(صفحه 619)
مفادها الإجزاء أم لا؟
فمثلاً: تكون في رواية صحيحة جملة: «أنّ التراب أحد الطهورين يكفيكعشر سنين»، كأنّه يقول: لا تتوهّم أنّ تحقّق الطهارة منحصر بالماء، بل الترابأيضا طهور في ظرف فقدان الماء، كما أنّ الماء طهور في ظرف وجدانه،ويستفاد من هذا اللحن خصوصا مع الدقّة في ذيل الجملة ـ أي يكفيك إلىعشر سنين ـ الإجزاء، فيرجع البحث إلى مفاد دليل الأمر الاضطراري لا إلىالعقل.
وهكذا في الأوامر الظاهريّة، فلابدّ لنا من ملاحظة سياق أدلّة حجّيّة الخبروالاستصحاب من أنّ مفادها تعيين وظيفة الشاكّ في ظرف الشكّ فقط وبعدانكشاف الواقع تجب الإعادة والقضاء أم لا، فالبحث في هذا المقام متمحّضفي أدلّة الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة.
إذا عرفت هذا فالظاهر أنّه لا مانع من اجتماع المقامين المتضادّين في محلّالنزاع تحت العنوان والجامع الواحد، وهو كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره : أنّالإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أم لا؟ ولكنّ المقصود منهحين البحث في المقام الأوّل أنّه هل يقتضي الإجزاء بالإضافة إلى أمره؟ وحينالبحث في المقام الثاني أنّ الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري والظاهريهل يقتضي الإجزاء بالإضافة إلى الأمر الأوّلي الواقعي أم لا؟
ويمكن أن يتوهّم أنّه لا محلّ للبحث في المقام الأوّل، فإنّ المخالف فيه ليكون من يسمع كلامه، وما هو أساس البحث والمهمّ في هذه المسألة عبارةعن المقام الثاني الذي هو بحث لفظي، فهذا مؤيّد لما ذكره صاحب الفصول فيعنوان المسألة.
(صفحه620)
ولكنّه مخدوش؛ بأنّه سلّمنا أنّ أساس البحث ههنا بحث لفظي كما ذكرنا،إلاّ أنّ المحور في البحث لا يكون نفس الأمر؛ إذ لا يستفاد منه لا الإجزاء ولغيره، بل المحور فيه عبارة عن أدلّة الأمر الاضطراري والظاهري وكيفيّةدلالتها، مع أنّه جعل الموضوع في البحث نفس الأمر الاضطراري والظاهري،وبينهما بون بعيد.
ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدسسره (1) ذكر توضيحا للألفاظ المأخوذة في عنوانالمسألة، ونحن أيضا نتعرّضه بنحو الإشارة، ومن الألفاظ المأخوذة فيه عبارةعن لفظ «على وجهه»، وفيه ثلاث احتمالات: الأوّل: أن يؤتى بالمأمور به معالخصوصيّات المعتبرة شرعا.
وهو مخدوش؛ بأنّ «عليه» يكون على وجهه قيدا توضيحيّا بعد دلالةنفس عنوان المأمور به على الكيفيّة المعتبرة شرعا في متعلّق الأمر، وهوخلاف الأصل ولا يصار إليه إلاّ بدليل.
الثاني: أن يؤتى به بقصد الوجه.
وهو مخدوش: أوّلاً بأنّه لا يعتبر عند الأكثر. وثانيا: بأنّه يلزم خروجالتوصّليّات عن حريم النزاع، مع أنّه يجري في التوصّليّات أيضا، فلا وجهلاختصاصه بالذكر من بين سائر القيود.
الثالث: أن يؤتى به بجميع الخصوصيّات المعتبرة فيه، سواء كانت شرعيّةأو عقليّة، وهذا هو الحقّ كما لا يخفى.
ومنها: كلمة «الاقتضاء» مع أنّا نعلم من الخارج أنّ الاقتضاء قد يكونبمعنى العلّيّة والسببيّة والتأثير كما في قولنا: النار مقتضية للحرارة، وقد يكون
- (1) كفاية الاُصول 1: 125.
(صفحه 621)
بمعنى الدلالة والحكاية كما في قولنا: آية كذا مقتضية لمعنى كذا. ونعلم أيضا أنّمعناه في المقام الأوّل من البحث عبارة عن العلّيّة والسببيّة؛ إذ العقل يحكم بعدانطباق المأتي به مع المأمور به؛ بأنّ تحقّق العمل مع خصوصيّاته علّة للإجزاء.
إنّما الكلام في المقام الثاني من البحث فهل لابدّ لنا الالتزام بكونه بمعنىالدلالة والكاشفيّة حتّى يكون لكلمة «الاقتضاء» معنيان بلحاظ المقامين منالبحث؟ قال صاحب الكفاية قدسسره (1): إنّ المراد من الاقتضاء ههنا الاقتضاء بنحوالعلّيّة والتأثير لا بنحو الكشف والدلالة، ولذا نسب إلى الإتيان لا إلى الصيغة،فيكون الموضوع في كلا المقامين عبارة عن الإتيان والعمل الخارجيوالإجزاء صفة له، إلاّ أنّ الحاكم بالإجزاء في المقام الأوّل هو العقل، وفي الثانيدلالة دليل الأوامر الاضطراريّة والظاهريّة، فالاقتضاء ههنا أيضا بمعنى العلّيّةوالتأثير. هذا ملخّص ما أفاده قدسسره .
