(صفحه 319)
ويرد عليه: أنّ هذا خروج عن محلّ البحث؛ إذ الكلام ليس في الأوصافالمتعدّدة العارضة لموضوع واحد، كما لو قال المولى: «إذا كان زيد حيّاً عادليجوز تقليده» بمعنى أنّ زيداً إذا كان واجدا لوصف الحياة والعدالة، يجوزتقليده، ففي صورة الشكّ في بقاء الحياة والعدالة يجوز استصحابهما بلا إشكال؛إذ الموضوع ـ أي ماهيّة زيد ذاته ـ ليس بمشكوك لنا بقاء حتّى نجريالاستصحاب فيه، وبيانه في هذا المورد لاريب في تماميّته.
إنّما الكلام فيما كان الموضوع مشكوكاً لنا، كما لو قال المولى: «إذا كان زيدالحيّ عادلاً يجوز تقليده» ـ بحيث يكون «الحي» قيداً للموضوع ـ وشككنا فيبقاء الموضوع والعدالة، والمفروض أنّ بقاء الموضوع غير محرز لنا، هل يمكنإحراز الحياة بعنوان قيد الموضوع بالاستصحاب أم لا؟ قلنا بعدم إمكانإحرازه به؛ لعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه أوّلاً، وظاهر قول المولى كونالحياة مفروضة الوجود ومحرزة بالوجدان ثانيا.
فالحاصل: أنّ المعتبر في الاستصحاب اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة،وإحراز الاتّحاد بالوجدان لا بالاستصحاب.
هل الحاكم بالاتّحاد هو العرف أو لسان الدليل؟
ثمّ بعدما علم لزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فهل المناط في وحدتهمأن يكون موضوعهما واحدا بحكم العقل وتشخيصه أو بحكم العرفوتشخيصه، أو أنّ الموضوع في القضيّة المشكوكة لابدّ وأن يكون هوالذي اُخذفي الدليل الدّال، على الحكم في القضيّة المتيقّنة؟
والفرق بين الأخذ من العقل وغيره واضح؛ لأنّ العقل قلّما يتّفق أو لايتّفق
(صفحه320)
أن لايشكّ في بقاء الموضوع في استصحاب الأحكام حتّى في باب النسخ؛ لأنّالشكّ في الحكم لايكون إلاّ من جهة الشكّ في تغيير خصوصيّة منخصوصيّات الموضوع.
وجميع الجهات التعليليّة ترجع إلى الجهات التقييديّة لدى العقل وتكوندخيلة في موضوعيّة الموضوع، فإذا ورد حكم على موضوع لايكون تعلّقه بهجزافاً بحكم العقل، فلابدّ من خصوصيّة في الموضوع لأجلها يكون متعلّقللحكم، ومع بقاء تلك الخصوصيّة الموجبة أو الدخيلة في المتعلّق مع سائرالخصوصيّات لايمكن رفع الحكم عن الموضوع، فإذا علم تعلّق حكم علىموضوع وشكّ في نسخه فلا يمكن أن يشكّ فيه مع العلم ببقاء جميعخصوصيّات الموضوع الدخيلة في تعلّق الحكم عليه من القيود الزمانيّةوالمكانيّة وغيرها؛ لأنّ ذلك يرجع إلى الجزاف المستحيل، وكثيراً مّايقعالإشكال في الاستصحابات الموضوعيّة أيضا كاستصحاب الكرّيّة.
وأمّا الفرق بين الأخذ من العرف أو موضوع الدليل فهو أنّ الحكم فيالدليل قد يثبت العنوان أو الموضوع المتقيّد بقيد بحيث يكون الدليل قاصرعن إثبات الحكم لغير العنوان أو غير مورد القيد، فإذا ارتفع العنوان أو القيديرتفع موضوع الدليل، كما إذا قال: «الماء المتغيّر نجس» وعلمنا بوجود الماءالمتغيّر بلحاظ الملاقاة مع النجس في الخارج، ثمّ زال تغيّره من قبل نفسه بعدمضي الأيّام، وشككنا في بقاء نجاسته، فلا إشكال في قصور الدليل الواقعيعن شمول غير العنوان المأخوذ في موضوعه لتغيّر موضوعه، فلا يمكن التمسّكبالدليل المذكور لإثبات حكم النجاسة له.
ولو بنينا على أخذ موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة من الدليل لايجريالاستصحاب أيضا لتغيّر الموضوع وعدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.
(صفحه 321)
وأمّا لو كان الاتّحاد بنظر العرف فجريانه ممّا لامانع منه؛ لأنّ هذا الماء كانمعلوم النجاسة، وزوال تغيّره من قبل نفسه ليس مغيّرا له إلاّ في حالهوعرضه، فيصير محكوما بالنجاسة بالاستصحاب؛ لعدم الاختلاف بين القضيّةالمشكوكة والمتيقّنة عرفا.
والمستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمهالله أنّ موضوع الدليل قد يكون بحسبالمتفاهم العرفي عنوانا، ولكّن أهل العرف يتخيّلون بحسب ارتكازهمومناسبات الحكم والموضوع أنّ الموضوع أعمّ من ذلك، لكن لابحيث يصيرذلك الارتكاز وتلك المناسبة موجبين لصرف الدليل عمّا هو ظاهره المفهومعرفا، كما إذا دلّ الدليل على أنّ العنب إذا غلى يحرم، وفهم العرف منه أنّالموضوع هو العنب بحسب الدليل، لكن يتخيّل بحسب ارتكازه تخيّلاً غيرصارف للدليل أنّ الموضوع أعمّ من الزبيب وأنّ العنبيّة والزبيبيّة من حالاتهالمتبادلة، بحيث لولم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب يكون عنده منارتفاع الحكم عن موضوعه.
