(صفحه 271)
زمان الكرّيّة.
ومنها: ما لو علمنا بموت الوالد واسلام الولد، وشككنا في تقدّم موت الوالدعلى إسلام الولد وتأخّره عنه، ويترتّب الأثر على عدم إسلام الولد إلى زمانموت الوالد، وهو عدم إرثه منه، ولا أثر لعدم موت الوالد إلى زمان إسلامالولد.
ففي مثل هذه الأمثلة يجري الاستصحاب على مسلك الشيخ رحمهالله في أحدالطرفين لعدم المعارض؛ لعدم الأثر للاستصحاب في الطرف الآخر.
ولا يجري الاستصحاب على مذهب صاحب الكفاية رحمهالله وتوضيح كلامهيحتاج إلى بيان مقدّمتين:
الاُولى: المعتبر في الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ باليقين، بمعنى أنلايتخلّل بين اليقين المتعلّق بشىء وبين الشكّ في بقائه يقين آخر مضادّ له، فإنّهمع تخلّل اليقين المضادّ لايعقل الشكّ في البقاء؛ لعدم صدق نقض اليقين بالشكّبالنسبة إلى اليقين الأوّل، بل يصدق نقض اليقين باليقين، فالمقصود من زماناليقين والشكّ هو زمان المتيقّن والمشكوك لازمان نفس صفة اليقين والشكّ.
الثانية أنّه مرّ في باب العامّ والخاصّ أنّ التمسّك بالعامّ في شبهة مصداقيّةالمخصّص ليس بجائز عند أكثر المحقّقين، بخلاف بعض، مثل صاحب العروة رحمهالله ،وأمّا التمسّك بالدليل في شبهة مصداقيّة نفس الدليل فلا شكّ في عدم جوازه؛لعدم إمكان إثبات شبهة مصداقيّة الدليل بنفس الدليل، فإن شككنا في صدقنقض اليقين بالشكّ وعدمه في مورد لايجوز التمسّك بقوله: «لاتنقض اليقينبالشكّ» لإحرازه، فإنّه أيضا من قبيل التمسّك بالدليل في شبهة مصداقيّته.
إذا عرفت ذلك فنقول: لابدّ لنا من فرض أزمنة ثلاثة: زمان اليقين بعدمحدوث كلا الحادثين، وزمان حدوث أحدهما بلا تعيين، وزمان حدوث
(صفحه272)
الآخر كذلك، فنفرض أنّ الماء كان قليلاً بدون الملاقاة والكرّيّة في يومالخميس، فعدم الكرّيّة وعدم الملاقاة كلاهما متيقّن يوم الخميس، وعلمنبحدوث أحدهما لا بعينه يوم الجمعة، وبحدوث الآخر يوم السبت، ولا ندريأنّ الحادث يوم الجمعة، هي الملاقاة حتّى ينفعل الماء، أو الكرّيّة حتّى لاينفعل؛إذ الملاقاة بعد الكرّيّة لاتوجب الانفعال، فإن لوحظ الشكّ في حدوث كلّ منالحادثين بالنسبة إلى عمود الزمان يكون زمان الشكّ متّصلاً بزمان اليقين،فإنّ زمان اليقين بالعدم يوم الخميس، وزمان الشكّ في حدوث كلّ واحد منالحادثين يوم الجمعة، وهمامتّصلان، فلا مانع من جريان استصحاب عدمالكرّيّة يوم الجمعة.
