(صفحه 153)
عنوان الحكم الوضعي، ولا تكاد تناله يد الجعل تشريعا لا أصالة ولا تبعا،وما يكون خارجا عن المقسم كيف يمكن أن يكون داخلاً في أحد الأقسام؟
وثانياً: أنّه وقع الخلط في كلامه في المراد بالتكليف وتخيّل أنّه هنا بمعنىإيجاب المولى وجعله، لابمعنى كون الشيء واجبا.
توضيح ذلك: أنّه قد يقول: شيء كذا سبب لوجوب الصلاة ـ مثلاً ـ وقديقول: شيء كذا كان سببا لإيجاب المولى وجعله الصلاة واجبة ـ مثلاً ـ نقول:إنّ تحقّق المصلحة الملزمة في الصلاة صار سببا لإيجابها، وتحقّق المفسدة الملزمةفي شرب الخمر صار سببا لتحريمه، وهكذا سائر الاُمور الدخيلة في جعلالمولى، وهذا خارج عن بحث السببيّة للتكليف هنا؛ إذ لا يقول أحد أنّالمصلحة الملزمة شرط التكليف.
والمراد من السببيّة والشرطيّة للتكليفيّة هنا كما يستفاد من قوله تعالى:«لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً»(1) هو شرط كون الشيءواجبا أو كونه فريضة، إلهيّة، ومعلوم أنّ شرطيّة الاستطاعة وسائر الشرائطلاترتبط بالجعل التكويني، بل تستفاد هذه الشرطيّة من القرآن الكريم،ويستفاد من كلام الشارع في حديث الرفع أنّ الاضطرار رافع التكليف،ويستفاد من قوله صلىاللهعليهوآله : «دَعِي الصلاةَ أيّامَ أقرائِك»(2) أنّ الحيض مانع عنوجوب الصلاة، وكلّ ذلك يرتبط بالجعل الشرعي وهذا ممّا يستفاد من كلامصاحب الكفاية في الواجب المشروط أيضا.
نكتة
- (2) وسائل الشيعة 2: 287، الباب 7 من من أبواب الحيض، الحديث 2.
(صفحه154)
أنّه لانجد في الفقه موردا يعبّر عنه في الأحكام التكليفيّة بالسبب، بل يعبّرعنه بالشرط، وأمّا في الأحكام الوضعيّة فيرى كثيرا مّا التعبير بالسبب، مثل:النكاح سبب للزوجيّة، البيع سبب للملكيّة.
وأمّا سببيّة ـ دلوك الشمس ـ لوجوب الصلاة فالظاهر أنّه لايتحقّق هذالتعبير في الروايات، بل الرواية هكذا «إذا زالت الشمس فقد وجبتالصلاتان»، ومعناها شرطيّة زوال الشمس للوجوب، أو شرطيّته للواجبكالطهارة والاستقبال.
ويمكن أن يقال: إنّ الشرطيّة كما يصحّ انتزاعها من قوله: «إن استطعتم يجبعليكم الحجّ» وجعلها بالتبع، كذلك يصحّ جعلها استقلالاً، كما إذا قال الشارعبعد الأمر بالحجّ مطلقا: «جعلت الاستطاعة شرطا لوجوب الحجّ»، ونتيجةالدليلين شرطيّة الاستطاعة للحجّ، وكون الشرطيّة مجعولة بجعل مستقلّ. هذكلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل.
أمّا بالنسبة إلى القسم الثاني ـ أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة فالظاهر من كلام صاحب الكفاية قدسسره انحصار الجعل الشرعي فيه بالجعلالتبعي والانتزاع عن تعلّق الأمر بالمركّب.
والتحقيق: أنّ ادّعاء الانحصار ليس بصحيح؛ إذ يمكن جعل الجزئيّةوالشرطيّة مستقلاًّ بدون الأمر بالمركّب، كما إذا قال رسول اللّه صلىاللهعليهوآله بعد قولهتعالى: «أَقِيمُواْ الصَّلَوةَ»: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»، و«لا صلاة إلاّ بطهور»،ومعناه أنّ فاتحة الكتاب جزء من الصلاة، وأنّ الطهور شرط لها، ولا شبهة أنّهذا الجعل استقلاليّ.
كما أنّه يدلّ قوله تعالى: «فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ»(1) على أنّه
(صفحه 155)
تعالى جعل استقبال المسجد الحرام شرطا للصلاة بالجعل الاستقلالي، وليكون من قبيل نسخ حكم الصلاة رأسا وإبداء حكم آخر وجعل شرطيّةالاستقبال تبعا له، بل كان الجعل متعلّقا به بالاستقلال، وهكذا في باب المانعيّةوالقاطعيّة لا مانع من قول الشارع بدليل مستقلّ ـ بعد الأمر بالصلاة ـ إنّيجعلت الحدث قاطعا للصلاة مثلاً.
