(صفحه534)
فلا تعقل المقايسة بين الحكم ومتعلّقه مع العرض والمعروض؛ لأنّ المعروضواقعيّة مستقلّة من حيث الوجود، وله تقدّم رتبةً على العرض ـ أي الواقعيّةالغير المستقلّة في الوجود ـ ولا معنى للتقدّم والتأخّر في الاُمور الاعتباريّة،فالمولى في مقام الأمر يتصوّر الصلاة المقيّدة بقصد الأمر، ثمّ يجعل المقيّد متعلّقللبعث والتحريك الاعتباري، وكما أنّه لا مانع في تصوّر الصلاة قبل الأمركذلك لا مانع من تصوّر قصد الأمر قبله.
ويؤيّد عدم قابليّة مقايسة الأحكام بالأعراض أنّ الجسم في حال كونهمعروضاً للبياض لا يعقل أن يكون معروضاً للسواد ولو من قبل الشخصين،وأمّا في باب الأحكام والمتعلّقات فيمكن أن يكون السفر ـ مثلاً ـ مورداً لأمرالوالد ونهي الوالدة في آنٍ واحد، فاجتماع العرضين المتضادّين في معروضواحد وآنٍ واحد مستحيل ولو من ناحية الشخصين، بخلاف الأحكام.
ومن أدلّة القائلين بالاستحالة الذاتيّة لزوم الدور في المسألة، وتقريب ذلكأنّه لا شكّ في توقّف قصد الأمر على الأمر؛ إذ لا معنى لتحقّق قصد الأمرالخارجي والحقيقي بدون الأمر، وهكذا لا شكّ في توقّف وجوب المكلّف بهعلى قدرة المكلّف، فالأمر متوقّف بالقدرة على المتعلّق، والقدرة على المتعلّقمتوقّفة على الأمر بعد فرض أخذ قصد الأمر في المتعلّق، وهذا دور مستحيلٌبالذات.
أقول: في مقام الجواب عن هذا: أوّلاً: أنّ اعتبار القدرة على المأمور به فيظرف تحقّق الامتثال كاف، سواء كان في زمان الأمر وظرف التكليف مقدورأم لا، والعقل لا يحكم أزيد من ذلك.
وثانياً: أنّ العقل يحكم بوجود القدرة وإن كانت من نفس الأمر، كما إذا أمر
(صفحه 535)
أحد المراجع ـ مثلاً ـ شخصاً بالسفر إلى مكّة وهو غير قادر على ذلك، ولكنلهذا الأمر جهّزه المتديّنون بالزاد والراحلة، وهذا كافٍ في تحقّق القدرة، فنحنسلّمنا أنّه لا يعقل تحقّق قصد الأمر بدون الأمر في الخارج، ولكنّ الأمر بشيءلا يتوقّف على تحقّق القدرة عليه قبله؛ إذ لا مانع من تحقّق القدرة بعد الأمرأيضاً.
ومن أدلّتهم أيضاً اجتماع اللحاظين الاستقلالي والآلي في آنٍ واحد في شيءواحد، توضيح ذلك: أنّه لابدّ للمولى حين الأمر من لحاظ الأمر والمأمور به،ومن المعلوم أنّ لحاظ الأمر يكون لحاظاً آليّاً؛ لأنّه وسيلة لتحقّق المأمور به،وأمّا لحاظ المأمور به بجميع الأوصاف والخصوصيّات فيكون لحاظاستقلاليّاً، فإذا كان قصد الأمر داخلاً في المتعلّق فلابدّ من ملاحظة المضافوالمضاف إليه مستقلاًّ، فالأمر تعلّق به لحاظان: لحاظ آلي ولحاظ استقلالي،والجمع بين اللحاظين في آنٍ واحد مستحيل ذاتاً.
وجوابه: سلّمنا أنّ الأمر بما أنّه وسيلة لتحقّق المأمور به يتعلّق به لحاظآلي، وبما أنّه جزء المتعلّق يتعلّق به لحاظ استقلالي، ولكن لا يكون اللحاظانفي آنٍ واحد، فإنّه ملحوظ بالاستقلال في رتبة المتعلّق وملحوظٌ بالآليّة فيرتبة نفسه، ولا استحالة في البين.
والمهمّ من الأدلّة ما ذكره المحقّق النائيني قدسسره (1) في المقام، ومحصّل كلامه: أنّالقضايا إمّا طبيعيّة وإمّا حقيقيّة وإمّا خارجيّة، والطبيعيّة ما كان الموضوع فيهعبارة عن الماهيّة مثل «الإنسان حيوان ناطق»، والحقيقيّة ما كان الموضوعفيها عبارة عن الأفراد، سواء كان الأفراد محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود،
- (1) أجود التقريرات 1: 106 ـ 108.
(صفحه536)
والخارجيّة ما كان الموضوع فيها عبارة عن أفراد محقّقة الوجود، ولكنّ نوعالقضايا المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّة قضايا حقيقيّة، مثل «المستطيع يجبعليه الحجّ»، إلاّ أنّ القضايا الحقيقيّة ترجع إلى قضايا شرطيّة مقدّمها وجودالموضوع وتاليها ثبوت المحمول له، وقولنا: «المستطيع يجب عليه الحجّ» يرجعإلى قولنا: «إذا وجد في الخارج شخص وصدق عليه أنّه مستطيع وجب عليهالحجّ»، وكلّ قيد في القضايا الحقيقيّة إذا اُخذ مفروض الوجود في الخارجـ سواء كان اختياريّاً كالعهد والنذر والاستطاعة أم كان غير اختياريكالوقت والبلوغ ـ يستحيل تعلّق التكليف به، ومن البديهي أنّ مثل هذهالقيود إذا اُخذت في مقام الجعل فلا محالة أنّها اُخذت مفروضة الوجود فيالخارج؛ بأنّ المولى فرض وجودها أوّلاً ثمّ جعل الحكم عليها، فمثل قولهتعالى: «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(1) ونحوه يرجع إلى أنّه إذا فرض وجود عقد فيالخارج يجب الوفاء به، لا أنّه يجب على المكلّف إيجاد عقد في الخارج والوفاءبه، ومثل قوله: «إذا زالت الشمس فصلّ» يرجع إلى أنّه متى تحقّق وقت الزوالـ مثلاً ـ فالصلاة واجبةٌ، لا وجوب الصلاة ووجوب تحصيل الوقت.
