(صفحه 445)
عنّا في ذلك الذي حكما به، المجمع عليه عند أصحابك، فيؤخذ به من حكمنا،ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»،الحديث.
والمحقّق الرشتي رحمهالله جعل هذا السؤال والجواب شاهدا لمدّعاه بأنّه لصلاحية للمتخاصمين في الرجوع إلى مستند حكم الحاكم، وعلى فرضالصلاحية لايستحقّ السؤال عن مستند الحكم حتّى تصل النوبة إلى الملاحظةوتشخيص المشهور منهما عن غير المشهور، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ القاعدة في باب القضاء أنّ الحاكمين إذا حكما بحكمين مختلفين فيآنٍ واحد فيتساقطان، وإذا كان التقدّم والتأخّر في البين فالحكم النافذ هوالحكم المتقدّم.
والتحقيق: أنّ هذا الإشكال مشترك الورود، فإنّه على حمل الرواية بمقامالفتوى لا صلاحية للمقلّدين في الرجوع إلى مستند مرجعهما وسؤالهما عنمستندهما ثمّ ملاحظتهما وتشخيص المجمع عليه عند الأصحاب عن الشاذّالنادر، فلا يمكن رفع اليد عن ظاهر صدرها بهذا الإشكال المشترك.
ثمّ جعل الإمام عليهالسلام الاُمور الثلاثة وقال: «وإنّما الاُمور ثلاثة: أمر بيّن رشدهفيتّبع، وأمر بيّن غيّه فيجتنب، وأمر مشكل يردّ علمه إلى اللّه ورسوله، قال رسولاللّه صلىاللهعليهوآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا منالمحرّمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لايعلم».
قلت: فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم.
قال: «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به،ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة».
قلت: جعلت فداك، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة
(صفحه446)
ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم، بأيّ الخبرين يؤخذ؟
قال: «ما خالف العامّة ففيه الرشاد».
فقلت: جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا.
قال: «ينظر إلى ماهم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».
قلت: فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟
قال: «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك، فإنّ الوقوف عند الشبهات خيرمن الاقتحام في الهلكات»(1).
ولا بدّ من ملاحظة خصوصيّات الرواية بأنّ المراد من المجمع عليه أوالمشهور فيها هي الشهرة من حيث الفتوى أو الشهرة من حيث الرواية؟وعلى كلا التقديرين هل الشهرة مرجّحة لإحدى الحجّتين على الاُخرى، أوالموافق للشهرة حجّة ومخالفها فاقد للحجّيّة رأسا؟ بعد ملاحظة تعبيرالإمام عليهالسلام في الابتداء بـ «المجمع عليه عند أصحابك» ثمّ قوله عليهالسلام في مقامالتعليل: «فإنّ المجمع عليه لاريب فيه، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور».
وتعبير السائل أيضا بقوله: (فإن كان الخبران عنكم مشهورين)، هل المرادمن الشهرة في كلام السائل ما هو المراد في كلام الإمام عليهالسلام أم لا؟ وما معنىكون المجمع عليه لا ريب فيه في تعليل الإمام عليهالسلام ؟
وملاحظة جعل الإمام عليهالسلام الاُمور ثلاثة، ثمّ تأييده بتثليث رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وأنّ الخبر الشاذّ الذي ليس بمشهور من مصاديق بيّن الغيّ وحرام بيّن، أو منمصاديق أمر مشكل، وشبهات بين ذلك يردّ حكمها إلى اللّه وإلى الرسول؟
وملاحظة ما فرض في كلام السائل بقوله: (فإن كان الخبران عنكممشهورين قد رواهما الثقات عنكم) وأنّ المراد من الشهرة التي اتّصف الخبران
- (1) الكافي 1: 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.
(صفحه 447)
بها ما هو؟ بعد تقرير الإمام أصل فرض إمكان أن يكون الخبران المختلفانكلاهما مشهور والجواب بالنظر إلى موافق الكتاب.
ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله وبعض الأعلام رحمهالله : أنّ المراد من المجمععليه في كلام الإمام عليهالسلام في موردين هو المتّفق عليه عند الأصحاب من حيثالرواية، يعني أجمع الأصحاب على نقله وروايته وحكايته عن الإمام عليهالسلام ،والشهرة في قباله ليست بالمعنى الاصطلاحي ـ أي المرتبة النازلة من الإجماع بل تكون بالمعنى اللغوي ـ أي الواضح ـ كما يقول: فلا ن شهر سيفه، والشهرةبهذا المعنى مساوقة مع العلم والقطع والاتّفاق(1).
وهذا يناسب بحسب الظاهر جميع تعبيرات الرواية، مثل: قوله عليهالسلام : «لاريبفيه»؛ إذ الخبر المنقول باتّفاق جميع الرواة لاريب في صدوره عن الإمام عليهالسلام ومثل قوله: (فإن كان الخبران عنكم مشهورين) بمعنى كلاهما معلوم الصدور،ولا مانع منه، لإمكان صدور أحدهما لبيان حكم اللّه الواقعي والآخر لتقيّة أوالخوف، وهكذا يناسب مع تثليث الاُمور وأنّ الخبر المجمع عليه من مصاديقبيّن الرشد، والخبر الشاذّ الذي ليس بمشهور من مصاديق أمر مشكل يردّحكمه إلى اللّه والرسول.