إلاّ أنّه لا أثر لهذا الاستصحاب، فلابدّ من جريان استصحاب عدم الكرّيّةفي زمان حدوث الملاقاة، وزمان حدوث الملاقاة مردّد بين الجمعة والسبت،فإن كان حدوثها يوم الجمعة فزمان الشكّ متّصل بزمان اليقين، وإن كان يومالسبت فزمان الشكّ غير متّصل بزمان اليقين؛ لأنّ زمان اليقين يوم الخميسعلى الفرض، وزمان الشكّ يوم السبت، فيوم الجمعة فاصل بين زمان اليقينوزمان الشكّ؛ إذ معناه تحقّق الكرّيّة يوم الجمعة، فإن كان كذلك انتقض اليقينبعدم الكرّيّة، ومع احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين لامجال للتمسّكبدليل حجّيّة الاستصحاب؛ لما عرفت من أنّ الشبهة مصداقيّة. هذا محصّلكلام صاحب الكفاية رحمهالله (1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الشبهة المصداقيّة فيما إذا ارتبط أحد طرفي الاحتمالبعنوان الدليلالآخر المخالف له، كما إذا قال المولى: «أكرم العلماء» وشككنا فيعالميّة زيد، نقول يحتمل أن يكون عالماً فينطبق عليه عنوان الدليل، ويحتمل
- (1) كفاية الاُصول 2: 335 ـ 336.
(صفحه 273)
أن لايكون عالماً فلا ينطبق عليه العنوان.
و هذا المعنى لايتحقّق فيما نحن فيه، فإنّ شبهة مصداقيّة قوله: «لاتنقضاليقين بالشكّ» فيما يحتمل أن يكون نقضاً لليقين بالشكّ، ويحتمل أن لايكونكذلك، ولا ينطبق هذا المعنى في مانحن فيه؛ إذ الملاقاة إن حدثت يوم السبتمعناه حدوث الكرّيّة يوم الجمعة، فليس هنا نقض اليقين بالشكّ، بل نقضاليقين باليقين بالكرّيّة، وإن حدثت يوم الجمعة معناه حدوث الكرّيّة يومالسبت، فليس في يوم الجمعة نقض اليقين بالشكّ بل يستمرّ اليقين، فالأمردائر بين اليقين بالوفاق واليقين بالخلاف، فلا تتحقّق هنا شبهة مصداقيّة قوله:«لاتنقض اليقين بالشكّ»، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّه يتولّد الشكّ من اليقينين الموجودين في القضيّتين التعليقيّتين، كمإذا علمنا بأنّ زيداً إن ركب السيّارة الفلانيّة فقد مات قطعا، وإن لم يركب فهوحي قطعا، فاحتمال ركوب السيّارة وعدمه صار منشأ للشكّ في بقاء حياته،ولا يضرّ باستصحاب حياته، وكذا العلم بحدوث الكرّيّة والعلم بحدوثالملاقاة في يوم الجمعة ويوم السبت يوجبان الشكّ بتحقّق الكرّيّة في زمانالملاقاة وعدمه، فلا مانع من استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة.
وثالثاً: ماذكره عدّة من المحقّقين منهم اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله وملخّصه: أنّالعناوين المأخوذة في أدلّة الموضوعات قد تكون من العناوين الواقعيّةالخارجيّة ـ كالخمر والعدالة ونحو ذلك إلاّ أنّ واقعيّة كلّ شىء بحسبه ـ وقدتكون من الاُمور الوجدانيّة ـ كاليقين والظنّ والشكّ ـ ولا يخفى أنّ الشبهةالمصداقيّة قابلة للتصوّر وأمرمعقول في القسم الأوّل، أي العناوين الواقعيّةالخارجيّة، بخلاف القسم الثاني، أي الاُمور الوجدانيّة؛ إذ لايمكن أن يكونالإنسان شاكّاً في أنّ له يقيناً بأمر كذائي أو لا أو أنّ له شكّاً بأمر كذائي أو لا،
(صفحه274)
إلاّ من بعض أهل الوسوسة الشاكّين في وجدانيّاتهم، وهو خارج عن محلّالكلام، ولا بدّ من تصوّر الشبهة المصداقيّة في الاُمور الوجدانيّة بهذه الكيفيةـ أي الشكّ في أنّ الشكّ حصل له أم لا ـ وهو أمر غير معقول، فإنّ أمرها دائربين الوجود والعدم ولا تقبل الترديد، فلا تتصوّر الشبهة المصداقيّة في الاُمورالوجدانيّة، فلا يعقل الشكّ في عدم اتّصال الشكّ اللاحق واليقين السابق بحيثيصير الإنسان شاكّاً في تخلّل يقين بالضدّ بين اليقين السابق والشكّ اللاحقفعلاً؛ لأنّ الملاك أن يكون الإنسان حين الجريان شاكّاً ومتيقّناً ومتّصلاً زمانشكّه بيقينه بحسب حاله فعلاً، والوجدان شاهد بتحقّق اليقين بعدم الكرّيّة يومالخميس وتحقّق الشكّ في بقائه إلى زمان الملاقاة حين الجريان.
