(صفحه70)
وقال الشيخ الأعظم الأنصاري قدسسره ـ في كتاب الرسائل(1) في مقام الجوابعن هذا الاعتراض وتوجيه كلام المحقّق القمي ـ : بأنّ الموضوع عبارة عنالسنّة المحكيّة، وإنّا نبحث في مسألة حجّيّة خبر الواحد بأنّه هل يثبت قولالإمام عليهالسلام بنقل زرارة أم لا؟ فإذا كان البحث كذلك تشمل الأدلة الأربعة له بلكلام، ولازم ذلك في باب التعادل والترجيح أنّ قول الإمام عليهالسلام بأيّ الخبرينالمتعارضين يثبت؟
وقال صاحب الكفاية قدسسره : إنّ هذا الجواب ليس بتامّ، فإنّ الثبوت علىقسمين: أحدهما: ثبوت حقيقي وواقعي، والآخر ثبوت تعبّدي، وكلاهما محلّإشكال ههنا.
توضيح ذلك: أنّه لو كان المراد من الثبوت الثبوت الواقعي يرد عليه إشكالواحد، وهو إنّا نبحث ههنا في موضوعيّة الأدلّة الأربعة، وذكرنا في تعريفالموضوع: أنّه ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة، ومعلوم أنّ العرضوالمعروض عبارة عن مفاد «كان» الناقصة، أي لا يجري إلاّ في مورد كانأصل وجود الموضوع فيه مفروض التحقّق، ونحن نبحث فيه عن عوارضه،مثل: «كان زيد قائماً»، وأمّا إذا كان البحث على نحو مفاد «كان» التامّة ـ أيتحقّق الموضوع وعدم تحقّقه ـ فهذا لا يكون بحثاً عن العوارض.
إذا عرفت هذا فنقول: لاشكّ في أنّ قولك: «هل يثبت قول الإمام عليهالسلام بخبرزرارة أم لا؟» هو مفاد «كان» التامّة، أي البحث عن تحقّق الموضوع وعدمه،فلا يتحقّق عنوان العرض والمعروض، وحينئذٍ لا يكون داخلاً في مسائل علمالاُصول.
- (1) فرائد الاُصول 1: 156.
(صفحه 71)
وأمّا إن كان المراد منه الثبوت التعبّدي، وهو يكون في الحقيقة مفاد «كان»الناقصة، ولكنّه ممّا لا يعرض السنّة، بل يعرض الخبر الحاكي لها؛ لأنّ الثبوتالتعبّدي يرجع إلى وجوب العمل على طبق خبر زرارة كالسنّة المحكيّة، وهذمن عوارضه لا من عوارضها كما لا يخفى.
وبالجملة، الثبوت الواقعي ليس من العوارض، والتعبّدي وإن كان منها إلأنّه ليس من عوارض السنّة، فالإشكال في محلّه؛ إذ لا يكون خبر زرارةمصداقاً للأدلّة الأربعة. هذا كلّه في صورة كون المراد من السنّة السنّة المحكيّة.
وأمّا إن كان المراد أعمّ منها، أي الجامع بين السنّة الحاكية والمحكيّة وإنكان البحث في حجّيّة خبر الواحد والتعادل والترجيح عن أحوال السنّة بهذالمعنى، إلاّ أنّ البحث في غير واحد من مسائل علم الاُصول كمباحث الألفاظوجملة من غيرها لا يختصّ بالأدلّة الأربعة، بل أعمّ منها، فإنّك حين تقول:هل تدلّ هيئة «افعل» على الوجوب أم لا؟ وهل المشتقّ حقيقة في المتلبّس أوأعمّ منه؟ لاشكّ في أنّهما أعمّان من الأمر والمشتقّ في الأدلّة وغيرها وإن كانالمهمّ معرفة أحوال خصوصهما، ويؤيّد التعميم تمسّكهم بالتبادر واللّغة وفهمالعُرف، وتعريف الاُصول بأنّه: «علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الأحكامالشرعيّة»، فإذا كان البحث فيها أعمّ لا يكون البحث عن عوارض الأدلّة.
ويمكن أن يقال: في مقام الدفاع عن صاحب الفصول: بأنّ البحث وإن كانعن مطلق الأوامر والمشتقّات، ولكن لا مانع من أن يكون العرض الذاتيللجنس عرضاً ذاتيّاً للنوع أيضاً، فالبحث عن أحوال المشتقّ يكون بحثاً عنالعوارض الذاتيّة للأدلّة الأربعة أيضاً.
وجوابه: أنّ هذا مخالف لرأي صاحب الفصول في مسألة العرض، فإنّه
(صفحه72)
لا يقول: بأنّ العرض الذاتي للجنس يكون عرضاً ذاتيّاً للنوع، كما لا يخفى علىالمتأمّل في المقام.
والحاصل: أنّه لو كان موضوع علم الاُصول هو الأدلّة الأربعة مع وصفكونها أدلّة أو ذوات الأدلّة فكلاهما مخدوش.
والرأي الثاني في المسألة هو رأي صاحب الكفاية قدسسره وهو: أنّ موضوع علمالاُصول هو الكلّي المنطبق على موضوعات مسائله المتشتّة، ولا يكون لهعنوان خاصّ واسم مخصوص، بل يكون قابلاً للإشارة إليه عن طريق الآثار،مثل القدر الجامع الذي يكون بين موضوعات مسائل علم الاُصول.
وفيه: مع بعده عن الذهن قد كان مثل هذا النظر عاراً في علم الاُصول معكثرة البحث والمباحثة فيه، ومع اهتمام العلماء به، كما قال الإمام ـ دام ظلّه ـ فيرسالته المدوّنة في هذا المقام.
