(صفحه 7)
حسن الاحتياط
حسن الاحتياط مطلق
وبعد تماميّة البحث في الاُصول الثلاثة ـ أي البراءة والتخيير والاحتياط يذكرون شرائط جريانها قبل بحث الاستصحاب، وليس للاستصحاب حكمخاصّ وشرائط خاصّة في قبالها.
فنقول: إنّه لايعتبر في حسن الاحتياط عقلاً شيء زائد على تحقّقموضوعه وعنوانه.
يمكن أن يتوهّم: أنّ الاحتياط إن كان موجبا لاختلال النظام لايكونحسنا، بل لعلّه يكون قبيحا.
ولكنّه ليس بصحيح، فإنّ الاحتياط بما هو احتياط وبعنوانه الاحتياطيحسن على كلّ حال، وما هو قبيح عنوان آخر، وهو اختلال النظام، ولا معنىلسراية الحكم من متعلّقه وعنوانه إلى متعلّق آخر، مثل عدم سراية الوجوبعن عنوان الوفاء بالنذر إلى عنوان صلاة الليل بعد تعلّق النذر بها، فصلاةالليل مستحبّة أبدا، والواجب هو الوفاء بالنذر، فلذا يلزم في مقام الامتثالإتيانها بداعي الأمر التعبّدي الاستحبابي لا بداعي الأمر الوجوبي المتعلّقبالنذر لكونه أمرا توصّليّا.
على أنّه لاتتحقّق الملازمة النوعيّة والدائميّة بين الاحتياط واختلال النظام.
نعم، هنا إشكالات لابدّ من التعرّض لها، والجواب عنها، بعضها يرجع إلىمطلق الاحتياط ولو كان في الشبهات البدويّة، وبعضها إلى الاحتياط في
(صفحه8)
خصوص الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، وبعضها إلى الاحتياط فيما إذقامت الحجّة المعتبرة على خلافه.
أمّا الإشكال الراجع إلى مطلق الاحتياط في الاُمور التعبّديّة، فهو أنّه يعتبرفي العبادات صدق عنوان الإطاعة وتحقّقه، والإطاعة عبارة عن الانبعاثعقيب بعث المولى وأن تكون إرادة العبد تبعا لإرادة المولى بانبعاثه عن بعثه،والحال أنّ الاحتياط في الشبهات البدويّة يكون باحتمال الوجوب وتحقّقالأمر، واحتمال البعث عبارة عن الحالة التصوريّة الذهنيّة للمكلّف لايرتبطبالمولى، فلا تتحقّق الإطاعة.
ويمكن توسعة دائرة هذا الإشكال بالقول بأنّ الانبعاث لايكون عن البعثولو في موارد العلم بالبعث؛ لأنّ المحرّك والباعث ليس هو البعث بوجودهالواقعي، وإلاّ لكان اللازم ثبوت الملازمة بينهما وعدم انفكاك أحدهما عنالآخر، مع أنّ الضرورة قاضية بخلافه؛ لأنّه كثيرا ما لايتحقّق الانبعاث معتحقّق البعث في الواقع ونفس الأمر، وكثيرا مّاينبعث المكلّف مع عدم وجودالبعث في الواقع، فهذا دليل على أن المحرّك والباعث ليس هو نفس البعث، بلالصورة الذهنيّة الحاكية عنه باعتقاد المكلّف، فوجود البعث وعدمه سواء.
وهذا لايختصّ بالبعث، بل يجري في جميع أفعال الإنسان وحركاته؛ضرورة أنّ المؤثّر في الإخافة والفرار ليس هو الأسد بوجوده الواقعي، بلصورته الذهنيّة المعلومة بالذات المنكشفة لدى النفس. ولا فرق في تأثيرهبين كونها حاكية عن الواقع واقعا وبين عدم كونها كذلك؛ لعدم الفرق فيحصول الخوف بين العالم وبين الجاهل بالجهل المركّب، ولو كان الموثّر هوالأسد بوجوده الواقعي لكان اللازم عدم تحقّق الخوف بالنسبة إلى الجاهل، معأنّ الوجدان يشهد بخلافه.
(صفحه 9)
فانقدح ممّا ذكر أنّ الانبعاث عن بعث المولى لايتوقّف على وجوده فيالواقع، بل يتحقّق في صورة الجهل المركّب به، والسرّ أنّ الانبعاث إنّما هو عنالبعث بصورته الذهنيّة المعلومة بالذات، وإلاّ يلزم عدم انفكاك الانبعاث عنالبعث، فلا يتحقّق الانبعاث بدونه، ولا البعث بدون الانبعاث، ولا زمه عدمتحقّق العصيان أصلاً.
وحينئذٍ يظهر عدم إمكان تحقّق الإطاعة أصلاً ولو في صورة العلم بعدكون المعتبر في حقيقتها هو كون الانبعاث مستندا إلى نفس البعث بوجودهالواقعي.
ويمكن تصوير ذلك بصورة البرهان بنحو الشكل الأوّل الذي هو بديهيالإنتاج بأن يقال: إنّ الإطاعة هو الانبعاث ببعث المولى، ولا شيء منالانبعاث ببعث المولى بممكن التحقّق، ينتج: فلا شيء من الإطاعة بممكن.
