(صفحه 647)
الأمارات ـ مثل خبر الثقة ـ ومعاملتها معاملة القطع، والشارع أيضا أمضاهولو بصورة عدم الردع.
ومعنى الحجّيّة التأسيسيّة عبارة عن جعل الشارع الحجّيّة مستقلللأمارات مثل الشهرة الفتوائيّة، كما أنّ صاحب الكفاية قدسسره (1) جعل الحجّيّة منالأحكام الوضعيّة التي تكون قابلة لتعلّق الجعل الاستقلالي بها.
وأمّا على القول بالحجّيّة التأكيديّة والإمضائيّة فيكون الحكم عند العقلاءعدم الإجزاء، وهكذا عند الشارع؛ إذ العقلاء يعاملون خبر الثقة معاملة القطعبالعدم عند انكشاف خلافه، فيحسبون ما عمل مطابقا لمفاده كالعدم، كأنّه لميتحقّق شيئا فلا يجزي عن شيء، وهكذا في الشرع بعد فرض إمضاء الشارعطريق العقلاء في مسألة الحجّيّة، فإذا أخبرنا زرارة بعدم كون السورة جزءًللصلاة وصلّينا زمانا كثيرا بدونها ـ استنادا إلى هذا الخبر ـ ثمّ انكشفالخلاف فلا معنى للإجزاء ههنا. وهكذا على القول بالحجّية التأسيسيّة يكونالحكم عدم الإجزاء؛ بأنّ الشارع في مقام جعل الحجّيّة لخبر الثقة، كأنّه قال:جعلت خبر الثقة حجّة؛ لأنّه كاشف عن الواقع وطريق إليه في حدّه، وإذا بيّنالعلّة فمن المعلوم أنّها تعمّم الحكم وتخصّصه وترفع الإبهام عن وجهه، كقوله:«الخمر حرام لأنّه مسكر»، فإن زال الإسكار يزول الحكم أيضا.
وبناءً على هذا إذا دلّ الخبر على أنّ السورة ليست من أجزاء الصلاةـ مثلاً ـ وصلّينا مدّة مديدة بدونها ـ استنادا إلى هذا الخبر ـ ثمّ انكشف خلافهفالقاعدة تقتضي عدم الإجزاء؛ إذ لا معنى لكشف الخلاف، إلاّ أنّه لم يكنطريقا إلى الواقع، بل نحن توهّمنا طريقيّته وكاشفيّته، كما أنّ هذا هو الحال في
- (1) كفاية الاُصول 1: 133.
(صفحه648)
الكشف التامّ ـ أي القطع ـ فنفهم بعد كشف خلاف ما اتّصف بالكاشفيّةالناقصة أيضا أنّه كان فاقدا لوصف الطريقيّة والكاشفيّة، فلم يكن من أوّلالأمر حجّة، فمع أنّ المركّب ينتفي بانتفاء بعض أجزائه لا معنى للإجزاء، إلاّ أنّهلا يستحقّ المكلّف العقاب؛ لتوهّمه أنّه طريق إلى الواقع، فتحصّل ممّا ذكرنا أنّالإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري إذا كان مفاد الأمارة لا يكون مجزيا عنالأمر الواقعي.
في الاُصول العمليّة
ويبقى الكلام في الاُصول العمليّة، منها: أصالة الطهارة التي لا شكّ فياعتبارها، وهي كما تجري في الشبهات الموضوعيّة ـ كالشكّ في طهارة الثوبونجاسته ـ كذلك تجري في الشبهات الحكميّة كالشكّ في طهارة الحيوان المتولّدمن الكلب والغنم ـ مثلاً ـ ونجاسته، ولا يخفى أنّ جريان الاُصول العمليّة فيالشبهات الحكميّة مطلقا مشروط بالفحص واليأس عن الدليل، بخلافالشبهات الموضوعيّة كما يدلّ الإجماع ورواية زرارة على عدم لزوم الفحصفيها.
وتستفاد هذه القاعدة من قوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك طاهر حتّى تعلم أنّهقذر»(1)، وأمثال ذلك.
وقال المحقّق الخراساني قدسسره في ضمن أدلّة الاستصحاب: إنّ المراد من الطهارةفي هذه الروايات الطهارة الواقعيّة، فيكون هذا الحكم حكما كلّيّا بالنسبة إلىجميع الأشياء، ولكنّه ربما يخصّص بتخصيص واحد أو متعدّد مثل الأعيان
- (1) اُنظر: المستدرك 2: 582، الباب 30 من أبواب النجاسات والأواني.
(صفحه 649)
النجسة، والموضوع فيها عبارة عن العناوين الأوّلية وذوات الأشياء، والغايةفيها عبارة عن العلم بالنجاسة، فيكون مفادها أنّ طهارة الأشياء تستمرّباستمرار ظاهري حتّى يتحقّق العلم بالخلاف، ونعبّر عنه بالاستصحاب،وقال عليهالسلام في دليل الاستصحاب أيضا: «لا تنقض اليقين بالشكّ ولكنّك تنقضهبيقين آخر»، ولذا جعل قدسسره هذه الروايات من أدلّة الاستصحاب، فلابدّ مناعتباره قاعدة الطهارة من طريق الإجماع أو إنكارها رأسا.
وقال المشهور: إنّ جعل العلم غاية فيها كان بمنزلة بيان خصوصيّةالموضوع، ويستفاد منه أنّ الشيء الذي وقع موضوعا للحكم بالطهارة ليكون الشيء بعنوانه الأوّلي، بل هو الشيء بما أنّه مشكوك الطهارة والنجاسة،فمعناها أنّ كلّ شيء شكّ في طهارته ونجاسته فهو طاهر، فيكون مفاد مجموعالغاية والمغيّا الحكم بالطهارة في الأشياء المشكوكة، سواء كانت الشبهة حكميّةأو موضوعيّة، وعلى هذا تكون قاعدة الطهارة مستندة إلى هذه الروايات.
