(صفحه652)
للآخر وعدمه عبارة عن نظر العرف والعقلاء، ولا شكّ في أنّ طريق الجمععندهم منحصر بالحكومة ههنا، فإنّ بعد نفي لغويّة جعل الحكم الظاهريوهكذا نفي التعارض بين قاعدة الطهارة وبين ما يكون الظاهر عنه الطهارةالواقعيّة ـ مثل صلّ مع الطهارة ـ بتعيّن الحكومة، ولا تحتاج حاكميّة القاعدةعلى الدلالة على الأمرين، بل العقلاء يحكمون بالحاكميّة بعد الدلالة على الأمرالأوّل.
وثالثاً: بأنّ الحكومة على قسمين: حكومة ظاهريّة وحكومة واقعيّة،وإجمال الفرق بينهما أنّ الموضوع في الثانية عبارة عن الواقعيّة في الدليل الحاكموالمحكوم، ويكون حكم الخاصّ مجعولاً واقعيّا في عرض جعل الحكم العامّمن دون أن يكون بينهما طوليّة وترتّب، كما في مثل قوله عليهالسلام : «لا شكّ لكثيرالشكّ»(1)، حيث يكون حاكما على مثل قوله عليهالسلام : «إن شككت فابن علىالأكثر»(2)، ويوجب دليل الحاكم التضييق في دليل المحكوم، وأضاف إليه قيدا.ونتيجة الدليلين: أنّه إذا شككت بين الثلاث والأربع ولم تكن كثير الشكّ فابنعلى الأكثر.
وأمّا الموضوع في الحكومة الظاهريّة فلا شكّ في أنّه في دليل الحاكم عبارةعن الشكّ في دليل المحكوم، والمجعول فيها إنّما هو في طول المجعول الواقعي وفيالمرتبة المتأخّرة عنه، مثل قاعدة الطهارة حيث تكون حاكمة على مثل: البولنجس، فمفاد قاعدة الطهارة في قبال البول نجس هو أنّه إذا شككت في طهارةشيء ونجاسته فهو طاهر، ونعبّر عن هذه بـ «الحكومة الظاهريّة»، وهي
- (1) اُنظر: الوسائل 8 : 228، الباب 16 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 2.
- (2) الوسائل 8 : 212 و 213، الباب 8 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة، الحديث 1 و 3.
(صفحه 653)
لا توجب تصرّفا من حيث التوسعة والتضييق في دليل المحكوم، فإنّ الحكم فيدليل الحاكم متأخّر برتبتين عن الحكم في دليل المحكوم؛ إذ لا شكّ في أنّالحكم في دليل الحاكم متأخّر عن موضوعه، وقلنا: إنّ موضوعه عبارة عنالشكّ في دليل المحكوم، فلابدّ من تحقّق دليل المحكوم أوّلاً وتحقّق الشكّ فيهثانيا حتّى يتحقّق موضوع دليل الحاكم، فكيف يمكن إيجاد التوسعة أوالتضييق من دليل الحاكم في دليل المحكوم؟! فلا معنى للإجزاء استنادا إلىقاعدة الطهارة، فالحكومة ظاهريّة ولفظيّة، ويترتّب على ذلك جواز ترتيبآثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف، فإذا انكشف ينكشف عدم وجدان العمللشرطه، ويكون مقتضى القاعدة هو عدم الإجزاء.
وجوابه: مع أنّا ما سمعت حكومة ظاهريّة في محدودة الألفاظ: أنّ قاعدةالطهارة لا تلاحظ مع مثل «البول نجس»، فإنّهما كانا حكمين ظاهري وواقعي،والبحث في إمكان اجتماعهما وعدمه في محلّه، ونلاحظ في ما نحن فيه قاعدةالطهارة مع قوله عليهالسلام : «صلّ مع الطهارة» الذي يكون الظاهر منه في بادئ النظرالطهارة الواقعيّة، ويجمع العقلاء بين ما هو ظاهر شرطيّة الطهارة الواقعيّة وبينقوله عليهالسلام : «كلّ شيء شكّ في طهارته ونجاسته فهو طاهر» بالحكومة، بعد نفيالتعارض بينهما ونفي لغويّة جعل الطهارة ظاهريّة.
