(صفحه106)
وثانياً: أنّ الرواية على هذا الاحتمال لاتدلّ على قاعدة كلّيّة إلاّ بالإشعارومناسبة الحكم والموضوع، مع أنّا بصدد استفادة القاعدة الكلّيّة السارية فيجميع أبواب الفقه من ظهور الرواية ودلالتها عليها، ومعنى الرواية على هذالاحتمال يشبه قولنا: «إن لميستيقن أنّه قد نام لايجب عليه الوضوء»، فليستفاد منها قاعدة كلّيّة.
وثالثاً: أنّ خلوّ الجزاء عن الفاء، وتصدير مقدّمته وهو قوله: «فإنّه علىيقين» بها خلاف الاُسلوب الكلامي، وعلى فرض صحّته لغة لايصحّ تصديرالجزاء بـ «واو» العطف بعد تصدير مقدّمته بالفاء، نقول: «إن جاءك زيد فزيدعالمٌ أكرمه» لانقول: «إن جاءك زيد فزيد عالم وأكرمه» ـ مثلاً ـ وذكر «الواو»دليل على عدم ارتباط قوله: «ولا ينقض اليقين» بالجملة الشرطيّة، فهذالاحتمال خلاف الظاهر ولا يكون قابلاً للالتزام.
فالمتعيّن من الاحتمالات مااختاره الشيخ الأنصاري قدسسره ؛ لتناسبه مع فهمالعرف والقواعد العربية، وخلوّه عن الإشكال في استفادة القاعدة الكلّيّة منالرواية، وهو كون الجزاء مقدّرا أي «فلا يجب عليه الوضوء»، وقوله: «فإنّهعلى يقين من وضوئه» في مقام التعليل صغرى للقياس، وقوله «لاينقض اليقينأبدا بالشكّ» الكبرى الكلّي.
بقي هنا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله بعنوان التوهّم، وهو: أنّ غاية ما تدلّعليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب، فلا يستفاد منها عدم جوازنقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ، بل أقصى مايستفاد منها هو عدم جوازنقض مجموع أفراد اليقين بالشكّ؛ وهذا لاينافي جواز نقض بعض الأفراد.
والحقّ في الجواب: أنّ المفرد المحلّى باللام لايدلّ على العموم ولا يكونناظرا إلى الأفراد، بل يدلّ على الماهيّة والطبيعة، ويكون «الألف واللام»
(صفحه 107)
للجنس، فالمراد أنّه لاينقض طبيعة اليقين وماهيّته بطبيعة الشكّ وماهيّته،ومعناه عموم السلب، وعدم تحقّق فرد من أفراد الطبيعة في الخارج، وهذنظير قولنا:«لاتكرم الرجل» أو «لاتكرم رجلاً» فهذا الإشكال أيضا مندفع.
تقريبات الأعلام في اختصاص الرواية بالشكّ في الرافع
ثمّ اعلم أنّه يظهر من الشيخ الأنصاري قدسسره ومن تبعه ـ في اختصاص حجّيّةالاستصحاب بالشكّ في الرافع ـ تقريبات في كيفيّة استفادته منها:
أحدها: ماهو ظاهر كلامه في الرسائل ـ تبعا للمحقّق الخوانساري(1) ـ منأنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة كما في نقض الحبل، والأقرب إليهـ على تقدير مجازيّته ـ هو رفع الأمر الثابت الذي له استعداد البقاءوالاستمرار، وقديطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له،فالأرجح هو الحمل على رفع اليد عن الأمر المستمرّ، فعلى هذا يتقيّد اليقين بمتعلّق بالأمر المستمرّ، والمراد من اليقين هو الطريقي لا وصفه.
فمحصّل المعنى: «أنّه لاينقض المتيقّن الثابت كالطهارة السابقة» أو «أحكاماليقين الطريقي» أي أحكام المتيقّن الكذائي المستمرّ شأنا كنفس المتيقّن.
وكيف كان، فالمراد إمّا نقض المتيقّن، وهو رفع اليد عن مقتضاه، وإمّا نقضأحكام اليقين أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين، والمراد حينئذٍ منه رفع اليدعنها، لا أحكام نفس وصف اليقين؛ إذ لو فرضنا حكما شرعيّا محمولاً علىنفس صفة اليقين ارتفع بالشكّ قطعا، كمن نذر فعلاً في مدّة اليقين بحياة زيد.هذا محصل كلامه قدسسره (2).
- (2) فرائد الاُصول 3: 78 ـ 80 .
(صفحه108)
وثانيها: ما أفاده المحقّق الهمداني قدسسره وهو: أنّ النقض ضدّ الإبرام، ومتعلّقهلابدّ وأن يكون له اتّصال حقيقة أو ادّعاءً، ومعنى إضافة النقض إليه رفعالهيئة الإتّصاليّة، فإضافته إلى اليقين والعهد باعتبار أنّ لهما نحو إبرام عقلي،ينتقض ذلك الإبرام بعدم الالتزام بالعهد، وبالترديد في ذلك الاعتقاد.
فحينئذٍ نقول: قد يراد من نقض اليقين بالشكّ رفع اليد من آثار اليقينبالسابق حقيقة في زمان الشكّ، وهذا المعنى إنّما يتحقّق في القاعدة، وأمّا فيالاستصحاب فليست إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق، بلهي باعتبار تحقّقه في زمان الشكّ بنحو من المسامحة والاعتبار؛ إذ لا ترفع اليدعن اليقين السابق في الاستصحاب أصلاً، وإنّما ترفع اليد عن حكمه في زمانالشكّ.