وأمّا بالنسبة إلى القسم الثالث فكان لنا كلامان: الكلام الأوّل: ما هوالجواب عمّا ذكره الشيخ الأنصاري ـ بعد قوله بانتزاعيّة جميع الأحكامالوضعيّة من الأحكام التكليفيّة، وأنّ الملكيّة تنتزع من جواز التصرّفالمترتّب على عقد البيع، وهكذا في باب الزوجيّة والحريّة والرقّيّة وأشباهذلك ـ(1) وأنّ مراده إن كان امتناع اعتبار الملكيّة والزوجيّة مستقلاًّ عندالشارع والعقلاء، فنقول: أيّ دليل دلّ على امتناع اعتبارها كذلك؟
وإن كان مراده مخالفة ظاهر الأدلّة لهذا المعنى فنقول: إنّ ظاهر الأدلّةموافق له، كقوله: «من حاز ملك»(2)، وقوله: «من أحيا أرضا ميتةً فهي له»(3)،والظاهر منهما جعل الملكيّة مستقلّة، وهكذا في سائر العقود والإيقاعات إذقلنا: «يجوز للزوج النظر إلى زوجته» فلازم تأخّر الحكم عن موضوعهاعتبار الزوجيّة قبله، وهكذا في قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم» لابدّمن اعتبار الملكيّة وفرض الأموال التي هي ملك لهم، ثمّ الحكم بتسلّطهمعليها، فالإنصاف بيننا وبين وجداننا ـ بعد ملاحظة الأدلّة ـ يقتضي أنّ الجعلالاستقلالي لها غير قابل للإنكار.
- (1) فرائد الاُصول 3: 125 ـ 127.
- (2) لم نعثر على هذه الجملة في روايات الخاصّة والعامّة.
- (3) الوسائل 25: 412، الباب 1 من أبواب إحياء الموات، الحديث 4.
(صفحه156)
الكلام الثاني: ما هو الجواب عمّا ذكره المحقّق الخراساني قدسسره ـ بعد قوله بأنّالسببيّة للسبب أمر ذاتي له، بلافرق بين الأحكام التكليفيّة والوضعيّة، فلتكون قابلة للجعل والعناية، كعدم قابليّة جعل الزّوجيّة للأربعة(1) ـ وأنّالسبب الشرعي غير السبب التكويني، ومعنى قولنا: «عقد النكاح سببٌللزوجيّة» هو اعتبار الزوجيّة عقيب العقد، وأنّ الشارع جعل العقد موضوعلاعتبار الزوجيّة، لا أنّه يتحقّق في باطن العقد خصوصيّة واقعيّة تترشّح منهالزوجيّة كترشّح الحرارة من النار، وهكذا في قولنا: «عقد البيع سببللملكيّة».
وقد اتّضح إلى هنا أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين: قسم منها قابلللجعل الاستقلالي، وقسم منها منتزع من تعلّق الأمر بالمقيّد بالأمر الوجودي،كقوله: «صلّ مع الطهارة» أو بالأمر العدمي، كقوله: «لاتصلّ في وبر ما لايؤكلّلحمه»، وينتزع من الأوّل شرطيّة الطهارة، ومن الثاني مانعيّة أجزاء ملايؤكل لحمه، ولا نجد في الشريعة حكما وضعيّا لاتناله يد الجعل، لا أصالةولا تبعا، وإلاّ كيف يكون الحكم الشرعي أو المجعول الشرعي كما ذكرناه؟
و لا مانع من جريان الاستصحاب في كلا القسمين منها، فكما أنّه يجري فيصورة الشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ مثلاً ـ كذلك يجريفي صورة الشكّ في بقاء زوجيّة كذا وملكيّة كذا، هذا في المجعولاتالاستقلاليّة.
وأمّا في المجعولات المنتزعة فلابدّ من جريان الاستصحاب في المنتزع منه؛إذ الشكّ في بقاء شرطيّة الطهارة ـ مثلاً ـ مسبب عن الشكّ في بقاء المنتزع منه،ونتيجة جريان الأصل في منشأ الانتزاع بقاء هذا الأمر الانتزاعي.
- (1) كفاية الاُصول 2: 303.
(صفحه 157)
فما ذكره بعض الأعاظم من التفصيل بين الأحكام التكليفيّة والأحكامالوضعيّة بجريان الاستصحاب في الاُولى دون الثانية ليس بتامّ، فالاستصحابحجّة مطلقا.