(صفحه 487)
لنا من الالتزام بالكلام النفسي، وإلاّ لم يكن اتّصاف الجملة بالخبريّة في جميعالصور قابلاً للتوجيه.
وجوابه: يظهر بمراجعة الوجدان وبالفحص والتحليل مداليل الجملالخبريّة بعد كونها من المسائل المبتلى بها في الاستعمالات الشائعة بين الناس،وإذا قال المخبر: «زيدٌ قائمٌ» فلا نجد في هذه الجملة سوى عدّة من الواقعيّات:
الاُولى: واقعيّة الألفاظ، مثل: واقعيّة لفظ «زيد» و «قائم» وحركاتهما،وتقدّم بعض الحروف على الآخر وأمثال ذلك، ومثل واقعيّة هيئة الجملة نحومرفوعيّة لفظ الأوّل بعنوان المبتدأ والثاني بعنوان الخبر، وتقدّم أحدهما علىالآخر.
الثانية: واقعيّة المعاني، مثل: واقعيّة معنى «زيد» وواقعيّة معنى «القائم»بمادّته وهيئته، ومثل واقعيّة معنى الجملة.
الثالثة: واقعيّة الإرادة فإنّ التكلّم وصدور اللفظ من المتكلِّم فعل من أفعالهالاختياريّة، فلابدّ من كونه مسبوقاً بالإرادة التي لها مقدّمات ومبادئ، وفيرأس المبادئ التصوّر.
الرابعة: الواقعيّة النفسانيّة للمخبر، وهي اتّصافه بإحدى الحالات الثلاث،فإنّه قد يكون عالماً بالمطابقة، وقد يكون عالماً بالمخالفة، وقد يكون شاكّبالمطابقة والمخالفة.
الخامسة: واقعيّة مطابقة المخبر به مع الواقع وعدم مطابقته معه.
إذا عرفت هذا فنقول: لا شكّ ولا شبهة في عدم كون أحد هذه الواقعيّاتبالكلام النفسي، وأمّا واقعيّات الألفاظ والمعاني فلا دخل لها بالنفس، كما أنّواقعيّة مطابقة المخبر به للواقع وعدمه لا دخل لها بنفس المخبر، بل كانت هيمن أوصاف الجمل الخبريّة.
(صفحه488)
وأمّا الواقعيّة النفسانيّة المتحقّقة في الجمل الخبريّة ـ يعني اتّصاف المتكلّمبكونه عالماً بالمطابقة أو عالماً بالمخالفة أو شاكّاً ـ فتحقّقها وإن كان مقطوعاً ولمتكن قابلة للإنكار إلاّ أنّها أيضاً ليست بالكلام النفسي عند الأشاعرة، فإنّهمصرّحوا بأنّ الكلام النفسي مغايرٌ للعلم وزائد عليه، على أنّهم صرّحوا بأنّالمتحقّق في جميع الجمل الخبريّة واقعيّة واحدة وصفة متّحدة المآل، سواء كانالمتكلّم صادقاً أم كاذباً أم شاكّاً، فإن كان الكلام النفسي عبارة عن هذهالحالات الثلاث للمتكلّم واقعيّات ولا أقلّ من واقعيّتين ـ أي العلم والشكّ كما هو المعلوم.
وأمّا الواقعيّة النفسانيّة الاُخرى ـ يعنى واقعيّة الإرادة ـ فهي أيضاً لا تكونكلاماً نفسيّاً.
وتدلّ عليه أدلّة متعدّدة: منها: تصريح الأشاعرة بأنّ كلام النفس مغايرللإرادة.
