(صفحه 617)
فيكون عنوان صاحب الكفاية خاليا عن الإشكالات المذكورة، وأولى منعنوان صاحب الفصول.
ولابدّ لنا قبل الورود في البحث من تحرير محلّ النزاع حتّى يظهر أنّ هذالمبحث هل يكون من المباحث العقليّة أو من مباحث الألفاظ، أو قسم منهعقلي والقسم الآخر منه لفظي؟ وهو يحتاج إلى مقدّمة، وهي أنّ الأوامر علىثلاثة أقسام: الأوّل: الأمر الواقعي الأوّلي أو الاختياري، الثاني: الأمر الواقعيالثانوي أو الاضطراري، الثالث: الأمر الظاهري.
وتتحقّق في الأوّل خصوصيّتان: الاُولى: كون المكلّف مختارا، الثانية: كونالمكلّف قاطعا بالتكليف وكونه عالما بأنّ وظيفته كذا، كقول الشارع: «أقمالصلاة مع الوضوء إن كنت واجدا للماء».
ويتحقّق في الثاني الخصوصيّة الثانية المذكورة بخلاف الاُولى؛ إذ المكلّف ليكون متمكّنا من الماء أو لا يكون متمكّنا من الاستفادة منه لاستلزامهالضرر أو الحرج، ولكنّه كان عالما بالتكليف في هذه الحالة، كقوله: «أقمالصلاة مع التيمّم إن كنت فاقدا للماء».
وأمّا الأمر الظاهري فيتحقّق في مورد الشكّ في التكليف، مثلاً: لا نعلم أنّالواجب ظهر يوم الجمعة صلاة الجمعة أو صلاة الظهر؟ وجعل الشارع في مثلهذا المورد طرقا وأمارات واُصولاً لتعيين وظيفة المكلّف، كجعله خبر العادلحجّة بمقتضى آية النبأ، فإذا نقل زرارة عن الصادقين عليهماالسلام أنّ في يوم الجمعةصلاة الجمعة واجبة، فكانت هذه وظيفة ظاهريّة مقرّرة للجاهل من دون أنتكون مزيلة لجهله، وهكذا إن استفدناها من الاستصحاب بأنّ صلاة الجمعةفي عصر حضور الإمام المعصوم عليهالسلام كانت واجبة يقينا فنشكّ في عصر الغيبة
(صفحه618)
في بقائه، فنستصحب وجوبها بمقتضى قول المعصوم عليهالسلام ... «لا تنقض اليقينبالشكّ»(1)، فصلاة الجمعة وظيفة ظاهريّة للجاهل من دون أن تكون مزيلةلجهله، فنعبّر عن هذه الأحكام بالأحكام الظاهريّة.
إذا تمهّدت لك هذه المقدّمة فنقول: إنّ النزاع في مسألة الإجزاء يقع فيمقامين:
الأوّل: أن يلاحظ كلّ المأمور به بالنسبة إلى أمره فهل أنّ إتيان المأمور بهمع الوضوء وسائر الخصوصيّات يجزي عن الأمر الواقعي الأوّلي أم لا؟وإتيان فاقد الماء الصلاة مع التيمّم هل يكفي عن الأمر الواقعي الاضطراري أملا؟ وهكذا في الأمر الظاهري.
المقام الثاني: أنّ إتيان الصلاة مع التيمّم مع أنّ المكلّف كان في حال الصلاةفاقدا للماء هل يكفي عن الأمر الواقعي الأوّلي بعد أن صار في الوقت أو بعدهواجدا للماء أم لا؟ وأنّ إتيان المأمور به بالأمر الظاهري ـ مثل صلاة الجمعة هل يجزي عن الأمر الواقعي بعد انكشاف الخلاف في الوقت أو بعده أم لا؟وما هو المهمّ والأساس في المسألة عبارة عن المقام الثاني المنحصر في الأمرالاضطراري والظاهري.
فظهر ممّا ذكرنا أنّ البحث في المقام الأوّل بحث عقلي؛ إذ الحاكم بالإجزاءوعدمه في مثل هذا المورد هو العقل ولا دخل للألفاظ فيه، ولا ينحصر هذالمعنى في الأوامر الشرعيّة، بل كان في الأوامر العرفيّة أيضا كذلك، وأمّالبحث في المقام الثاني فبحث لفظي وخارج عن حدود حكم العقل، فلابدّ لنمن مراجعة أدلّة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة ونلاحظ أنّه يستفاد من
- (1) الوسائل 8 : 217، الباب 10 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 3.
(صفحه 619)
مفادها الإجزاء أم لا؟
فمثلاً: تكون في رواية صحيحة جملة: «أنّ التراب أحد الطهورين يكفيكعشر سنين»، كأنّه يقول: لا تتوهّم أنّ تحقّق الطهارة منحصر بالماء، بل الترابأيضا طهور في ظرف فقدان الماء، كما أنّ الماء طهور في ظرف وجدانه،ويستفاد من هذا اللحن خصوصا مع الدقّة في ذيل الجملة ـ أي يكفيك إلىعشر سنين ـ الإجزاء، فيرجع البحث إلى مفاد دليل الأمر الاضطراري لا إلىالعقل.