والحاصل: أنّ كلّ قيد إذا اُخذ في مقام الجعل مفروض الوجود فلا يعقلتعلّق التكليف به، سواء كان اختيارياً أم لا، ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ قصدالأمر إذا اُخذ في متعلّقه فلا محالة يكون الأمر موضوعاً للتكليف ومفروضالوجود في مقام الإنشاء، فيلزم عندئذ كون الأمر مفروض الوجود قبل وجودنفسه وتحقّق شيء في رتبتين ـ أي رتبة المتعلّق بما أنّه جزء ورتبة نفسه ومرجعه إلى اتّحاد الحكم والموضوع.
(صفحه 537)
وبالنتيجة إن اُخذ داعي الأمر متعلّقه يستلزم اتّحاد الحكم والموضوع فيمقام الجعل، وتوقّف الشيء على نفسه في مقام الفعليّة، وكلاهما مستحيل وكانفي كلام المحقّق النائيني قدسسره نقاط إبهام.
الاُولى: أنّ ادّعاء كون نوع القضايا المتضمّنة لبيان الأحكام الشرعيّةبصورة القضايا الحقيقيّة ليس بصحيح، فإنّ القضيّة الحقيقيّة عبارة عن القضيّةالحمليّة الخبريّة، وهذا لا ينطبق على أكثر أدلّة العبادات والمعاملات، مثلقوله تعالى: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ وَ ءَاتُواْ الزَّكَوةَ»(1)، «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ»(2)،«وَ أَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْـءُولاً»(3)، وأمثال ذلك.
الثانية: أنّه على فرض تسليم كون الأدّلة المذكورة بصورة القضايا الحقيقيّةولكنّ ما ذكره ثانياً من أنّ القضايا الحقيقيّة ترجع إلى القضايا الشرطيّة ليسبصحيح؛ إذ يمكن إرجاع بعض القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة كالمثال المذكورفي كلامه قدسسره يعني المستطيع يجب عليه الحجّ، بقولنا: «أيّها المكلّفون، إذاستطعتم يجب عليكم الحجّ»، وأمّا سائر الأدلّة، مثل: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»فلايمكن إرجاعها إلى القضيّة الشرطيّة؛ إذ لا يتصوّر فيها الشرط والجزاءوالمقدّم والتالي.
ومن هنا نستكشف قاعدة كلّيّة لإرجاع القضايا الحقيقيّة إلى الشرطيّة،وهي أنّ كلّ قضيّة كان المكلّف فيها معنوناً بعنوان خاصّ لا مانع منإرجاعها إلى الشرطيّة، مثل: قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
(صفحه538)
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1)، وكان ههنا للمكلّف عنوان خاصّ، وهو عنوانالمستطيع الذي بيّنته جملة «من استطاع إليه سبيلاً»، وهذا العنوان موضوعللتكليف الوجوبي الذي بيّنته كلمتي «للّه» و«على»، والمتعلّق الذي بيّنته كلمتي«حجّ البيت» غير الموضوع.
وأمّا في مثل قوله تعالى: «وَ أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» الذي ليس فيه للمكلّفعنوان خاصّ حتّى نجعله الموضوع للتكليف، فلا يمكن إرجاعه إلى القضيّةالشرطيّة؛ إذ لا يتصوّر الشرط فيه.
نعم، إذا كانت في المسألة قيود غير اختياريّة فلابدّ من فرض وجودها فيمقام الأمر، فلا محالة ترجع إلى القضيّة الشرطيّة، مثل قولنا: إذا بلغتم يجبعليكم إقامة الصلاة، وإذا تحقّق غروب الشمس يجب عليكم صلاة العشاءين.
ويمكن أن يقال: إنّ كلام المحقّق النائيني قدسسره يتمّ بناءً على ذلك، فإنّ قصدالقربة أيضاً تكون من الاُمور الغير الاختياريّة؛ إذ الأمر فعل المولى، فما نبحثفيه يرجع إلى القضيّة الشرطيّة.
وفيه: أوّلاً: أنّ قصد الأمر ليس من الاُمور الغير الاختياريّة؛ إذ مرّ منّمفصّلاً أنّا نحتاج إلى قصد الأمر في مقام الامتثال، لا في مقام جعل الحكم، كمأنّ القدرة المعتبرة في التكليف معتبرة في مقام الامتثال، فإن تحقّق من ناحيةالأمر فلا بأس به، وإن كان كذلك فقصد الأمر صار أمراً اختياريّاً، فإنّه مقدورلنا بعد الأمر، بخلاف زوال الشمس فإنّه ليس بمقدور لنا بوجه.
وثانياً: أنّ على فرض تسليم كون قصد الأمر من الاُمور الغير الاختياريّةـ مثل زوال الشمس ـ ولكن قصد الأمر ليس من قبيل زوال الشمس، فإنّ