ومنها: أنّ منشأ الإدارة في الجمل الخبريّة عبارة عن أنّ التكلّم فعلٌ منأفعاله الاختياريّة، وكلّ فعل اختياري مسبوق بالإدارة، فالتكلّم مسبوقبالارادة. ومن المعلوم أنّ هذا المنشأ يتحقّق في الخياطة والتجارة والكتابةأيضاً، فيكون الكلام النفسي في التاجر والخيّاط والكاتب أيضاً متحقّقاً حينالشروع، مع أنّهم قائلون بانحصار الكلام النفسي في الجمل الخبريّةوالإنشائيّة.
على أنّ الإرادة مسبوقة بالمبادئ، وأوّل المبادئ التصوّر، وهو قسم منالعلم؛ إذ العلم إن كان إذعاناً للنسبة فتصوّر وإلاّ فتصديق، وقد مرّ آنفاً أنّهمصرّحوا بأنّ الكلام النفسي مغايرٌ للعلم وزائد عليه، فلا تكون الواقعيّات
(صفحه 489)
المتحقّقة المذكورة كلاماً نفسيّاً، ولا ضرورة تقتضي الالتزام بتحقّق الكلامالنفسي في الجمل الخبريّة، ولا نقص فيها حتّى ينجبر بالتزام تحقّق الواقعيّةالمجهولة باسم الكلام النفسي.
وأمّا في الجمل الإنشائيّة الطلبيّة فكان للكلام النفسي عندهم اصطلاحخاصّ، وهو الطلب، فاستدلّ ههنا بصورة السؤال عن المعتزلة بأنّ المولى إذقال لعبده: «جئني بالماء» فما هي الصفة النفسانيّة المتحقّقة في الجمل الإنشائيّةالطلبيّة؟ فلا محالة تقول المعتزلة: هي عبارة عن الإرادة المتعلّقة بتحقّق المأموربه في الخارج عن المكلّف.
وجوابه: أنّ الجمل الإنشائيّة الطلبيّة قد تتحقّق بدون أن تكون إرادة المولىمتعلّقة بتحقّق المأمور به في الخارج كما في الأوامر الاختياريّة؛ إذ لا شكّ فيتحقّق الأمر فيها، ويكون إطلاق الأمر عليها على نحو الحقيقة لا على سبيلالتجوّز والمسامحة، ومع ذلك لا تتحقّق فيها الإرادة النفسانيّة المذكورة.
وهكذا في الأوامر الاعتذاريّة؛ إذ لا يريد فيها تحقّق المأمور به، بل المرادرفع لوم الناس في ضرب المأمور ومؤاخذته باعتذار أنّه قد عصاه، فالطلب فيصورتي الاختبار والاعتذار موجود بدون الإرادة، مع أنّها أمرٌ حقيقي ويجريعليها ما يجري على الأوامر الاُخر من استحقاق العقوبة وأمثاله.
فيستفاد من ذلك أنّ غير الإرادة المتحقّقة في بعض الأوامر تتحقّق صفةنفسانيّة اُخرى في جميع الأوامر التي نسمّيها بالكلام النفسي ونعبّر عنه ههنبالطلب، فالطلب مغاير للإرادة، كما يدلّ عليها قول الشاعر:
إنّ الكلام لفي الفؤاد وإنّما
|
جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
|
فإنّ مقتضاه أنّ ظرف تحقّق الكلام الحقيقي عبارة عن النفس، وأمّا الألفاظ
(صفحه490)
والأصوات فتكون بمنزلة الدليل والكاشف عنه.
وجوابه: في الجمل الإنشائيّة عين الجواب عن الاستدلال في الجملالخبريّة، فإنّهما مشتركان في كثير من الواقعيّات المتحقّقة المذكورة في الجملالخبريّة، فالوجدان أقوى شاهد لعدم تحقّق صفة نفسانيّة في نفس الآمر، سوىإرادة تحقّق المأمور به عن المأمور حين الأمر، وأمّا الأوامر الاختياريّةوالاعتذاريّة وإن لم تتحقّق فيها هذه الإرادة، إلاّ أنّ الداعي الاختباروالاعتذار متحقّقٌ فيها مثل داعي تحقّق المأمور به في سائر الأوامر، فأيّ دليليقتضي ثبوت الصفة النفسانيّة الاُخرى سوى هذه الدواعي الموجودة فيها، فليستلزم عدم تحقّق الإرادة في بعض الأوامر ثبوت الكلام النفسي.
