده صلىاللهعليهوآله في الرواية معلوم، ولا طريق لإثبات أنّ خروج الأمر
- (2) الوسائل 2: 17، الباب 3 من أبواب السواك، الحديث 4.