فالفرق بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه من الدليل بحسب ماذكرأنّ موضوع الدليل هو العنوان حقيقة، لكن العرف تخيّل موضوعاً آخر غيرموضوع الدليل بل أعمّ منه، ويكون الموضوع الحقيقي غير باقٍ والموضوعالتخيّلي باقٍ، فيستصحب ـ مثلاً ـ ما ثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا؛ لبقاءالموضوع واتّحاد القضيّتين عرفا(1).
ويرد عليه: أنّ بعد عدم شمول الدليل للزبيب عرفا إن كان التخيّل العرفيوالارتكاز بحدّ صار بمنزلة القرينة الصارفة لظهور الدليل فيشمله نفس الدليلولا مجال للاستصحاب، وإن لم يكن بهذا الحدّ فلا يكون مؤثّرا في بقاء
- (1) كفاية الاُصول 2: 347 ـ 349.
(صفحه322)
الموضوع في باب الاستصحاب.
و لكنّ المحقّق النائيني رحمهالله التزم بأنّ موضوع الدليل عين الموضوع العرفي،وأنّه لا وجه للمقابلة بينهما، فإنّ مفاد الدليل يرجع بالأخرة إلى مايقتضيه نظرالعرف؛ لأنّ المرتكز العرفي يكون قرينة صارفة عمّا يكون الدليل ظاهرا فيهابتداء، فلو كان الدليل ظاهرا بدواً في قيديّة العنوان وكانت مناسبة الحكموالموضوع تقتضى عدمه، فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكموالموضوع، لأنّها بمنزلة القرينة المتّصلة فلم يستقرّ للدليل ظهور على الخلاف،فالمقابلة بين العرف والدليل إنّما هي باعتبار مايكون الدليل ظاهرا فيه ابتداءً،مع قطع النظر عن المرتكز العرفي، وإلاّ فبالأخرة يتّحد مايقتضيه مفاد الدليلمع مايقتضيه المرتكز العرفيّ(1). إنتهى.
والتحقيق: أنّ بين أخذ الموضوع من العرف وأخذه من لسان الدليل يتحقّقكمال الفرق ولكن لابالطريق المذكور في كلام صاحب الكفاية رحمهالله بل بطريقآخر، وهو أنّه لاشكّ في مغايرة العنب والزبيب من حيث المفهوم عند العرف،وأنّ قوله: «العنب إذا غلى يحرم» لايشمل الزبيب قطعا ولا يكون متعرّضلحكمه، لانفياً ولا إثباتاً، والحكم الثابت لمفهوم لايسري منه إلى مفهوم آخر،ولكن بعد تحقّق مصداق العنب في الخارج وشموله الدليل المذكور نشكّ في أنّبعد مضى الأيّام عليه وتبدّل حالة رطوبته باليبوسة، وصدق عنوان الزبيبعليه، فنقول: هذا الموجود كان إذا غلى يحرم، هل يكون في هذه الحالةالعارضة أيضا كذلك أم لا؟ والعرف يحكم ببقاء الموضوع واتّحاد القضيّةالمتيقّنة والمشكوكة إن قلنا بأخذ الموضوع من العرف، بخلاف ما إذا قلنبأخذه من لسان الدليل.
- (1) فوائد الاُصول 4: 585 ـ 586.
(صفحه 323)
كما في قوله: «الماء المتغيّر نجس»؛ إذ الحكم لايتعدّى من العنوان المأخوذ فيلسان الدليل قطعا عند العرف، وهو «الماء المتغيّر»، ولكن إذ زال تغيّره منقبل نفسه فلا يشمله الدليل عرفا، إلاّ أنّ العرف بعد الشكّ في بقاء نجاسة هذالماء يحكم بتحقّق الاتّحاد بين القضيّتين، ويجري استصحاب النجاسة، فالمتّبعفي اتّحاد القضيّتين وعدمه هو نظر العرف دون العقل ولسان الدليل، ولا يخفىأنّ العرف قد يحكم بتوسعة الموضوع كما في الأمثلة المذكورة، وقد يحكمبتضييقه كما في مسألة الوجوب والاستحباب؛ إذ العقل يقول بأنّ الاستحبابمرتبة ضعيفة من مراتب البعث والطلب، والوجوب مرتبة شديدة منها،والعرف يقول بتباينهما كمال المباينة، فلا يتحقّق الاتّحاد بينهما.
المقام الثاني: أنّه لاإشكال ولا خلاف في عدم جريان الاستصحاب معقيام الأمارة على طبق الحالة السابقة أو على خلافها، بل يجب العمل بها، وإنّمالكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب، وأنّه من باب التخصيصأو الورود أو الحكومة؟ وقال صاحب الكفاية رحمهالله : «وإنّما الكلام في أنّه للورودأو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه؟»
والتحقيق: أنّه للورود، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارةمعتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين، وعدم رفع اليدعنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لايلزم نقضه به بل من جهة العملبالحجّة.
لايقال: نعم، هذا لو اُخذ بدليل الأمارة في مورد ولكنّه لِمَ لا يؤخذ بدليلهويلزم الأخذ بدليلها؟
فإنّه يقال: ذلك إنّما هو لأجل أنّه لامحذور في الأخذ بدليلها، بخلاف الأخذبدليله فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلاّ على وجه دائر؛ إذ