(صفحه10)
في البين.
ودعوى: أنّ الانبعاث لم يكن مسبّبا عن البعث، بل يكون مسبّبا عنالصورة الذهنيّة لتحقّقه في صورة الجهل المركّب أيضا؛ مدفوعة: بأنّ الصورةالذهنيّة حيث كانت كاشفة عن الواقع وحاكية له يكون الانبعاث معهمستندا إلى الواقع، وهي وسيلة إلى النيل به والوصول إليه، فالباعث فيالحقيقة هو نفس البعث لا الصورة الذهنيّة، كيف؟ وهذه الصورة مغفول عنهغيرمتوجّه إليها؛ لأنّ العالم بالبعث لايرى إلاّ نفس البعث، ولا يتوجّه إلىصورته المعلومة بالذات أصلاً، ومن هنا نرى إظهار الندامة والاشتباه منالمكلّف إذا كان انبعاثه مستندا إلى تخيّل البعث والصورة الذهنيّة فقط عندكشف الخلاف، فإذا كانت الصورة الذهنيّة مطابقة للواقع يتحقّق استنادالانبعاث إلى المعلوم بالعرض والمعلوم بالذات معا، ولا أقلّ من ذلك، ففيصورة العلم يكون الانبعاث مستندا إلى البعث بالتبع دائما.
وأمّا الإشكال الذي يختصّ بالاحتياط في الشبهات البدويّة والانبعاث عناحتمال البعث، فالجواب عنه: أنّه لا شكّ في تحقّق عنوان الإطاعة هنا، بلالمنبعث عن البعث الإحتمالي يكون في مرتبة عالية من الإطاعة ممّن ينبعث عنالعلم بالبعث فقط.
وأمّا الإشكال الذي يختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، فتارة منجهة التكرار، واُخرى من أجل اعتبار قصد القربة والوجه ونظائرهمفي العبادة.
أمّا الجهة الاُولى فمحصّلها: أنّ تكرار العبادة مع إمكان تحصيل العلمالتفصيلي يعدّ لعبا بأمر المولى، واللعب والبعث ينافي العبوديّة التي هي غايةالفعل العبادي، بل نقول: إنّ حصول اللعب بالتكرار لايختصّ بالعبادة، بل
(صفحه 11)
يجري في غيرها.
ألاترى أنّه لو علم عبد بأنّ المولى طلب منه إحضار شخص مردّد بين عدّةأشخاص، وكان قادرا على تحصيل العلم التفصيلي بمطلوب المولى، ولكن اكتفىبالامتثال الإجمالي، فاحضر عدّة من العلماء وعملة المولى وجماعة منالصنوف المختلفة، يعدّ لاعبا بأمر المولى، وأنّه في مقام الاستهزاء والسخرية،فيستفاد منه أنّ التكرار لعب بأمر المولى فلا يجوز.
وجوابه: أوّلاً: أنّ المدّعى هو كون التكرار مطلقا لعبا بأمر المولى، وهولايثبت بكونه لعبا في بعض الموارد كما في مثل المثال؛ لأنّ كثيرا من مواردالتكرار لايكون فيه لعب أصلاً.
ألاترى أنّه لو كان له ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس، وكان قادرا علىغسل أحدهما، ولكن كان ذلك متوقّفا على تحمّل المشقّة وصرف وقت كثير،فصلّى فيهما معا، هل يعدّ هذا الشخص لاعبا ولا غيا؟ وكذا لو دار الواجب فييوم الجمعة بين الظهر وصلاة الجمعة وكان قادرا على السؤال من الفقيهـ مثلاً ـ ولكن كان له محذور عرفي في السؤال، إمّا من ناحيته، أو من ناحيةالفقيه، فجمع بينهما، هل يعدّ لاعبا؟ كلاّ. وبالجملة، فالمدّعى لايثبت بماذكره.
وثانياً: لو فرض كون التكرار لعبا وعبثا، لكن نقول: إنّ المعتبر في صحّةالعبادة أن يكون أصل الإتيان بها بداعي تعلّق الأمر بها من المولى، وأمّالخصوصيّات الخارجة عن حقيقة العبادة ـ كالمكان والزمان ونحوهما في مثلالصلاة ـ فلا يعتبر أن يكون الإتيان بها بداعي الأمر، بل لاوجه له بعد كونهخارجة عن متعلّق الأمر، كيف؟ ولو اعتبر الإخلاص فيها يلزم عدم صحّةشيء من العبادات، مثل إتيانها في فصل الحرارة في المكان البارد، وفي فصلالبرودة في المكان الحارّ، ونحو ذلك.
(صفحه12)
والحاصل: أنّ المراد بكون التكرار لعبا إن كان هو اللعب بأمر المولى فذلكممنوع جدّا؛ لأنّه ليس لعبا إلاّ في كيفيّة الإطاعة، وإن كان هو اللعب ولو فيخصوصيّات العمل فنمنع كون هذا اللعب مؤثّرا في البطلان.