وعلى مشي المشهور لابدّ لنا من ملاحظة عدّة خصوصيّات قبل الانتهاءإلى النتيجة من الإجزاء وعدمه:
الاُولى: أنّ موضوع الحكم في هذه القاعدة عبارة عن الشيء الذي ليس لهطريق معتبر إلى الواقعيّة أعمّ من النجاسة والطهارة، وتجعل القاعدة مع حفظعدم الطريقيّة إلى الواقع طهارة في مرحلة الظاهر فقط فلا طريقيّة لها إلىالواقع أصلاً.
الخصوصيّة الثانية: أنّ الشكّ المتحقّق في مجرى القاعدة عبارة عن مطلقالشكّ، لا الشكّ المستمرّ إلى الأبد، فإنّه قلّما يتّفق للإنسان، مع أنّ القاعدةوضعت بعنوان التسهيل على الناس وامتنانا عليهم في الاُمور المبتلى بها.
(صفحه650)
ولا يتوهّم أنّ احتمال بقاء الشكّ متحقّق، فلابدّ قبل إجراء القاعدة منجريان استصحاب بقاء الشكّ إلى الأبد، فإنّ هذا التوهّم يجري في الشكّالمتحقّق في مجرى الاستصحاب أيضا، فالموضوع هو شيء شكّ في طهارتهونجاسته، سواء كان الشكّ بحسب الواقع باقيا إلى الأبد أم لا.
الخصوصيّة الثالثة: أنّ المقصود من الطهارة في قاعدة الطهارة الظاهريّة، فلتعارض بين كلّ شيء طاهر، ودليل النجاسة الواقعيّة «كلّ دم نجس وميلاقيه فهو متنجّس» إذ يمكن الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي كما سيأتيإن شاء اللّه في محلّه.
الخصوصيّة الرابعة: أنّه لا شكّ في ترتّب الآثار المتعدّدة على الطهارةالواقعيّة كالأكل والشرب، مثلاً: يقول الشارع: يشترط في المأكول والمشروبأن يكون طاهرا، وكالدخول في الصلاة بقوله: يشترط طهارة الثوب والبدنللمصلّي وأمثال ذلك، وهل تترتّب هذه الآثار على الطهارة الظاهريّة التيجعلت تسهيلاً وامتنانا على الاُمّة بمفاد قاعدة الطهارة أم لا؟ فلابدّ لنا منالقول بترتّب جميع الآثار المترتّبة على الطهارة الواقعيّة، وإلاّ فما الذي يترتّبعليها من الآثار والفائدة؟ وبناءً على هذا يكون طريق الجمع بين مفاد دليلالطهارة الظاهريّة ـ أي يجوز لك الصلاة مع الثوب والبدن المشكوك الطهارة وبين دليل شرطيّة الطهارة الواقعيّة ـ أي يشترط في الصلاة طهارة الثوبوالبدن بحسب الواقع ـ بالتبيين والتفسير؛ بأنّ الأدلّة المذكورة في نفسها وإنكانت ظاهرة في الطهارة الواقعيّة إلاّ أنّ دليل القاعدة يكون حاكما عليها،ويدلّ على أنّه ليس مراد الشارع منها الطهارة الواقعيّة، بل هو أعمّ منها ومنالطهارة الظاهريّة، فما صلّينا كذلك يكون واجدا للشرط وإن كان الثوب
(صفحه 651)
بحسب الواقع نجسا.
ومن هنا يظهر الحكم بالإجزاء في هذه المسألة بأنّه إذا صلّينا مدّة مديدةمع الطهارة الظاهريّة للثوب أو للبدن ثمّ انكشف أنّه كان نجسا من الابتداء،فهذا لا يكشف عن عدم جريان القاعدة؛ إذ قلنا: إنّ موضوعها لا يكونعبارة عن الشكّ الاستمراري إلى آخر العمر، وقلنا أيضا: إنّ دليلها حاكمعلى أدلّة شرطيّة الطهارة الواقعيّة، وإنّها أعمّ من الظاهري والواقعي، فهيجارية في ظرفها قطعا، فلا نقص في الصلاة حتّى نحكم بالإعادة أو القضاء.
ولكن أشكل عليه المحقّق النائيني قدسسره (1): أوّلاً: بأنّ الأحكام الظاهريّة فيالحقيقة أحكام عذريّة، والمكلّف مأمور بترتيب آثار الواقع عليها حين الجهلبه، وإنّما يكون معذورا في ترك الواقع ما دام بقاء الجهل والشكّ، وإذا ارتفعيرتفع عذره، فإذن بطبيعة الحال تجب الإعادة أو القضاء.
وجوابه: أنّه سلّمنا أنّ هذه القاعدة قاعدة عذريّة وبقاءها يدور مدار بقاءالشكّ فقط، ولكن مفادها جعل الطهارة الظاهريّة لترتّب آثار الطهارةالواقعيّة، فلا نقص في الصلاة المأتي بها بطهارة ظاهريّة، ولا محلّ للإعادة أوالقضاء.
وثانياً: بأنّ الحكومة والتوسعة للقاعدة متوقّفة على دلالتها على جعلالطهارة الظاهريّة أوّلاً، وعلى دلالة دليل على أنّ ما هو الشرط في الصلاة أعمّمن الطهارة الواقعيّة والظاهريّة، والمفروض أنّه لم يقم دليل سوى ما دلّ علىجعل الطهارة الظاهريّة.
وجوابه: أنّ المعيار في تشخيص التعارض وعدمه وتفسير أحد الدليلين
- (1) فوائد الاُصول 1: 249.