(صفحه 453)
أصلاً.
ومن المعلوم أنّ موافقة الكتاب في الطائفة الاُولى علامة للحجّيّة، والمخالففاقد للحجّيّة، وأمّا في الطائفة الثانية فالظاهر أنّها تكون مرجّحا لإحدىالحجّتين على الاُخرى في مقام التعارض، فيتحقّق الاختلاف بين الطائفتين.
وقد جمع المحقّق النائيني رحمهالله بينهما بحمل المخالفة في الطائفة الاُولى على المخالفةبالتباين الكلّي، وفي الطائفة الثانية على المخالفة بغيره، سواء كان بالعموموالخصوص المطلق أو من وجه(1).
ولكن قال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «إنّ هذا الجمع وإن كان يبعّده اتّحادالتعبيرات الواقعة في الطائفتين من أنّ «المخالف زخرف أو باطل»، و«لم نقله»،أو «اضربه على الجدار»، وغير ذلك من التعبيرات، إلاّ أنّ التحقيق يقتضيالمصير إليه».
وتوضيحه: أنّ إطلاق المخالفة في الطائفة الاُولى يشمل جميع أنحاءالمخالفات: بالتباين أو بالعموم والخصوص بقسميه؛ ضرورة أنّك عرفت فيأوّل هذا الكتاب أنّ السالبة الكلّيّة تناقض الموجبة الجزئيّة وكذا العكس،لكنّك عرفت أنّه في محيط التقنين وجعل الأحكام على سبيل العموم لايعدّمثل العامّ والخاصّ مخالفين أصلاً، ولا يحكمون بتساقطهما في مورد التعارضأو الرجوع إلى المرجّح، فبهذه القرينة العقلائيّة ترفع اليد عن إطلاق الطائفةالاُولى، وانحصارها بخصوص المخالفة بالتباين، سواء كان له معارض أم لا،وقد أورد جملة منها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب صفات القاضي،منها: موثّقة السكوني، عن أبي عبداللّه عليهالسلام قال: «قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله : إنّ على كلّحقّ حقيقة، وعلى كلّ صواب نورا، فما وافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب
- (1) فوائد الاُصول 4: 791.
(صفحه454)
اللّه فدعوه»(1).
ومنها: رواية أيّوب بن راشد، عن أبي عبداللّه عليهالسلام ، قال: «ما لميوافق منالحديث القرآن فهو زخرف»(2).
ولكنّ العرف يفهم أنّ المراد من قوله: «ما لميوافق» هو مخالف الكتاب، وإليلزم أن يكون كثير من الروايات زخرفا، مثل قوله عليهالسلام : «إذا شككت بينالثلاث والأربع فابن على الأربع» ونحو ذلك، فإنّه لايوافق كتاب اللّه، فيكونمفاد هذه الرواية مع مفاد موثّقة السكوني واحدا، وهو أنّ ما خالف كتاب اللّهوإن لميكن له معارض فهو مردود، أو باطل، أو زخرف، أو غيرصادر عنّا، أولمنقله، بحسب اختلاف التعبيرات في هذه الطائفة.
والطائفة الثانية: ما وردت في خصوص المتعارضين وترجيح الموافقللكتاب على المخالف، مثل: رواية عبدالرحمان بن أبي عبداللّه، قال: قالالصادق عليهالسلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فموافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه»، الحديث(3). وعبّر الشيخ رحمهالله عنها في كتاب الوسائل بالصحيحة.
فلا توجد قرينة في أخبار هذه الطائفة تدلّ على رفع اليد عن إطلاقالمخالفة الواردة فيها، فمقتضاها أنّ في الخبرين المتعارضين يردّ الخبر المخالفللكتاب، سواء كان مخالفته بنحو التباين أو بنحو العموم والخصوص بقسميه،وهذا لاينافي وجوب ردّ الخبر المخالف للكتاب بالمخالفة بنحو التباين ولولميكن له معارض، كما هو مقتضى الطائفة الاُولى(4).
- (1) وسائل الشيعة 27: 109، الباب 9 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10.
- (2) المصدر السابق، الحديث 12.
- (3) المصدر السابق، الحديث 29.
- (4) معتمد الاُصول 2: 408 ـ 409.
(صفحه 455)
فتكون موافقة الكتاب بعنوان إحدى المرجّحات للخبرين المتعارضين، ولمخالفة بين الطائفة الاُولى والثانية.
وأمّا الأخبار الواردة فيما يتعلّق بمخالفة العامّة فهي أيضا على طائفتين:
الطائفة الاُولى: ما يدلّ على أنّ الخبر الموافق لهم ممّا لم يصدر أصلاً، سواءكان له معارض أم لا، كما هو مقتضى إطلاقها.
والطائفة الثانية: ما وردت في خصوص المتعارضين وأنّه يرجّح الخبرالمخالف لهم على الموافق، معلّلاً في بعضها بأنّ الرشد في خلافهم، ونذكر من كلّالطائفتين رواية بعنوان الشاهد، أمّا من الطائفة الاُولى فما رواه الصدوقبإسناده عن عليّ بن أسباط، قال: قلت للرضا عليهالسلام : يحدث الأمر لا أجد بُدّمن معرفته، وليس في البلد الذي أنا فيه أحد أستفتيه من مواليك، قال: فقال:«ائت فقيه البلد فاستفته من أمرك، فإذا أفتاك بشيء فخذ بخلافه، فإنّ الحقّفيه»(1).