وأمّا الجواب عن الاستدلال بقول الشاعر فأوّلاً: أنّه من الممكن أن يكونالشاعر من الأشاعرة، مع أنّه لا دليل على حجّيّة الشعر، إلاّ أن يكون منالأئمّة المعصومين عليهمالسلام .
وثانياً: أنّ مفاد الشعر المذكور لا ينطبق على الكلام النفسي أصلاً، فإنّمفاده عبارة عن أنّ مراد الإنسان من التكلّم هو إطلاع الغير على ما في قلبه،بحيث إن أمكن الاطّلاع عليه بدون التكلّم لا يحتاج إلى الألفاظ والأصواتواللسان، وإنّما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً، فهو أيضاً لا يدلّ على تحقّقالكلام النفسي.
وقد مرّ أنّ الأساس لإثبات الكلام النفسي هو إطلاق المتكلّم على الباريتعالى، فإنّ الأشاعرة لاحظت أنّ إطلاق المتكلّم عليه تعالى في الإطلاقاتوالاستعمالات شائع بين المتشرّعة، ولاحظت أيضاً أنّ في صدق المشتقّ لابدّمن تحقّق الارتباط بين المبدأ والذات، فقد مرّ في بحث المشتقّ أنّ العلماء
(صفحه 491)
اختلفوا في كيفيّة هذا الارتباط، وقالت الأشاعرة: إنّه لابدّ من كون المبدأ قائمبالذات بالقيام الحلولي، ولاحظت هذا المعنى في قولنا: الجسم أبيضٌ أو أسودٌ،فإنّ البياض أو السواد قائمان بالجسم بالقيام الحلولي، وهما حالان في الجسم،والجسم محلّ لهما، ثمّ فرضت هذا المعنى بعنوان الضابطة الكلّيّة في جميعالمشتقّات.
ثمّ قالت: تجري هذه القاعدة في إطلاق المتكلّم المشتقّ على اللّه تعالى، ولابدّأن يكون بين الكلام وذات الباري ارتباط بنحو القيام الحلولي، فحينئذٍ ليعقل أن يكون الكلام اللفظي مع كونه من الاُمور المتصرّمة والمتدرّجةوالحادثة حالاًّ في ذات الباري، فلابدّ من الالتزام بالكلام النفسي الذي هوحالّ في ذات الباري وقديم بقدمه. هذا محصّل ما قالت به الأشاعرة في تحقّقالكلام النفسي لذات الباري.
وفيه: أنّ مبنى الأشاعرة لا دليل عليه، مع أنّه منافٍ لأكثر المشتقّات، ولتجري هذه الضابطة المسلّمة عندهم في أكثرها، ولا ينحصر المشتقّ بما يجريفيه هذا المعنى كالأبيض والأسود وأمثال ذلك؛ إذ لا شكّ في أنّ الضاربوالقاتل يكونان من المشتقّات، مع أنّ مبدئيهما ـ أي الضرب والقتل ـ قائمانبالذات بالقيام الصدوري لا الحلولي، وهكذا أمثالهما.
وأوضح من ذلك أنّه لا شكّ في أنّ إطلاق المالك على «زيد» يكون بنحوالحقيقة، مع أنّ الملكيّة أمرٌ اعتباريٌ اعتبرها الشارع والعقلاء، ولا يكونبإزائها شيء في الخارج، فلا قيام في البين، فضلاً من أن يكون بنحو الحلول،وهكذا العناوين، مثل: الزوج والزوجة وأمثالهما، فلا كلّيّة للقاعدة المذكورة فيكلام الأشاعرة.