(صفحه 383)
حكماً ظاهريّاً(1).
وقريب من هذا ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بأنّ قبح تأخير البيان عنوقت العمل فيما إذا لم يكن هناك مصلحةُ في إخفاء الخصوصيّات أو مفسدة فيإبدائها(2).
وقد قرّب الشيخ الأنصاري قدسسره الاحتمال الثالث واستبعد الاحتمال الأوّل؛لاستلزامه كثرة النسخ، وكذا الاحتمال الثاني؛ لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائنالمتّصلة واهتمام الرواة بحفظها.
ولكن قرّب هذا الاحتمال المحقّق النائيني قدسسره (3)؛ نظراً إلى أنّ كثيراً منالمخصّصات المنفصلة المرويّة عن طرقنا عن الأئمّة عليهالسلام مرويّة عن العامّة بطرقهمعن النبيّ صلىاللهعليهوآله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علينا، بل احتملاستحالة الوجه الثالث بما أفاده في التقريرات.
ولكنّ الظاهر عدم تماميّة شيء من الاحتمالات الثلاثة، بل التحقيق: أنّجميع الأحكام الإلهيّة والقوانين الشرعيّة من العموم والخصوص، والمطلقوالمقيّد، والناسخ والمنسوخ قد صدر تبليغها من الرسول الأكرم وبيّنها للناسفي مدّة نبوّته.
والشاهد عليه ما ذكره صلىاللهعليهوآله في خطبة حجّة الوداع ممّا يدلّ على أنّه نَهَىالناس عن كلّ شيء يقرّبهم إلى النار ويبعّدهم عن الجنّة، وأمرهم بكلّ شيءيقرّبهم إلى الجنّة ويباعدهم عن النار(4).
والإشكال في أنّ الأحكام التي بلّغها الرسول صلىاللهعليهوآله قد ضبطها وجمعها أمير
- (2) كفاية الاُصول 2: 405.
- (3) فوائد الاُصول 4: 737.
- (4) الوسائل 17: 45، الباب 12 من أبواب مقدّمات التجارة، الحديث 2.
(صفحه384)
المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه في صحيفته، وهو أعلم الناس بعد رسولاللّه صلىاللهعليهوآله بذلك، لكنّهم أعرضوا عنه وزعموا استغنائهم بكتاب اللّه؛ لأجلاستيلاء الشياطين على اُمورهم وتبعيّتهم لهم.
والشاهد عليه ما أفاده أمير المؤمنين عليهالسلام في جواب سليم بن قيس منتقسيم الصحابة إلى أربع طوائف، وتفصيل القضيّة: أنّه حكى أبان عن سليم،قال: قلت يا أمير المؤمنين، إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبيذر شيئاً منتفسير القرآن، ومن الرواية عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعتمنهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القران ومن الأحاديثعن النبيّ صلىاللهعليهوآله تخالف الذي سمعته منكم، وأنتم تزعمون أنّ ذلك باطل، أفترىالناس يكذبون على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدين ويفسّرون القرآن برأيهم؟ قال:فأقبل عليّ عليهالسلام فقال لي: «يا سليم، قد سألت فافهم الجواب:إنّ في أيدي الناسحقّا وباطلاً، وصدقا وكذبا، وناسخا منسوخا، وخاصّا وعامّا، ومحكممتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسولاللّه صلىاللهعليهوآله على عهده حتّى قامخطيبا فقال: أيّها الناس، قد كثرت عليّ الكذّابة، فمن كذب عليّ معتمّدا فليتبوّءمقعده من النار، ثمّ كذب عليه من بعده حتّى توفّي رحمة اللّه على نبيّ الرحمةوصلّى اللّه عليه وآله، وإنّما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام، لايتأثّم ولا يتحرّج أن يكذبعلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدا، فلو علم المسلمون أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولميصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، رآه وسمع منه، وهو ليكذب ولا يستحلّ الكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقد أخبر اللّه عن المنافقين بمأخبر ووصفهم بما وصفهم، فقال اللّه عزّ وجلّ «وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْوَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(1)، ثمّ بقوا بعده وتقرّبوا إلى أئمّة الضلال والدعاة
(صفحه 385)
إلى النار، بالزور والكذب والنفاق والبهتان، فولّوهم الأعمال، وحملوهم علىرقاب الناس، وأكلوا بهم من الدنيا، وإنّما الناس مع الملوك في الدنيا إلاّ منعصم اللّه، فهذا أوّل الأربعة.
ورجل سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فلم يحفظه على وجهه، ووهم فيه ولم يتعمّدكذبا، وهو في يده يرويه ويعمل به ويقول: أنا سمعته من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، فلو علمالمسلمون أنّه وهم لم يقبلوا، ولو علم هو أنّه وهم فيه لرفضه.
ورجل ثالث سمع من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم، أوسمعه نهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ،فلو علم أنّه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون أنّه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.