والرأي الثالث في المسألة هو رأي اُستاذنا السيّد المرحوم البروجردي وهورأي اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ وقد اتّفقا على أنّ موضوع علم الاُصولعبارة عن عنوان «الحجّة في الفقه» ولكن اختلفا في تقريب المسألة.
فقال المرحوم البروجردي(1): إنّ كثيراً من مسائل علم الاُصول تكونمحمولاته «الحجّة»، مثلاً: تقول في مسألة حجّيّة الخبر: هل الخبر الواحد حجّةأم لا؟ وفي مسألة حجّيّة ظواهر الخبر: هل الخبر الواحد حجّة أم لا؟ وفيمسألة حجّيّة ظواهر الكتاب: هل الظواهر حجّة أم لا؟ وفي بابالاستصحاب: هل هو حجّة مطلقاً أو في بعض الموارد، أو لم يكن بحجّة أصلا؟
وهناك عدّة من المسائل وإن لم تكن محمولاتها كلمة «الحجّة» ولكن ترجع
- (1) نهاية الاُصول 1: 15 ـ 16.
(صفحه 73)
في الواقع إليها، مثلاً: إذا قلنا: الموضوع له في هيئة «افعل» ما هو؟ فلا يكونالمراد فيه بحثاً لغويّاً، بل المراد منه أنّ هيئة «افعل» هل هي حجّة في الوجوبأم لا؟ وهكذا المراد في هيئة «لا تفعل» بأنّها حجّة على التحريم أم لا؟ وحقيقةالبحث في المشتقّ ترجع إلى أنّ المشتقّ بالنسبة إلى المنقضي حجّة أم لا؟ وفيباب البراءة الشرعيّة إلى أنّ احتمال التكليف حجّة للمكلّف أم لا؟ ولا يخفى أنّالحجّة في الاصطلاح الاُصولي ليس هو الحدّ الوسط المنطقي كما قال به الشيخالأنصاري قدسسره ، بل هي بمعناها اللّغوي، أعني: ما يحتجّ به المولى على عبده فيمقام التكليف وبالعكس في مقام الامتثال.
ثمّ قال: وكيف كان فهذه المسائل كلّها مسائل اُصوليّة. نعم، بعض المباحثالذي لا يكون المبحوث عنه فيه حيثيّة الحجّة يكون خارجاً عن الاُصولويدخل في سلك المبادئ، كمسألة مقدّمة الواجب ومبحث الضدّ وأمثالهما.
وبالجملة، إذا كانت محمولات المسائل هي كلمة الحجّة، فالجامع بينهـ أعني: عنوان الحجّة في الفقه ـ موضوع لعلم الاُصول.
أقول: لا مانع من إرجاع هذين المسألتين أيضاً إلى المسائل المذكورةوجعل المحمول فيهما كلمة الحجّة بالنحو الذي ذكرته، ونقول في المسألةالاُولى: هل الوجوب في ذي المقدّمة حجّة عقلاً على وجوب المقدّمة أم لا؟وفي المسألة الثانيّة: هل الأمر بالإزالة حجّة على تحريم الصلاة أم لا؟ فلا نعلمدليل خروجهما من المسائل ودخولهما في المبادئ.
وأمّا اُستاذنا السيّد الإمام ـ دام ظلّه ـ(1) فإنّه يرى بأنّ «الحجّة في الفقه»جامع بين الموضوعات، وقال: لا منافاة بين كونها محمولاً في المسائل وجعله
- (1) هذا ممّا استفاد الاُستاذ من درس اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره .
(صفحه74)
جامعاً بين الموضوعات؛ إذ لا مانع من كون القضايا في العلوم الاعتباريّةبعكس المحمول، مثلاً: تقول في مسألة خبر الواحد حجّة: الحجّة خبر الواحد،ويؤيّد أولويّة جعل كلمة الحجّة موضوعاً فيها معلوميّة الحجّة في الأحكام،فإنّا لا نشكّ في أنّ للأحكام والقوانين أدلّة وحججاً، ولكن المجهول عندنتعيُّناتها وتشخُّصاتها ومصاديقها كخبر الواحد وظواهر الكتاب ونحوهما، ففيالحقيقة الحجّة هو الموضوع في المسائل، فإنّها أمر معلوم، ولذا جعل الموضوعفي علم الفلسفة «الموجود ربما هو موجود» مع أنّ الموجود في مسائله يكونمحمولاً لها، وهكذا في مسائل علم الاُصول. هذا تمام كلامهما.
نكتة: إذا قلنا مثلاً: «زيد إنسانٌ» فلا يكون معناه كون «إنسان» مصداقلطبيعة الإنسان بدون «زيد»، بل كلاهما مصداق لها، بل الأولى في الفرديّةوالمصداقيّة هو «زيدٌ»، فإنّ «الإنسان» كلّي ومبهمٌ، و«زيد» متعيّن ومتشخّصٌ.
إذا عرفت هذا فنقول: أوّلاً: أنّ الموضوع في علم الاُصول هو الجامع بينالموضوعات لا المحمولات. وثانياً: لا نحتاج إلى قلب القضايا في مسائل علمالاُصول؛ إذ لا فرق في كون «الحجّة» موضوعاً فيها أو محمولاً؛ لأنّ الخبرالواحد أو ظاهر الكتاب أو نحوهما وإن كان موضوعاً فيها ولكنّها أولى فيالفرديّة والمصداقيّة للحجّة في الفقه، فإنّها مصاديق متعيّنة ومتشخّصة،والمقصود في الواقع من قضيّة الخبر الواحد حجّةٌ لا يكون إلاّ تعيّن الحجّة،والحجّة الأجلى هو خبر الواحد. وعلى هذا فالجامع بين الموضوعات ـ أيالحجّة في الفقه ـ هو الموضوع في علم الاُصول.