وأمّا الجهة الثانية فمحصّلها: أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة والوجه والتمييزوالجزم بالنيّة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ مع العلم التفصيلي بالمأمور به.
وجوابها: أنّه لا مانع من تحقّق قصد القربة والوجه والتمييز في الامتثالأيضا، بصورة التعليق، والقول بأنّي اُصلّي صلاة الجمعة لوجوبها إن كانتواجبة، وكفاية احتمال المقرّبيّة لقصد القربة وإتيان العمل بداعي احتمال المقرّبيّةلايكون قابلاً للإنكار.
نعم، الجزم بالنيّة لايتحقّق إلاّ مع العلم التفصيلي، ولكن لا دليل علىاعتباره في العبادة، لعدم الدليل عليه لا عقلاً ولا شرعا.
أمّا عقلاً فواضح، وأمّا شرعا فلخلوّ النصوص عن الدلالة على اعتباره،ومن الواضح أنّ الأمر بالشيء لايقتضي إلاّ مجرّد الإتيان في الخارج، فإطلاقدليل الأمر دليل على العدم، بناء على ما حقّقنا في مباحث الألفاظ من إمكانتلك الاُمور كلّها في متعلّق الأمر، وعلى تقدير القول بعدم الإمكان فحيث إنّهلا سبيل للعقل إلى تشخيص كونها معتبرة، بل اللازم أن يبيّنه الشارع،والمفروض عدم دليل شرعي على اعتبارها، فلا وجه للقول به قبل جريانأصالة البراءة. ومن هذه الجهة أيضا لا فرق في جريانها بين أجزاء الصلاةوبين الاُمور المذكورة.
نعم، قد يستدلّ بالإجماع على بطلان العمل بالاحتياط، كما ادّعاه السيّدالرضي(1) على بطلان صلاة من صلّى ولا يعلم أحكامها، ومقتضى عمومه
- (1) ذكري الشيعة 4: 325، فرائد الأصول 2: 508.
(صفحه 13)
بطلان صلاة المحتاط، وكما أنّه قد ادّعى الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقيالاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط، ولكنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحدفاقد للحجّيّة والاعتبار كما ثبت في محلّه، فلا إشكال في صحّة عبادة المحتاط.
فالإشكالات الواردة على الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجماليوإن كان مستلزما لتكرار العبادة قابلة للدفع.
وأمّا الإشكال الراجع إلى الاحتياط فيما إذا كان على خلافه حجّة شرعيّةفهو ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله ومحصّله: أنّه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كانعلى خلافه حجّة شرعيّة أن يعمل المكلّف أوّلاً بمؤدّى الحجّة، ثمّ يعقّبهبالعمل على خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازا للواقع، وليس للمكلّف أن يعملبالعكس إلاّ إذا لم يستلزم الاحتياط استئناف جملة العمل وتكراره.
والسرّ في ذلك: أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملوعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاءاحتمال الخلاف، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا بخلاف ما إذقدّم العمل بمؤدّى الطريق، فإنّه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفة وعمل بميقتضيه الطريق، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع. هذا،مضافا إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعةالتفصيليّة، وبعد قيام الطريق المعتبر يكون المكلّف متمكّنا من الامتثالالتفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منه الامتثال الإحتمالي(1). إنتهى.
وجوابه: أوّلاً: أنّ تقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتماليممنوع، بل الظاهر كونهما في عرض واحد ورتبة واحدة، فمع التمكّن من تحصيل
- (1) فوائد الاُصول 4: 265.
(صفحه14)
العلم يجوز له الاقتصار على الامتثال الإحتمالي.
والسرّ: أنّه لايعتبر في تحقّق الإطاعة أزيد من الإتيان بالمأمور به مع جميعالقيود المعتبرة فيه ولو بداعي احتمال الأمر، ولا فرق بينهما في نظر العقل أصلاً.
وثانياً: أنّ معنى حجّيّة الأمارة واعتبارها ليس إلاّ مجرّد وجوب العمل علىطبقها وترتيب آثار الواقع عليها في مقام العمل، وأمّا دلالة دليل الحجّيّة علىلزوم إلقاء احتمال الخلاف فلمنعرف لها وجها، فإنّ مفاد بناء العقلاء الذي هوالدليل المهمّ لحجّيّة الخبر ليس إلاّ بناء العمل على طبقه وترتيب الأثر عليهعملاً، ولا يستفاد منه إلقاء احتمال الخلاف في مقام العمل، وعلى فرضاستفادته منه لافرق في تحقّق الاعتناء باحتمال الخلاف بين تقدّم العمل بمؤدّىالطريق وتأخّره.
فانقدح من جميع ماذكرنا: أنّه لايعتبر في حسن الاحتياط شيء زائد علىتحقّق موضوعه وهو احتمال التكليف، هذا كلّه في الاحتياط.