والجواب عن هذا الإشكال: أوّلاً: أنّه لا دليل لاعتبار صدق الإطاعة فيالعبادات، ولا منشأ له حتّى تصل النوبة إلى البحث عن المراد، والمقصود منالإطاعة المأمور بها في قوله تعالى: «أَطِيعُواْ اللَّهَ...»(1) إلى آخره، ليس إلمجرّد الموافقة وعدم المخالفة، والدليل عليه أنّ إطاعة الرسول واُولي الأمر لابدّ،وأن يكون المراد منها ذلك، كما لا يخفى، فاتّحاد السياق يقضي بكون المراد منإطاعة اللّه أيضا ليس إلاّ مجرّد الموافقة.
وثانياً: أنّه لايعتبر في تحقّق الإطاعة بنظر العرف والعقلاء إلاّ وجود البعثوالعلم به ـ أي الانطباق المعلوم بالذات مع المعلوم بالعرض لا الجهل المركّب فإذا تحقّق البعث وصار موجودا واقعا وعلم به المكلّف بتوسّط صورتهالذهنيّة فامتثل بداعي ذلك يتحقّق حينئذٍ عنوان الإطاعة بدون أيّ مسامحة
(صفحه10)
في البين.
ودعوى: أنّ الانبعاث لم يكن مسبّبا عن البعث، بل يكون مسبّبا عنالصورة الذهنيّة لتحقّقه في صورة الجهل المركّب أيضا؛ مدفوعة: بأنّ الصورةالذهنيّة حيث كانت كاشفة عن الواقع وحاكية له يكون الانبعاث معهمستندا إلى الواقع، وهي وسيلة إلى النيل به والوصول إليه، فالباعث فيالحقيقة هو نفس البعث لا الصورة الذهنيّة، كيف؟ وهذه الصورة مغفول عنهغيرمتوجّه إليها؛ لأنّ العالم بالبعث لايرى إلاّ نفس البعث، ولا يتوجّه إلىصورته المعلومة بالذات أصلاً، ومن هنا نرى إظهار الندامة والاشتباه منالمكلّف إذا كان انبعاثه مستندا إلى تخيّل البعث والصورة الذهنيّة فقط عندكشف الخلاف، فإذا كانت الصورة الذهنيّة مطابقة للواقع يتحقّق استنادالانبعاث إلى المعلوم بالعرض والمعلوم بالذات معا، ولا أقلّ من ذلك، ففيصورة العلم يكون الانبعاث مستندا إلى البعث بالتبع دائما.
وأمّا الإشكال الذي يختصّ بالاحتياط في الشبهات البدويّة والانبعاث عناحتمال البعث، فالجواب عنه: أنّه لا شكّ في تحقّق عنوان الإطاعة هنا، بلالمنبعث عن البعث الإحتمالي يكون في مرتبة عالية من الإطاعة ممّن ينبعث عنالعلم بالبعث فقط.
وأمّا الإشكال الذي يختصّ بالشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي، فتارة منجهة التكرار، واُخرى من أجل اعتبار قصد القربة والوجه ونظائرهمفي العبادة.
أمّا الجهة الاُولى فمحصّلها: أنّ تكرار العبادة مع إمكان تحصيل العلمالتفصيلي يعدّ لعبا بأمر المولى، واللعب والبعث ينافي العبوديّة التي هي غايةالفعل العبادي، بل نقول: إنّ حصول اللعب بالتكرار لايختصّ بالعبادة، بل
(صفحه 11)
يجري في غيرها.
ألاترى أنّه لو علم عبد بأنّ المولى طلب منه إحضار شخص مردّد بين عدّةأشخاص، وكان قادرا على تحصيل العلم التفصيلي بمطلوب المولى، ولكن اكتفىبالامتثال الإجمالي، فاحضر عدّة من العلماء وعملة المولى وجماعة منالصنوف المختلفة، يعدّ لاعبا بأمر المولى، وأنّه في مقام الاستهزاء والسخرية،فيستفاد منه أنّ التكرار لعب بأمر المولى فلا يجوز.
وجوابه: أوّلاً: أنّ المدّعى هو كون التكرار مطلقا لعبا بأمر المولى، وهولايثبت بكونه لعبا في بعض الموارد كما في مثل المثال؛ لأنّ كثيرا من مواردالتكرار لايكون فيه لعب أصلاً.
ألاترى أنّه لو كان له ثوبان أحدهما طاهر والآخر نجس، وكان قادرا علىغسل أحدهما، ولكن كان ذلك متوقّفا على تحمّل المشقّة وصرف وقت كثير،فصلّى فيهما معا، هل يعدّ هذا الشخص لاعبا ولا غيا؟ وكذا لو دار الواجب فييوم الجمعة بين الظهر وصلاة الجمعة وكان قادرا على السؤال من الفقيهـ مثلاً ـ ولكن كان له محذور عرفي في السؤال، إمّا من ناحيته، أو من ناحيةالفقيه، فجمع بينهما، هل يعدّ لاعبا؟ كلاّ. وبالجملة، فالمدّعى لايثبت بماذكره.
وثانياً: لو فرض كون التكرار لعبا وعبثا، لكن نقول: إنّ المعتبر في صحّةالعبادة أن يكون أصل الإتيان بها بداعي تعلّق الأمر بها من المولى، وأمّالخصوصيّات الخارجة عن حقيقة العبادة ـ كالمكان والزمان ونحوهما في مثلالصلاة ـ فلا يعتبر أن يكون الإتيان بها بداعي الأمر، بل لاوجه له بعد كونهخارجة عن متعلّق الأمر، كيف؟ ولو اعتبر الإخلاص فيها يلزم عدم صحّةشيء من العبادات، مثل إتيانها في فصل الحرارة في المكان البارد، وفي فصلالبرودة في المكان الحارّ، ونحو ذلك.