وليس هذا نقضا لليقين، كما أنّ الأخذ بالحالة السابقة ليس عملاً به، بل هوأخذ بأحد طرفي الاحتمال، فلابدّ من تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلىزمان الشكّ من اعتبار وجود تقديري له؛ بحيث يصدق بهذه الملاحظة أنّالأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين، ورفع اليد عنه نقض له.
ومعلوم أنّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفا، بل لوجوده التقديريحينئذٍ وجود تحقيقي يطلق عليه لفظ اليقين كثيرا في العرف، ألا ترى أنّهميقولون: ما عملت بيقيني، وأخذت بقول هذا الشخص الكاذب، ورفعت اليدعن يقيني بقوله؟
وأمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المقتضي فبعيد جدّا، بل لايساعد عليهاستعمال العرف أصلاً، فتعميم اليقين في قوله: «اليقين لاينقض بالشكّ» بحيثيعمّ مثل الفرض بعيد في الغاية(1).
(صفحه 109)
وثالثها: ماذكره المحقّق النائيني رحمهالله وملخّصه مع طوله ـ بعد الإشكال علىالشيخ بأنّ المراد باليقين ليس هو المتيقّن ـ : أنّ المراد من نقض اليقين نقضه بمأنّه يستتبع الحركة على وفقه، فأخذ اليقين في الأخبار باعتبار كونه كاشفا لصفة، فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن، ولهذا تكون إضافتهإلى اليقين شائعة، دون العلم والقطع؛ وليس ذلك إلاّ لأنّهما يستعملان غالبا فيمقابل الظنّ والشكّ، بخلاف اليقين؛ فإنّ إطلاقه غالبا بلحاظ مايستتبعه منالجري على مايقتضي المتيقّن، فتختصّ أخبار الباب بما إذا كان المتيقّن ممّيقتضي الجري العملي على طبقه؛ بحيث لو خلّى وطبعه لكان يبقى العمل علىوفق اليقين ببقاء المتيقّن، وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاءالبقاء؛ فإنّه في مثل ذلك يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن، ويصدقعليه نقض اليقين بالشكّ، بخلاف غيره؛ فإنّ الجري العملي فيه بنفسه ينتقض،ولا تصحّ هذه العناية فيه.
وبتقريب آخر: يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ على أن يكون زمانالشكّ ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه؛ بمعنى أنّ الزمان الذي يشكّ في بقاءالمتيقّن فيه كان متعلّق اليقين عند حدوثه، وهذا إنّما يتمّ إذا كان المتيقّن مرسلبحسب الزمان؛ لكي لايكون اليقين بوجوده من أوّل الأمر محدودا بزمانخاصّ، مقيّدا بوقت مخصوص، وإلاّ ففيما بعد ذلك الحدّ يكون المتيقّن مشكوكالوجود من أوّل الأمر، فلا يكون من نقض اليقين بالشكّ(1). إنتهى.
أمّا تقريب الشيخ الأنصاري قدسسره هو كون قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ»بمعنى «لاتنقض المتيقّن بالشكّ أو لاتنقض آثار المتيقّن بالشكّ»، فهو خلاف
- (1) حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل 81 : 16.
- (2) فوائد الاُصول 4: 374 ـ 376.
(صفحه110)
الظاهر؛ إذ لا وجه للتفكيك بين اليقين والشكّ من حيث المعنى، إذا كان اليقينبمعنى المتيقّن لابدّ من كون الشكّ بمعنى المشكوك مع أنّه لايمكن الالتزام به،وصرف كون اليقين طريقيّا لايوجب أن يكون بمعنى المتيقّن، فكما أنّ طريقيّةالقطع في قولنا: «القطع حجّة» ـ أي منجّز ومعذّر ـ لا يوجب أن يصحّ القول:بأنّ «المقطوع حجّة» كذلك في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ».
والمهمّ في تقريب المحقّق الهمداني قدسسره هو الالتزام باليقين التقديري لتصحيحإسناد النقض باليقين في ظرف الشكّ؛ إذ اليقين الحقيقي متعلّق بحالة سابقة، أيمتعلّق بالنجاسة عند الزوال ـ مثلاً ـ ففي ظرف الشكّ سواء حكمنا بالنجاسةأو لم نحكم بها ليس هذا عملاً على طبق ذاك اليقين ولا نقضا له، فلابدّ لنا مناليقين الفرضي والتقديري ليكون مصحّحا للاسناد، والقول به «لاينقض اليقينالتقديري بالشكّ»، وهذا الفرض يناسب عرفا في الشكّ في الرافع لا في الشكّفي المقتضي؛ وعليه يستفاد بهذا التقريب اختصاص الرواية بالشكّ في الرافع.
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره بقوله: «ففيه ـ مضافا إلى عدملزوم هذا التقدير في صحّة نسبته إليه؛ فإنّ اليقين المحقّق في زمان الشكّ وإنتعلّق بالحالة السابقة، لكن تصحّ نسبة النقض إليه، ويقال: هذا اليقين المتعلّقبالطهارة السابقة لاينتقض بالشكّ، ويبنى عليه في زمان الشكّ ـ أنّ الظاهر منالروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي لا التقديري؛ لأنّ قوله فيالصحيحة المتقدّمة: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه» مرتبط بالكبرى التي بعده؛أي قوله: «ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ»، سواء جعل صغرى لها ـ كما هوالظاهر ـ أو توطئة لذكرها.
ولا شبهة في أنّ المراد باليقين في قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» هواليقين المتعلّق بالوضوء في الزمان السابق، لا اليقين المقدّر المعتبر، فلابدّ أن