ورابعا: بأنّه لو كانت الطهارة المجعولة بأصالة الطهارة أو استصحابهموسّعة للطهارة الواقعيّة لكان اللازم الحكم بطهارة ملاقي مستصحب الطهارة،وعدم القول بنجاسته بعد انكشاف الخلاف وكون الملاقي نجساً من الابتداء؛لأنّه حين الملاقاة كان طاهرا بمقتضى التوسعة التي جاء بها الاستصحاب،وبعد انكشاف الخلاف لم تحدث ملاقاة اُخرى توجب نجاسة الملاقي، فينبغي
(صفحه654)
القول بطهارته، مع أنّه لم يلتزم به أحد، أي القول بأنّ الشكّ في الملاقي يوجبالحكم بعدم نجاسة الملاقي بحسب الواقع.
وجوابه: أوّلاً: أنّه لو سلّمنا تحقّق ملاك الحكومة في قوله: «كلّ ما يلاقيالنجس فهو متنجّس»، كتحقّقه في قوله: «صلّ مع الطهارة»، ولكنّه ما يرتبطمنهما في مبحث الإجزاء هو الثاني، وحكومة القاعدة وعدمها على مثل دليلالأوّل أجنبيّة عمّا نحن فيه، أو أنّ ملاك حكومة القاعدة على مثله متحقّق، إلأنّه يمنع مانع ـ مثل الإجماع أو ضرورة الفقه وأمثال ذلك ـ عنها، وهو ليتحقّق في مثل «صلّ مع الطهارة»، فلا دليل لرفع اليد عن مقتضى الحكومةوالحكم بالإجزاء في ما نحن فيه، فتحقّق المانع الأوّل وعدمه في الثاني يوجبالقول بالتفصيل بينهما، وإن تحقّق الملاك في كليهما.
وثانيا: أنّه لا شكّ في أنّ الحكومة مسألة عقلائيّة، ولكنّه لابدّ من الارتباطوالسنخيّة بين الدليل الحاكم والمحكوم، ومن البديهي تحقّقه بين قاعدة الطهارةوالأدلّة التي تترتّب الآثار على الطهارة الواقعيّة ظاهرا، مثل: قوله: «صلّ معالطهارة»، ويشترط في المأكول والمشروب أن يكون طاهرا، وأمثال ذلك،ولذا تتحقّق حكومة القاعدة عليها.
وأمّا الأدلّة التي يكون الحكم فيها عبارة عن النجاسة كقوله: كلّ ما يلاقيالنجاسة فهو متنجّس ـ مثلاً ـ فلا ارتباط بينها وبين القاعدة أصلاً، بل يكونبينهما التخالف والتضادّ؛ إذ تكون إحداهما في مقام جعل النجاسة، والاُخرىفي مقام جعل الطهارة الظاهريّة، وطريق الجمع بينهما طريق الجمع بين الحكمالظاهري والواقعي لا الحكومة، فالإشكالات غير واردة على المبنى،وبالنتيجة يكون الحكم الإجزاء ههنا.
(صفحه 655)
ولا يخفى أنّ التعبير بكشف الخلاف ههنا مسامحة، وليس بصحيح؛ إذ ليحصل لنا بعد جريان قاعدة الطهارة العلم بالواقع، وليس لنا طريق إليه حتّىنعبّر بكشف الخلاف بعد وضوح حقيقة الحال، بل القاعدة توجب توسعةدائرة الطهارة التي تترتّب عليها الآثار تسهيلاً وامتنانا على الاُمّة. ويجريجميع ما ذكرناه في قاعدة الطهارة من النزاع والنتيجة في قاعدة الحلّيّة أيضا.
