(صفحه 173)
فالاستصحاب يقتضي نجاسته. وذلك لأنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة،والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، وليس لنا يقين بنجاسةطرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها.
نعم، يمكن إجراؤه في مفاد كان التامّة، بأن يقال: إنّ النجاسة في العباءةكانت موجودة وشكّ في ارتفاعها، فالآن كما كانت؛ لأنّ الحكم بنجاسة الملاقييتوقّف على نجاسة ما لاقاه وتحقّق الملاقاة خارجا، ومن الظاهر أنّاستصحاب وجود النجاسة في العباءة لايثبت ملاقاة النجس إلاّ على القولبالأصل المثبت؛ ضرورة أنّ الملاقاة ليست من الآثار الشرعيّة لبقاء النجاسة،بل من الآثار العقليّة، وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباءة.
وأجاب عنه بعض الأعلام قدسسره وقال: وفي هذا الجواب أيضا مناقشةظاهرة؛ إذ يمكن جريان الاستصحاب في مفاد كان الناقصة مع عدم تعيينموضع النجاسة بأن نشير إلى الموضع الواقعي ونقول: خيط من هذا العباءةكان نجسا والآن كما كان، أو نقول: طرف من هذا العباءة كان نجسا والآن كمكان، فهذا الخيط أو الطرف محكوم بالنجاسة للاستصحاب، والملاقاة ثابتةبالوجدان؛ إذ المفروض تحقّق الملاقاة مع طرفي العباءة، فيحكم بنجاسة الملاقيلا محالة(1).
وجوابه: أنّ الحكم بنجاسة الملاقي في جزء غير معيّن يرتبط بالعقل، بللاطريق له غير العقل، بخلاف الجزء المعيّن، فإنّ نجاسته ثابتة بالاستصحابوملاقاة اليد مع الرطوبة بالوجدان، فلا نحتاج إلى حكم العقل، وأمّا في الجزءالمردّد فنقول بعد الملاقاة مع جميع أجزاء العباءة، فلا محالة لاقى الجزء غيرالمعيّن المحكوم بالنجاسة، وهذا حكم العقل.
- (1) مصباح الاُصول 3: 112.
(صفحه174)
والحاصل: أنّه إذا علمنا إجمالاً بنجاسة الجزء الأعلى أو الأسفل منالعباءة، وبعد تطهير الجزء الأسفل منه والشكّ في بقاء النجاسة فيه،فنستصحب كلّي النجاسة فيه، ولكن ملاقاة اليد مع الرطوبة في كلا الطرفينـ الأعلى والأسفل ـ لايوجب نجاسته، فإنّ المحرز بالاستصحاب هي النجاسةالمتحقّقة في العباءة بوصف الكلّي فقط، ولا دليل لنجاسة اليد، ولا يشمله:«ملاقي النجس نجسٌ»؛ إذ لميحرز أنّه لاقي النجس، وكون ملاقاة العباءة ملاقاةًللنجس لازم عقلي لايترتّب على الاستصحاب.
وثانياً: أيضا مايستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله كما ذكره صاحبالمصباح قدسسره وهو: أنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباءة ليس من استصحابالكلّي في شيء؛ لأنّ استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الكلّي المتيقّن مردّدبين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير، كالحيوان المردّد بين البقوالفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام، فإنّ التردّد فيه في خصوصيّة محلّالنجس مع العلم بخصوصيّة الفرد، والتردّد في خصوصيّة المكان أو الزمانلايوجب كلّيّة المتيقّن، فليس الشكّ حينئذٍ في بقاء الكلّي وارتفاعه حتّى يجريالاستصحاب فيه، بل الشكّ في بقاء الفرد الحادث المردد من حيث المكان.وذكر لتوضيح مراده مثالين:
الأوّل: ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار، فانهدم الطرف الشرقي منها، فلوكان زيد فيه فقد مات بانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حيّ، فحياةزيد وإن كانت مشكوكا فيها إلاّ أنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي، والمقاممن هذا القبيل بعينه.
الثاني: ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم مثلاً، ثمّ تلف أحدالدراهم، فلا معنى لاستصحاب الكلّي بالنسبة إلى درهم زيد، فإنّه جزئيّ(1).
(صفحه 175)
وأجاب عنه تلميذ بعض الأعلام قدسسره : بأنّ هذا الجواب غيرتامّ، فإنّالإشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباءة باستصحابالكلّي، بل الإشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لايجتمع معالقول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة، سواء كان الاستصحاب من قبيلاستصحاب الكلّي أو الجزئيّ، فكما أنّه لا مانع من استصحاب حياة زيد فيالمثال الأوّل كذلك لا مانع من جريان الاستصحاب في مسألة العباءة.
وأمّا المثال الثاني فالاستصحاب فيه معارض بمثله، فإنّ أصالة عدم تلفدرهم زيد معارض بأصالة عدم تلف درهم غيره، ولو فرض عدم الابتلاءبالمعارض لا مانع من جريان الاستصحاب فيه، كما إذا اشتبهت خشبة زيدـ مثلاً ـ بين أخشاب لا مالك لها لكونها من المباحات الأصليّة، فتلف أحدها،فتجري أصالة عدم تلف خشبة زيد بلا معارض(1).
