(صفحه 413)
المقصد الأوّل
في الخبرين المتعارضين المتكافئين بحيث
لم تكن مزيّة وترجيح لأحدهما في البين
والكلام في ذلك قد يقع في حكمهما بنظر العقل، وقد يقع فيما يستفاد منالأخبار العلاجيّة الواردة في هذا الباب، وعلى تقدير الأوّل تارة يبحث فيهمبناء على كون الوجه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء ـ كما عرفت ـ أنّه الموافقللتحقيق، واُخرى يبحث في حكمهما بناء على دلالة الدليل الشرعي منالآيات والروايات على اعتبار خبر الواحد، وعلى التقديرين تارة يتكلّم فيذلك بناء على الطريقيّة والكاشفيّة واُخرى بناء على الموضوعيّة والسببيّة.
مقتضى الأصل بناءً على الطريقيّة
فنقول: لو كان الوجه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء وسيرتهم عملاً علىالاعتماد على قول المخبر الموثّق، بناء على الكاشفيّة والطريقيّة، فمع التعارضوعدم المزيّة لا محيص عن القول بتساقطهما وعدم حجّيّة واحد منهما في مدلولهالمطابقي، بل وجوده بالنسبة إليه كالعدم، وذلك لوجهين:
أحدهما: أنّه لا شبهة في أنّ اعتبار الخبر عند العقلاء إنّما هو لأجل كاشفيّته
(صفحه414)
عن الواقع وإرائته له وأماريّته بالنسبة إليه، ومن الواضح أنّ الإراءة والكشفإنّما هو مع عدم ابتلائه بمعارض مماثل أو أقوى؛ ضرورة أنّه مع هذا الابتلاءيتردّد الطريق والكاشف بينهما؛ إذ لايعقل كون كلّ واحد منهما مع وجودالآخر كاشفا، وإلاّ لزم الخروج عن حدّ التعارض، ومع تردّد الطريقوالكاشف وعدم وجود مرجّح في البين لابدّ من التوقّف؛ لأنّ الأخذ بالمجموعممّا لايمكن، وبواحد ترجيح من غيرمرجّح.
وهذا نظير ما لو أخبر مخبر واحد بخبرين متعارضين، فكما أنّه لايكونشيء من الخبرين هناك بكاشف ولا طريق، كذلك لايكون شيء من الخبرينهنا بكاشف.
ثانيهما: أنّ معنى حجّيّة الخبر إنّما هو عبارة عن صحّة احتجاج المولى بهعلى العبد، وهي متوقّفة على شروط ثلاثة: الأوّل: تحقّق البيان من المولى،الثاني: ايصاله إلى العبد، والثالث: عدم ابتلائه بالمانع، وإن لميكن كذلك لايبقىللمولى حقّ المؤاخذة والاعتراض، فإذا كانت صلاة الجمعة واجبة واقعوكانت الأمارة الدالّة على ذلك غيرواصلة إلى المكلّف لايجوز للمولى المؤاخذةوالاعتراض لأجل الترك؛ لأنّ البيان الذي يسدّ باب البراءة العقليّة الراجعةإلى عدم استحقاق العقوبة مع عدم وصول التكليف إنّما هو البيان الواصل إلىالمكلّف، ومع الجهل به لامخرج للمورد عن البراءة، ومعلوم أنّ مع ابتلاء البيانالواصل بمعارض مماثل لايصحّ للمولى الاحتجاج أصلاً، وهذا ممّا لا شبهةفيه.
فاتّضح أنّ الخبرين المتكافئين لايكون شيء منهما حجّة بالنسبة إلىمدلولهما المطابقي.
وأمّا بالنسبة إلى المدلول الالتزامي الذي يشترك فيه الخبران ولا معارضة
(صفحه 415)
بينهما فيه، كعدم الاستحباب والكراهة والإباحة فيما إذا قام أحد الخبرين علىالوجوب والآخر على التحريم إذا تحقّق الاحتمال الثالث في البين ولا نعلمبانحصار الحكم الواقعي فيهما، فلا شبهة في حجّيّتهما بالنسبة إليه، إنّما الإشكالفي أنّ الحجّة بالنسبة إليه، هل هو كلا الخبرين أو واحد منهما معيّن بحسبالواقع، وهو الخبر الذي لميعلم كذبه؟
ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله القول بالأوّل حيث قال في مقام بيانتوهّم سقوط المتعارضين عن الحجّيّة بالنسبة إلى نفي الثالث أيضا: «إنّ الدلالةالالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة، وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لمجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث».
ثمّ قال في مقام دفع التوهّم وبيان فساده: «إن الدلالة الالتزاميّة إنّما تكونفرع الدلالة المطابقيّة في الوجود لا في الحجّيّة».
ثمّ قال: «وبعبارة أوضح: الدلالة الالتزاميّة للكلام تتوقّف على دلالتهالتصديقيّة ـ أي دلالته على المؤدّى ـ وأمّا كون المؤدّى مرادا فهو ممّا لايتوقّفعليه الدلالة الالتزاميّة، فسقوط المتعارضين عن الحجّيّة في المؤدّى لايلازمسقوطهما عن الحجّيّة في نفي الثالث؛ لأنّ سقوطهما عن الحجّيّة في المؤدّى إنّمكان لأجل التعارض، وأمّا في نفي الثالث فلا معارضة بينهما، بل يتّفقان فيه،فيكونان معا حجّة في عدم الثالث»(1).