وأمّا من الطائفة الثانية فما ذكرناه عن عبدالرحمان بن أبي عبداللّه، قال: قالالصادق عليهالسلام : «إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه، فموافق كتاب اللّه فخذوه، وما خالف كتاب اللّه فردّوه، فإن لمتجدوهما في كتاباللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وماخالفأخبارهم فخذوه»(2).
فلابدّ إمّا من حمل الطائفة الاُولى على مورد الطائفة الثانية، والقولباختصاص ذلك أيضا بالمتعارضين، وإمّا من طرح تلك الطائفة وردّ علمهإلى أهلها؛ لعدم إمكان الالتزام بوجوب ردّ مطلق الخبر الموافق للعامّة وإن لم
- (1) الوسائل 27: 115، كتاب القضاء، الباب 9 أبواب صفات القاضي، الحديث 23.
- (2) المصدر السابق، الحديث 29.
(صفحه456)
يكن له معارض.
فانقدح إلى هنا أن المستفاد من الروايات أن المرجّحات المنصوصة ثلاثة:
إحداها: موافقة الشهرة الفتوائيّة.
الثانية: موافقة الكتاب.
الثالثة: مخالفة العامّة.
إنّما وقع البحث في الترتيب بينها، وأنّ المتقدّم في مقام الترجيح منالأخيرتين أيّهما؟ بعد عدم الإشكال في تقدّم موافقة الشهرة الفتوائيّة عليهموبعد إطلاق الروايات الواردة فيهما، إلاّ أنّ مصحّحة عبدالرحمان بن أبيعبداللّه المتقدّمة ترفع النزاع، لصراحتها في تقدّم الترجيح بموافقة الكتاب علىالترتجيح بمخالفة العامّة، فالظاهر من الأخبار العلاجيّة بعد الدقّة والتأمّل: أنّالواجب علينا رعاية هذه المرجّحات المنصوصة ورعاية الترتيب بينها فيالخبرين المتعارضين، ولا يصحّ الالتزام بالاستصحاب للتعدّي عن المرجّحاتالمنصوصة إلى غيرها.
وهل اللازم في باب الترجيح الاقتصار على خصوص المرجّحاتالمنصوصة التي عرفت انحصارها بالثلاثة المذكورة أو أنّه يتعدّي منها إلى كلّمايمكن أن يكون مرجّحا، كما حكي عن جمهور المجتهدين الذاهب إليه، بلادّعى بعضم عدم ظهور الخلاف في وجوب العمل بالراجح من الدليلين، بلادّعي الإجماع عليه بعد أن حكاه عن جماعة.
واستدلّ الشيخ الأعظم رحمهالله في كتاب الرسائل بوجوه للتعدّي عنهكالترجيح بالأصدقيّة في المقبولة وبالأوثقيّة في المرفوعة، بأنّ اعتبار هاتينالصفتين ليس إلاّ لترتجيح الأقرب إلى مطابقة الواقع في نظر الناظر فيالمتعارضين، فنتعدّى من صفات الراوي المرجّحة إلى صفات الرواية الموجبة
(صفحه 457)
لأقربيّة صدورها(1).
ولكنّك عرفت أنّ هذه الأوصاف مرجّحات للقاضيين والحاكمين ولدخل لها بباب الرواية، خصوصا بعد ملاحظة أنّ الغرض في باب القضاء، هوفصل الخصومة واختتام النزاع، فلا مجال للتخيير فيه، فلا يمكن أن يكون كلّما كان مرجّحا في باب القضاء يكون في باب الفتوى أيضا مرجّحا؛ إذ لا دليللتحقّق الملازمة بينهما، كما لا يخفى.
الوجه الثاني الذي استدلّ به الشيخ رحمهالله للتعدّي: هو تعليل الإمام عليهالسلام الأخذبالمشهور بقوله: «فانّ المجمع عليه لا ريب فيه»، وقال: توضيح ذلك: «إنّ معنىكون الرواية مشهورة كونها معروفة عند الكلّ، كما يدلّ عليه فرض السائلكليهما مشهورين، والمراد بالشاذّ: ما لايعرفه إلاّ القليل، ولا ريب أنّ المشهوربهذا المعنى ليس قطعيّا من جميع الجهات ـ قطعي المتن والدلالة ـ حتّى يصيرممّا لا ريب فيه، وإلاّ لميكن فرضهما مشهورين، ولا الرجوع إلى صفاتالراوي قبل ملاحظة الشهرة، ولا الحكم بالرجوع مع شهرتهما إلى المرجّحاتالاُخر، فالمراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذّ، ومعناه أنّ الريب المحتملفي الشاذّ غير محتمل فيه، فيصير حاصل التعليل ترجيح المشهور على الشاذّبأنّ في الشاذّ احتمالاً لايوجد في المشهور، ومقتضى التعدّي عن مورد النصّ فيالعلّة وجوب الترجيح بكلّ ما يوجب كون أحد الخبرين أقلّ احتمالاً لمخالفةالواقع»(2). إنتهى.
ويرد عليه: سلّمنا أنّه لو كان للموضوع حكما معلّلاً ـ كما في قولنا: «لتشرب الخمر لأنّه مسكر» ـ يفهم العرف أنّ تمام الملاك لحرمة الشرب هو
- (1) فرائد الاُصول 2: 781.
- (2) فرائد الاُصول 2: 781.