ويمكن أنّ يتوهّم تحقّق الشبهة المصداقيّة لقوله«لاتنقض اليقين بالشكّ»بالصورة التالية: لو علم المكلّف بأنّه كان مجنباً في أوّل النهار وتطهّر منهجزماً، ثمّ نام ورأى في ثوبه منيّاً بعد الانتباه، وعلم إجمالاً بأنّه إمّا من جنابتهالتي قطع بارتفاعها بالغسل أو من جنابة جديدة، فيكون إجراء استصحابالجنابة المقطوعة الموجبة لتلوّث الثوب ممنوعاً؛ لعدم إحراز اتّصال زمانالشكّ باليقين؛ لأنّ الجنابة أمرها دائر بين التي قطع بزوالها وبين التي قطعببقائها، فيحتمل الفصل بين زمان الشكّ واليقين بحصول الجنابة بيقين بزوالها،فهذا من قبيل عدم إحراز الاتّصال.
وجوابه: أنّ هذا لايكون من قبيل ذلك؛ لأنّ عدم إجراء الاستصحاب فيهليس لعدم إحراز الاتّصال، بل لعدم اليقين السابق لاتفصيلاً ولا إجمالاً، أمّالأوّل فواضح، وأمّا الثاني فلأنّ كون هذا المنيّ في الثوب من جنابة معلومةبالتفصيل أو الإجمال ممّا لا أثر له، بل الأثر مترتّب على العلم بكون المكلّفكان جنباً تفصيلاً أو إجمالاً، فشكّ في بقائها،والمفروض أنّه يعلم تفصيل
(صفحه 275)
بحصول الجنابة له أوّل النهار وزوالها بالغسل بعده، ويشكّ بدواً في حصولجنابة جديدة له، فأين العلم الإجمالي حتّى يستصحب؟ فعلمه الإجمالي ممّا لأثر له، وما له أثر لايعلم به.
إن قلت: إنّه يعلم بكونه جنباً بعد خروج الأثر المردّد ولم يعلم بارتفاعها،فيحكم ببقاء الجنابة بالاستصحاب.
قلت: لايجري الاستصحاب الشخصي فيه؛ لدوران الشخص بين جنابةأوّل النهار وجنابة بعد الزوال، والاُولى مقطوعة الزوال، والثانية محتملةالحدوث، فعدم الجريان لعدم تماميّة أركانه في شيء منهما.
وربما يقال بجريان الاستصحاب هنا بنحو كليّ القسم الثاني المردّد بينمقطوع الزوال ومقطوع البقاء.
وجوابه: أنّ الأمر في استصحاب كلّي القسم الثاني مردّد من حيث المصداقبأنّ فرداً واحدا منه تحقّق من الابتداء في ضمن طويل العمر أو في ضمنقصير العمر، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ الأمر دائر هنا بين فردين، أحدهممقطوع الارتفاع والآخر مشكوك الحدوث.
نعم، يمكن جريان الاستصحاب هنا بنحو كلّي القسم الثالث بأن يحتملحدوث الجنابة الثانية عند زوال الاُولى مقارناً له، فلا مانع من استصحابكلّي الجنابة في هذه الصورة.
فلا يرتبط عدم جريان الاستصحاب في غيرها بإحراز اتّصال زمان الشكّباليقين وعدمه أصلاً(1).
ومن الموارد التي يتوهّم أنّها من الشبهة المصداقيّة لدليل الاستصحاب منحيث اعتبار عدم تخلّل يقين آخر بين اليقين السابق والشكّ اللاحق فل
- (1) الاستصحاب: 172 ـ 173.