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2) واستفاد في النتيجة أنّه لابدّ لنمن حذف كلمة «يقتضي» من عنوان المسألة، وتبديله بأنّ الإتيان بالمأمور بهمجزي أم لا يكون مجزيا؟ وتقريبه مع زيادة توضيح: أنّ مسألة العلّيّةوالمعلوليّة عبارة من نحو ارتباط بين الواقعيّتين بحيث يكون أحدهما مؤثّرا فيالآخر وموجدا له، وهذا المعنى لا يتحقّق في ما نحن فيه؛ لأنّ المقتضي والعلّةوإن كانت عبارة عن الإتيان بالمأمور به في الخارج وهو من الواقعيّاتالمسلّمة التكوينيّة، ولكنّ المقتضي والمعلول عبارة عن الإجزاء، ومعناه لغةالكفاية، أي عدم لزوم الإعادة والقضاء، فكما أنّ اللزوم أمر اعتباري كذلك
- (2) تهذيب الاُصول 1: 178 ـ 179.
(صفحه622)
عدمه، مع أنّ العدم التكويني لا يمكن أن يكون معلولاً؛ إذ العدم ليس بشيءحتّى يحتاج إلى العلّة؛ لأنّ العدم سواء كان عدم المضاف أو المطلق ليس لهشائبة من الوجود، فالإجزاء بهذا المعنى لا واقعيّة له حتّى يكون معلولاً.وهكذا إن كان الإجزاء بمعنى سقوط الأمر، فإنّ مفاده عبارة عن البعثوالتحريك الاعتباري، فكما أنّ ثبوته أمر اعتباري كذلك سقوطه أمراعتباري.
إن قلت: إنّ الإجزاء ههنا يكون بمعنى سقوط إرادة المولى، ولا شكّ في أنّهواقعيّة تكوينيّة قائمة بالنفس كالوجود الذهني، فيتحقّق بعد تماميّة المبادئ منتصوّر المراد والتصديق بالفائدة... واقعيّة نفسانيّة باسم الإرادة، فيصحّ القول:بأنّ الإتيان بالمأمور به يكون علّة لسقوط إرادة المولى وكلاهما من الواقعيّاتالتكوينيّة، فيكون الاقتضاء بمعنى العلّيّة والسببيّة.
قلنا: إنّ الإتيان لا يصير علّة لانعدام الإرادة وارتفاعها لا في الإراداتالتكوينيّة ولا في المولويّة التي يعبّر عنها بالتشريعيّة، أمّا في الإرادة التكوينيّة،مثلاً: إذا أردنا الاشتراك في درس فلا شكّ في انعدامها بعد الحضور فيه،فيتصوّر في بادئ الأمر أنّ حصول الغرض كان سببا لسقوط الإرادة وذهابها،مع أنّه مستحيل؛ لأنّ الإرادة علّة لحصول الغرض، فلا يعقل أن يكون المعلولبوجوده طاردا لوجود علّته، وحلّ المسألة بأنّ الإرادة كانت من بدأ الأمرمغيّاة ومحدودة بحدّ خاصّ، فإذا حصل الغرض تسقط الإرادة لانتهاء أمدها،إلاّ أنّ لها بقاءً، والإتيان بالمأمور به قد رفعها وأعدمها.
وهكذا في الإرادات التشريعيّة التي توجب صدور الأمر من المولى،فلايصحّ القول بأنّ الإتيان بالمأمور به من العبد صار علّة مؤثّرة في سقوط
(صفحه 623)
الأمر، بل كانت الإرادة من الابتداء مغيّاة ومحدودة به.
والحاصل: أنّ الإجزاء سواء كان بمعنى الكفاية أو سقوط الأمر أو سقوطالإرادة لا يمكن أن تكون كلمة «يقتضي» بمعنى العلّيّة والتأثير، فالأولى دفعللتوهّم أن يقال: إنّ الإتيان بالمأمور به هل هو مجز أو لا؟
ولكنّ الحقّ: أنّ الإشكال المذكور مع كونه قابلاً للاستفادة العلميّة ليسبوارد على صاحب الكفاية قدسسره بنظري القاصر؛ لأنّ كلمة «الاقتضاء»و«العلّيّة» قد تستعمل في لسان الفلاسفة وأهل المعقول في المباحث الفلسفيّةبلحاظ أنّ الموضوع فيها هو الوجود والواقعيّة، فيجري جميع ما حكيناه عنالإمام قدسسره من أن تكون العلّيّة بمعنى الإيجاد والتأثير، وأنّ طرفي العلّة والمعلوللابدّ من كونهما واقعيّتين تكوينيّتين.
وأمّا في استعمالات الفقهاء والاُصوليين فنحن نرى كثيرا مّا استعمال كلمة«الاقتضاء» و «العلّيّة» و «السببيّة» مع أنّ العلّة والمعلول أو المعلول فقط أمراعتباري، كقولهم: الكرّيّة علّة لاعتصام الماء عن النجاسة مع ملاقاة الماءالقليل علّة لانفعاله، وإتلاف مال الغير سبب للضمان، والنكاح سبب للزوجيّة،وأمثال هذه التعابير لا تعدّ ولا تحصى في الفقه، مع أنّ الكرّيّة والاعتصاموالانفعال والضمان والزوجيّة من الاُمور الاعتباريّة، ولكنّ المقصود في هذهالموارد من السببيّة والعلّيّة السببيّة الشرعيّة، وأكثر هذه الاُمور تتحقّق عندالعرف والعقلاء بعنوان العلّة والسبب، وأمضاه الشرع أيضا كالنكاح مثلاً،فمرادهم من «النكاح سبب للزوجيّة»: أنّ النكاح سبب عقلائي وعرفيوشرعي للزوجيّة، وليست العلّيّة فيها بمعنى العلّيّة الفلسفيّة، فلا مانع من كونكلمة «الاقتضاء» في ما نحن فيه بمعنى العلّيّة الشرعيّة، أي الشارع جعل