والإنصاف أنّ هذا الجواب عجيب منه؛ إذ الغرض من الشبهة العبائيّة هوجريان استصحاب الكلّي فيها حتّى يكون مانعا من جريان استصحاب الكلّيمن القسم الثاني، وهذه الشبهة إشكال ونقض على جريان استصحاب الكلّي،وكانت في مقام سدّ الطريق على جريانه في الكلّي من القسم الثاني، وإذا كانالاستصحاب فيها جزئيّا ـ كما يقول سواء كان من قبيل استصحاب الكلّي أوالجزئي ـ فكيف يكون إشكالاً ونقضا عليه؟!
ومعلوم أنّ عدم جريان استصحاب الجزئي في مورد لمانع لايكون مانععن جريانه في موارد اُخرى، فهذا الجواب ليس بتامّ.
والتحقيق في الجواب عمّا ذكره المحقّق النائيني رحمهالله : أنّ الاستصحاب في الشبهة
(صفحه176)
العبائيّة هو استصحاب الكلّي، فإنّ نجاسة الطرف الأسفل متيقّن الارتفاع،ونجاسة الطرف الأعلى مشكوك الحدوث، فلا يقين بالنسبة إلى الفرد حتّىيستصحب في حال الشكّ، فلابدّ من جريان استصحاب الكلّي بدون الإضافةإلى خصوص الطرف الأسفل أو الأعلى بأنّ يقال: إنّ النجاسة في العباءة كانتمتيقّنة والآن هي مشكوكة، فنستصحب النجاسة الكلّيّة؛ إذ لا شكّ في وحدةالقضيّة المتيقّنة والمشكوكة في هذه الصورة.
وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله من المثال، وهو قوله: ما إذا علمنا بوجودزيد في الدار، فانهدم الطرف الشرقي منها، فلو كان زيد فيها فقد ماتبانهدامه، ولو كان في الطرف الغربي فهو حيّ، فحياة زيد وإن كانت مشكوكفيها إلاّ أنّه لامجال معه لاستصحاب الكلّي، والمقام من هذا القبيل بعينه.
فجوابه: أوّلاً: أنّ جريان استصحاب الفرد لايكون مانعا عن جرياناستصحاب الكلّي، ففي المثال كما يجري استصحاب بقاء زيد في الدار، كذلكيجري استصحاب بقاء الإنسان في الدار، وقد ذكرنا في القسم الأوّل من أقسامالكلّي أنّ استصحاب الكلّي ليس بمانع عن استصحاب الفرد وبالعكس،بل يجري كلّ منهما بلحاظ ترتّب الأثر.
وثانياً: أنّه يتحقّق الفرق بين المثال وما نحن فيه بأنّ كون زيد في الجانبالشرقي من الدار لايترتّب عليه أثر، وكون زيد في الجانب الغربي من الدارلايترتّب عليه أثر، وما يترتّب عليه الأثر هو بقاء زيد في الدار، أو بقاءالإنسان في الدار، وإضافة زيد إلى الجانب الغربي والشرقي لايوجب التعدّد فيهولا يخرجه من الجزئي الحقيقي، ومانحن فيه ليس كذلك، فإنّ إضافة النجاسةإلى الطرف الأسفل من العباءة يترتّب عليه الأثر من وجوب الغسل حينالصلاة ووجوب الاجتناب عنه، وهكذا إضافتها إلى الطرف الأعلى منه،
(صفحه 177)
ومعلوم أنّ ذيل العباءة متنجّس وصدر العباءة متنجّس آخر، لا أنّه نفس ذاكالمتنجّس، والأمر مردّد بينهما، ولكلّ منهما أحكام وآثار، وإذا كان الذيلمتنجّسا فيجب تطهيره، وملاقاته تكون موجبة للتنجّس، وهكذا الصدر،فقياس المثال على ما نحن فيه غير تام.
وذكر بعض الأعلام قدسسره جوابا آخر عن الشبهة العبائيّة وقال: «فالإنصاففي مثل مسألة العباءة هو الحكم بنجاسة الملاقي لا لرفع اليد عن الحكم بطهارةالملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيّد الصدر قدسسره من أنّه علىالقول بجريان استصحاب الكلّي لابدّ من رفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقيلأحد أطراف الشبهة؛ بل لعدم جريان القاعدة التي نحكم لأجلها بطهارةالملاقي في المقام؛ لأنّ الحكم بطهارة الملاقي إمّا أن يكون لاستصحاب الطهارةفي الملاقي، وإمّا أن يكون لجريان الاستصحاب الموضوعي، وهو أصالة عدمملاقاته النجس. وكيف كان، يكون الأصل الجاري في الملاقي في مثل مسألةالعباءة محكوما باستصحاب النجاسة في العباءة، فمن آثار هذا الاستصحابهو الحكم بنجاسة الملاقي. ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائرالمقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام؛ للأصل الحاكم على الأصل الجاريفي الملاقي، فإنّ التفكيك في الاُصول كثير جدّا، فبعد ملاقاة الماء ـ مثلاً ـ لجميعأطراف العباءة نقول: إنّ الماء قد لاقى شيئا كان نجسا، فيحكم ببقائه علىالنجاسة؛ للاستصحاب، فيحكم بنجاسة الماء»(1).
ولكنّ الالتزام بنجاسة الماء وترتّبها على استصحاب النجاسة ليس بتامّ إلعلى القول بالأصل المثبت وترتّب الآثار واللوازم العقليّة، وبعد ما ذكرناه فيالجواب عن الشبهة العبائيّة من مثبتيّة هذا الأصل فلا محلّ لهذا الجواب.
- (1) مصباح الاُصول 3: 112 ـ 113.