وهكذا في الأوامر الظاهريّة، فلابدّ لنا من ملاحظة سياق أدلّة حجّيّة الخبروالاستصحاب من أنّ مفادها تعيين وظيفة الشاكّ في ظرف الشكّ فقط وبعدانكشاف الواقع تجب الإعادة والقضاء أم لا، فالبحث في هذا المقام متمحّضفي أدلّة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة.
إذا عرفت هذا فالظاهر أنّه لا مانع من اجتماع المقامين المتضادّين في محلّالنزاع تحت العنوان والجامع الواحد، وهو كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره : أنّالإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ ولكنّ المقصود منهحين البحث في المقام الأوّل أنّه هل يقتضي الإجزاء بالإضافة إلى أمره؟ وحينالبحث في المقام الثاني أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهريهل يقتضي الإجزاء بالإضافة إلى الأمر الأوّلي الواقعي أم لا؟
ويمكن أن يتوهّم أنّه لا محلّ للبحث في المقام الأوّل، فإنّ المخالف فيه ليكون من يسمع كلامه، وما هو أساس البحث والمهمّ في هذه المسألة عبارةعن المقام الثاني الذي هو بحث لفظي، فهذا مؤيّد لما ذكره صاحب الفصول فيعنوان المسألة.
(صفحه620)
ولكنّه مخدوش؛ بأنّه سلّمنا أنّ أساس البحث ههنا بحث لفظي كما ذكرنا،إلاّ أنّ المحور في البحث لا يكون نفس الأمر؛ إذ لا يستفاد منه لا الإجزاء ولغيره، بل المحور فيه عبارة عن أدلّة الأمر الاضطراري والظاهري وكيفيّةدلالتها، مع أنّه جعل الموضوع في البحث نفس الأمر الاضطراري والظاهري،وبينهما بون بعيد.
ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدسسره (1) ذكر توضيحا للألفاظ المأخوذة في عنوانالمسألة، ونحن أيضا نتعرّضه بنحو الإشارة، ومن الألفاظ المأخوذة فيه عبارةعن لفظ «على وجهه»، وفيه ثلاث احتمالات: الأوّل: أن يؤتى بالمأمور به معالخصوصيّات المعتبرة شرعا.
وهو مخدوش؛ بأنّ «عليه» يكون على وجهه قيدا توضيحيّا بعد دلالةنفس عنوان المأمور به على الكيفيّة المعتبرة شرعا في متعلّق الأمر، وهوخلاف الأصل ولا يصار إليه إلاّ بدليل.
الثاني: أن يؤتى به بقصد الوجه.
وهو مخدوش: أوّلاً بأنّه لا يعتبر عند الأكثر. وثانيا: بأنّه يلزم خروجالتوصّليّات عن حريم النزاع، مع أنّه يجري في التوصّليّات أيضا، فلا وجهلاختصاصه بالذكر من بين سائر القيود.
الثالث: أن يؤتى به بجميع الخصوصيّات المعتبرة فيه، سواء كانت شرعيّةأو عقليّة، وهذا هو الحقّ كما لا يخفى.
ومنها: كلمة «الاقتضاء» مع أنّا نعلم من الخارج أنّ الاقتضاء قد يكونبمعنى العلّيّة والسببيّة والتأثير كما في قولنا: النار مقتضية للحرارة، وقد يكون
- (1) كفاية الاُصول 1: 125.
(صفحه 621)
بمعنى الدلالة والحكاية كما في قولنا: آية كذا مقتضية لمعنى كذا. ونعلم أيضا أنّمعناه في المقام الأوّل من البحث عبارة عن العلّيّة والسببيّة؛ إذ العقل يحكم بعدانطباق المأتي به مع المأمور به؛ بأنّ تحقّق العمل مع خصوصيّاته علّة للإجزاء.
إنّما الكلام في المقام الثاني من البحث فهل لابدّ لنا الالتزام بكونه بمعنىالدلالة والكاشفيّة حتّى يكون لكلمة «الاقتضاء» معنيان بلحاظ المقامين منالبحث؟ قال صاحب الكفاية قدسسره (1): إنّ المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحوالعلّيّة والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة،فيكون الموضوع في كلا المقامين عبارة عن الإتيان والعمل الخارجيوالإجزاء صفة له، إلاّ أنّ الحاكم بالإجزاء في المقام الأوّل هو العقل، وفي الثانيدلالة دليل الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة، فالاقتضاء ههنا أيضا بمعنى العلّيّةوالتأثير. هذا ملخّص ما أفاده قدسسره .
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2) واستفاد في النتيجة أنّه لابدّ لنمن حذف كلمة «يقتضي» من عنوان المسألة، وتبديله بأنّ الإتيان بالمأمور بهمجزي أم لا يكون مجزيا؟ وتقريبه مع زيادة توضيح: أنّ مسألة العلّيّةوالمعلوليّة عبارة من نحو ارتباط بين الواقعيّتين بحيث يكون أحدهما مؤثّرا فيالآخر وموجدا له، وهذا المعنى لا يتحقّق في ما نحن فيه؛ لأنّ المقتضي والعلّةوإن كانت عبارة عن الإتيان بالمأمور به في الخارج وهو من الواقعيّاتالمسلّمة التكوينيّة، ولكنّ المقتضي والمعلول عبارة عن الإجزاء، ومعناه لغةالكفاية، أي عدم لزوم الإعادة والقضاء، فكما أنّ اللزوم أمر اعتباري كذلك
- (2) تهذيب الاُصول 1: 178 ـ 179.