بيان ذلك: أنّ قوله: «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام» معناه علىالقول المشهور أنّه كلّ شيء شكّ في حلّيّته وحرمته فهو لك حلال ظاهرا،والغاية تبيّن خصوصيّة الموضوع، فإن لاحظنا هذه القاعدة مع قوله: لا تصلّفيما لا يؤكل لحمه ـ الظاهر في أنّ ما يكون مانعا عن الصلاة عبارة عمّا كانمحرّم الأكل بحسب الواقع ـ تكون القاعدة حاكمة عليه وتوجب التضييق فيدائرة المانعيّة، فإن صلّينا في جزء حيوان المشكوك الحلّيّة والحرمة بعد جريانقاعدة الحلّيّة فيه، ثمّ انكشف حرمته لا يجب القضاء ولا الإعادة؛ إذ الصلاةتتحقّق مع الطهارة الظاهريّة، فلا مانع من صحّتها، فيستلزم الحكومة في هذهالقاعدة تضييق دليل المحكوم وفي قاعدة الطهارة توسعته، وكلاهما مناسب معالتسهيل والامتنان. إلى هنا تمّ بحث الأصلين من الاُصول العمليّة.
والبحث في أصل البراءة قد يقع في البراءة العقليّة، وقد يقع في البراءةالشرعيّة، ولا شكّ في أنّ البراءة العقليّة أجنبيّة عن مسألة الإجزاء وعدمه،فإنّ دليلها عبارة عن قبح العقاب بلا بيان، ولا يكون مفاده نفي التكليفبحسب الواقع، بل يكون مفاده نفي استحقاق العقوبة فيما خالفه المكلّف؛ لعدمتحقّق البيان من المولى، فإن صلّينا بدون السورة استنادا إلى هذا الأصل، ثمّانكشف الخلاف يجب القضاء في الوقت والإعادة في خارج الوقت، وغاية ما
(صفحه656)
تدلّ عليه البراءة العقليّة هو نفي المؤاخذة فقط، وهو لا يستلزم الإجزاء قطعا.
إنّما المهمّ البراءة الشرعيّة، ومستندها حديث الرفع مثل قوله صلىاللهعليهوآله : «رُفع عناُمّتي تسع... ومنها ما لا يعلمون»(1)، والموصول فيه عامّ يشمل جميع ما يكونرفعه ووضعه بيد الشارع من الأحكام التكليفيّة ـ كالوجوب والحرمة والوضعيّة، كالحجّيّة والجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة وأمثال ذلك، فإن شككنا فيجزئيّة السورة ـ مثلاً ـ فلا شكّ في عدم وصول النوبة إلى البراءة الشرعيّة إلبعد الفحص واليأس عن الدليل اللفظي في جانب النفي أو الإثبات حتّى فيصورة الإطلاق، والقول بأنّ مثل «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» يكون في مقام بيان أصلالمشروعيّة لا في مقام بيان كيفيّة الصلاة، ولذا لا يمكن التمسّك بإطلاقه لنفيالجزئيّة؛ لفقدانه شرائط التمسّك به. والحكم ههنا كما في قاعدة الطهارة عبارةعن الإجزاء، ولكنّه يحتاج إلى الدقّة والتأمّل.
بيان ذلك: أنّ مفاد حديث الرفع ليس نفي المؤاخذة فقط، بل مفاده عبارةعن نفي جزئيّة السورة المشكوك في جزئيّتها، ولا يكون مفاده نفي الجزئيّة لغيرالعالم بالجزئيّة، فإنّه يوجب التقدّم والتأخّر الدوري المحال، ولا أقلّ منالتصويب الباطل؛ إذ القول باختصاص الحكم الواقعي بالعالم بالواقع لللجاهل تصويب مجمع على بطلانه.
على أنّ الروايات الكثيرة تدلّ على أنّ للّه تعالى في كلّ واقعة حكما يشتركفيه الجاهل والعالم، ومعلوم أنّ الظاهر من الحكم أعمّ من الحكم التكليفيوالوضعي، فكيف رفعت جزئيّة المشكوكة بعد اشتراكهما في أصل الجزئيّة؟!
ولابدّ لنا من حلّ المسألة بأنّ المستفاد من ضمّ «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ» إلى م
- (1) الوسائل 15: 369، الباب 65 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الحديث 1.