والتحقيق: أنّ حمل «المجمع عليه» على الشهرة الروائيّة أو الإجماع الروائيأجنبي عن المقبولة بمراحل؛ إذ التعليل هنا لوجوب الأخذ والعمل والفتوىعلى طبقها، وأمّا الشهرة أو الإجماع من حيث الرواية أو القطع بالصدور، فليرتبط بمقام الأخذ والعمل والفتوى، لإمكان صدورها لغير بيان حكم اللّهالواقعي، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ المجمع عليه لايمكن أن يكون بمعنى اتّفاق الكلّ في الفتوى بقرينة
- (1) فوائد الاُصول 4: 775.
(صفحه448)
سؤال الراوي بقوله: (فإن كان الخبران عنكم مشهورين)، وتقرير الإمام عليهالسلام الفرض المذكورة، ولا يعقل تحقّق الإجماعين الواقعيّين المتخالفين بمعنى اتّفاقالكلّ على الفتويين المتخالفتين، خصوصا مع ملاحظة تعليل الإمام عليهالسلام .
فلا محالة يكون الإجماع هنا بمعنى الشهرة في الفتوى، ومن المعلوم أنّالشهرة عبارة عن الوضوح والشيوع، وشهرة الفتويين المتخالفتين قابلةللتوجيه والتصوير.
قال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «إنّ الظاهر من المقبولة أنّ الرواية المطابقةللمشهور من مصاديق بيّن الرشد الذي يجب أي يتّبع، وغير المشهور ـ الذيهو الشاذّ النادر ـ هو من أفراد بيّن الغيّ الذي يجب أن يترك ويدع، لا منمصاديق الأمر المشكل الذي يجب أن يردّ إلى اللّه والرسول، وحينئذ فالشهرةتميّز الحجّة عن اللا حجّة، لا أنّها مرجّحة لإحدى الحجّتين على الاُخرى(1).
ولكنّ التأمّل في الرواية يقتضي خلاف ذلك، فإنّ تثليث الإمام عليهالسلام ثمّاستشهاده بتثليث رسول اللّه صلىاللهعليهوآله يقتضي دخالة التثليث في المسألة وأنّ بيّنالرشد ينطبق على الخبر المشهور، والشاذّ النادر داخل في القسم الثالث ـ أيأمر مشكل وشبهات بين ذلك يردّ حكمه إلى اللّه والرسول، وإلاّ لا داعيلتثليث الاُمور، بل لا وجه له في هذا المقام، فالشهرة مرجّحة لإحدى الحجّتينعلى الاُخرى، لامميّزة الحجّة عن اللاحجّة، فتكون أوّل المرجّح في الخبرينالمتعارضين عبارة عن الشهرة الفتوائيّة.
ولكنّ التعليل المذكور في المقبولة بقوله: «فإنّ المجمع عليه لاريب فيه»يوجب الالتزام بكون الشاذّ من مصاديق «بيّن الغيّ» لا من مصاديق «أمرمشكل»؛ إذ المشهور إن كان لا ريب فيه فلا محالة يكون الشاذّ لاريب في
- (1) معتمد الاُصول 2: 405 ـ 406.
(صفحه 449)
بطلانه، فالخبر الموافق لفتوى المشهور لا ريب في صحّته، والخبر المخالف له لريب في بطلانه، فالتعليل يقتضي أن يكون الشاذّ من مصاديق «بيّن الغيّ» فلتكون لموافقة الشهرة عنوان المرجّح، بل تكون لها عنوان مميّز الحجّة ومعيّنها،كما يستفاد هذا المعنى من كلام اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله .
والتحقيق: أنّه إذا لاحظنا ثلاثة اُمور نعلم أنّ حقيقة الأمر خلاف ذلك.
الأمر الأوّل: أنّ التعليل في المقبولة إرشاد إلى الأمر العقلائي والارتكاذي،لا كون المشهور لا ريب فيه تعبّدا، وبعد مراجعة العقلاء نلتفت إلى أنّ موافقةالشهرة الفتوائيّة لاتوجب القطع بموافقة المعصوم والعلم بأنّ الخبر الموافق لهلاريب فيه واقعا ووجدانا، بل يتحقّق احتمال الخلاف فيه أيضا.
الأمر الثاني: أنّ تثليث الاُمور في المقبولة دليل لدخالة التثليث فيما نحن فيه، والظاهر من كلام الإمام عليهالسلام أنّ الخبر الشاذّ من مصاديق «أمرمشكل يردّ حكمه إلى اللّه والرسول» لا من مصاديق «بيّن الغيّ»، ويكشف عنهذا المعنى الاتّكال والتأكيد في تثليث رسول اللّه صلىاللهعليهوآله على الأمر الثالث:«وشبهات بين ذلك».
الأمر الثالث: أنّ سؤال السائل بقوله: (فان كان الخبران عنكم مشهورين)دليل على عدم إمكان كون المشهور بمعنى «لا ريب فيه»؛ إذ لايمكن تصوّرالخبرين المتعارضين أحدهما مثبت وجوب صلاة الجمعة ـ مثلاً ـ والآخرنافيه، لاريب في صحّتهما باعتبار كونهما مشهورين.
وهذه الاُمور تهدينا إلى الالتزام بأنّ «لا ريب فيه» هنا إضافي، بمعنى أنّالخبر الموافق لفتوى المشهور إذا لوحظ بالنسبة إلى الخبر الشاذّ لا ريب فيه،وأمّا من حيث الذات وفي نفسه ففيه ريبٌ ويتحقّق احتمال الخلاف فيه أيضا.
ولازم ذلك الالتزام بكون «بيّن الرشد» على قسمين: أحدهما بيّن الرشد