ورجل رابع لم يكذب على اللّه ولا على رسول اللّه؛ بغضا للكذب، وتخوّفا مناللّه، وتعظيما لرسوله صلىاللهعليهوآله ، ولم يوهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به كمسمعه، ولم يزد فيه ولم ينقص، وحفظ الناسخ من المنسوخ، فعمل بالناسخورفض المنسوخ، وأنّ أمر رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ونهيه مثل القرآن ناسخ ومنسوخ، وعامّوخاصّ، ومحكم ومتشابه، وقد كان يكون من رسول اللّه صلىاللهعليهوآله الكلام له وجهان:كلام خاصّ وكلام عامّ، مثل القرآن يسمعه من لا يعرف ما عنى اللّه به، وما عنى بهرسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، وليس كلّ أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كان يسأله فيفهم، وكان منهممن يسأله ولا يستفهم حتّى أن كانوا يحبّون أن يجيئ الطارئ [أي الغريب الذيأتاه عن قريب من غير اُنس به وبكلامه [والأعرابي، فيسأل رسول اللّه صلىاللهعليهوآله حتّىيسمعوا منه، وكنت أدخل على رسولاللّه صلىاللهعليهوآله ، كلّ يوم دخلة، وكلّ ليلة دخلة،فيخلّيني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أنّه لم يكنيصنع ذلك بأحد من الناس غيري، وربّما كان ذلك في منزلي يأتيني رسول
(صفحه386)
اللّه صلىاللهعليهوآله ، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه، فلم يبق غيريوغيره، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا أحد من ابنيّ، وإذسألته أجابني، وإذا سكت اُو نفدت مسائلي ابتدأني، فما نزلت عليه آية منالقرآن إلاّ أقرأنيها وأملاها عليّ، فكتبتها بخطّي، ودعا اللّه أن يفهّمني إيّاهويحفّظني، فما نسيت آية من كتاب اللّه منذ حفظتها، وعلّمني تأويلها فحفظته،وأملاه عليّ فكتبته، وما تَرك شيئا علّمه اللّه من حلال وحرام، أو أمر ونهي، أوطاعة ومعصيّة، كان أو يكون إلى يوم القيامة، إلاّ وقد علّمنيه وحفظته، ولم أنسمنه حرفا واحدا...»(1)، إلى آخر.
والمستفاد من الرواية ـ بعد كون سليم بن قيس وكتابه موردا للاعتماد بيان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله جميع المسائل المربوطة بالحلال والحرام إلى يوم القيامةوضبطها في صحيفة على حدة غير القرآن بواسطة أمير المومنين عليهالسلام ، والقرآنالمكتوب بيده عليهالسلام واجد لجميع الخصوصيّات المربوطة بكلّ آية من البدو إلىالختم من شأن النزول والتأويل والتفسير، ولكنّه لا يكون زائدا ولا ناقصعن القرآن الموجود في أيدينا. نعم، يمكن أن يكون متفاوتا في ترتيب السور.
والمستفاد من الرواية قريب من الاحتمال الثاني المذكور في كلام الشيخ قدسسره إلأنّه يتحقّق الفرق بينهما بأنّ مفاد هذا الاحتمال أن تكون المخصّصات المنفصلةكاشفة عن اتّصال كلّ عام بمخصّصه، سواء صدر عن رسول اللّه صلىاللهعليهوآله أو عنسائر الأئمّة عليهالسلام ، وقد خفيت علينا ووصلت إلينا منفصلة، وما استفدناه منالرواية هو صدور جميع العمومات والمخصّصات من لسان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فيزمانه، وما ذكره سائر الائمّة هو بيان ثانٍ لما صدر عنه صلىاللهعليهوآله أوّلاً.
مضافا إلى تحقّق المخصّصات المنفصلة أيضا بلسان رسول اللّه مع رعاية
- (1) كتاب سليم بن قيس الكوفي: 181.
(صفحه 387)
شرطها ـ أي قبل وقت العمل بالعامّ ـ ومنشأ الاختلاف وعدم إيصالالأحكام إلينا بتمامها هو سدّ باب العلم وحرمان الناس من معدن الوحيوالحكمة.
وعلى هذا لا يلزم من الالتزام بالتخصيص في تلك المخصّصات الكثيرةتأخير البيان عن وقت العمل أصلاً.
إذا عرفت ذلك: يقع الكلام في تقديم التخصيص على النسخ أو العكس فيمإذا دار الأمر بينهما، وقد ذهب إلى كلٍّ فريق، ولا بدّ قبل الورود في البحث منبيان أنّ محلّ النزاع يختصّ بمجرّد دوران الأمر بينهما مع قطع النظر عن وجودما يدلّ بظاهره على ترجيح أحدهما.
فما أفاده المحقّق النائيني قدسسره ـ من تقدّم التخصيص على النسخ؛ نظرا إلى أنّالنسخ يتوقّف على ثبوت حكم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد، ومقتضىحكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالة الظهور في طرف العامّ هوعدم ثبوت حكم العامّ لأفراد الخاصّ، فيرتفع موضوع النسخ(1) ـ موردللإشكال:
أوّلاً: بأنّ هذاالأمر مبنائيّ، وقد ذكرنا في مسألة علّة تقدّم الدليل الخاصّعلى الدليل العامّ نظر أعاظم أهل الفنّ وما التزم به المحقّق النائيني قدسسره ـ منكونهما من مصاديق القرينة وذي القرينة، وحكومة أصالة الظهور في طرفالقرينة على أصالة الظهور في طرف ذي القرينة بعنوان القاعدة الكلّيّة ـ وقلنا:إنّ علّة تقدّمه عليه عدم التنافي والتعارض بينهما عند العرف والعقلاء في محيطالتقنين، ولا يرتبط بمسألة القرينة وذي القرينة.
وثانياً: أنّ البحث فيما إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص قبل إحراز
- (1) فوائد الاُصول 4: 738.