ويرد عليه: أنّه مع العلم بكذب أحدهما واقعا بالنسبة إلى المدلول المطابقيـ لكونه لازم لاينفكّ عن التعارض ـ كيف يمكن كونه حجّة بالنسبة إلىالمدلول الالتزامي؟ ألاترى أنّه لو كان هنا خبر واحد فقط مع عدم الابتلاءبالمعارض وعلم من الخارج بكذبه، فهل يرضى أحد مع ذلك بكون العلم
- (1) فوائد الاُصول 4: 755 ـ 756.
(صفحه416)
بالكذب يوجب سقوطه في خصوص مدلوله المطابقي، وأمّا المدلول الالتزاميفهو بالنسبة إليه حجّة؟! وكذلك المقام، فإنّا لانتعقّل مع العلم بكذب واحد منالخبرين أن يكونا معا حجّة بالنسبة إلى نفي الثالث الذي هو من اللوازمالعقليّة للمدلول المطابقي.
فالحقّ ما اختار المحقّق الخراساني رحمهالله من كون الحجّة على نفي الثالث هوأحدهما الغير المعيّن الذي هو الخبر الذي لميعلم كذبه؛ لا الخبرين معا(1).
وأمّا ما ذكر المحقّق النائيني رحمهالله من التفكيك بين الوجود والحجّيّة فلا دليلعليه؛ إذ الخبر إذا كان حجّة يكون مدلوله المطابقى موجودا، ومع الوجودلامجال للتفكيك بين المدلولين، وليست الدلالة الالتزاميّة من الدلالات اللفظيّةحتّى لايكون دلالة اللفظ عليها متوقّفة على دلالته على المدلول المطابقي وإنعدّت هذه الدلالة في المنطق من جملة تلك الدلالات، وذلك لأنّ دلالة اللفظعلى أمر خارج عمّا وضع له مع عدم كونه مجازا ممّا لايتصوّر، بل قد عرفتأنّ في المجازات أيضا لايكون اللفظ دالاًّ إلاّ على المعنى الحقيقي، والمعنىالمجازي هو المعنى الحقيقي ادّعاءً.
إن قلت: إنّ الالتزام بهذا المعنى يوجب عدم حجّيّة المتعارضين في نفيالثالث، فإنّ بعد كون نفي الثالث معنى التزاميّا، وتبعيّته للمدلول المطابقي وعدمارتباطه باللفظ مستقيماً، وسقوطهما عن الحجّيّة بالنسبة إلى المدلول المطابقيلايبقى دليل لنفي الثالث ولا طريق له.
قلت: لا مانع من التفكيك في الحجّيّة بالنسبة إلى الخبر الذي لميعلم كذبهويحتمل مطابقته للواقع بأنّه ساقط عن الحجّيّة بالنسبة إلى إثبات مدلولهالمطابقي، وأمّا من حيث الانتقال إلى المدلول الالتزامي وإثبات دلالته
- (1) كفاية الاُصول 2: 385.
(صفحه 417)
الالتزاميّة فلا يسقط عن الحجّيّة عند العقل، فإنّ حجّيّة المدلول المطابقيبعنوان الطريقيّة إلى المدلول الالتزامي خارجة عن دائرة التعارض، فالحجّيّةباقية من هذه الجهة بعد ابتلاء مدلوله المطابقي بالمعارض وكون مدلولهالالتزامي مورد توافق كلا الخبرين المتعارضين.
هذا كلّه بناءً على كون الوجه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء على العمل بهفي جميع اُمورهم كما أنّه هو الوجه.
وأمّا بناءً على كون الدليل لحجّيّة خبر الواحد عبارة عن الآياتوالروايات التي استدلّ بها على ذلك، فتارة يقال بكونها مهملة غيرشاملةلحال التعارض؛ لكونها في مقام إثبات حجّيته في الجملة من دون النظر إلىخصوصيّات مثل صورة التعارض والتخالف.
واُخرى بكونها مطلقة، وعلى هذا التقدير قد يراد بالإطلاق الإطلاقالشمولي اللحاظي بمعنى لحاظ الشمول والسريان بالإضافة إلى جميع أفرادالطبيعة، وقد يراد به الإطلاق الذاتي، فإن كانت الأدلّة مهملة غيرشاملة لحالالتعارض فيكون حكم صورة التعارض واضحا؛ إذ لا دليل حينئذ علىحجّيّة واحد من الخبرين، فيسقطان عن الاعتبار الذي كان ثابتا لهما في حالعدم المعارضة وإن كانت مطلقة بالإطلاق الشمولي اللحاظي فاللازم أن يقالبثبوت التخيير في حال التعارض، وإلاّ تلزم اللغوية؛ إذ لايمكن الجمع بينهموالأخذ بهما معا، ولا فائدة في التعبّد بصدورهما ورفع اليد عن مفادهما لتحقّقالتعارض بينهما، فلابدّ من الالتزام بالتخيير في هذه الصورة.
وإن كان المراد به هو الإطلاق الذاتي بمعنى كون ماهيّة خبر الواحدوطبيعته محكوما بالحجّيّة، وهو الذي اخترناه وحقّقناه في باب المطلق والمقيّد،فقديقال: بأنّ اللازم حينئذ التخيير أيضا؛ نظرا إلى أنّ الدليل على اعتبار الخبر