(صفحه110)
الظاهر؛ إذ لا وجه للتفكيك بين اليقين والشكّ من حيث المعنى، إذا كان اليقينبمعنى المتيقّن لابدّ من كون الشكّ بمعنى المشكوك مع أنّه لايمكن الالتزام به،وصرف كون اليقين طريقيّا لايوجب أن يكون بمعنى المتيقّن، فكما أنّ طريقيّةالقطع في قولنا: «القطع حجّة» ـ أي منجّز ومعذّر ـ لا يوجب أن يصحّ القول:بأنّ «المقطوع حجّة» كذلك في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ».
والمهمّ في تقريب المحقّق الهمداني قدسسره هو الالتزام باليقين التقديري لتصحيحإسناد النقض باليقين في ظرف الشكّ؛ إذ اليقين الحقيقي متعلّق بحالة سابقة، أيمتعلّق بالنجاسة عند الزوال ـ مثلاً ـ ففي ظرف الشكّ سواء حكمنا بالنجاسةأو لم نحكم بها ليس هذا عملاً على طبق ذاك اليقين ولا نقضا له، فلابدّ لنا مناليقين الفرضي والتقديري ليكون مصحّحا للاسناد، والقول به «لاينقض اليقينالتقديري بالشكّ»، وهذا الفرض يناسب عرفا في الشكّ في الرافع لا في الشكّفي المقتضي؛ وعليه يستفاد بهذا التقريب اختصاص الرواية بالشكّ في الرافع.
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره بقوله: «ففيه ـ مضافا إلى عدملزوم هذا التقدير في صحّة نسبته إليه؛ فإنّ اليقين المحقّق في زمان الشكّ وإنتعلّق بالحالة السابقة، لكن تصحّ نسبة النقض إليه، ويقال: هذا اليقين المتعلّقبالطهارة السابقة لاينتقض بالشكّ، ويبنى عليه في زمان الشكّ ـ أنّ الظاهر منالروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي لا التقديري؛ لأنّ قوله فيالصحيحة المتقدّمة: «وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه» مرتبط بالكبرى التي بعده؛أي قوله: «ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ»، سواء جعل صغرى لها ـ كما هوالظاهر ـ أو توطئة لذكرها.
ولا شبهة في أنّ المراد باليقين في قوله: «فإنّه على يقين من وضوئه» هواليقين المتعلّق بالوضوء في الزمان السابق، لا اليقين المقدّر المعتبر، فلابدّ أن
(صفحه 111)
يراد من اليقين في الكبرى هو هذا اليقين، لا التقديري؛ لعدم صحّة التفرقةبينهما، ضرورة عدم صحّة أن يقال: إنّه على يقين حقيقة من وضوئه في الزمانالسابق، ولا ينقض اليقين التقديري بالشكّ.
هذا، مضافا إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع إنّما تقتضي أن لاينتقضاليقين الواقعي الذي له، إبرام واستحكام بالشكّ، لا اليقين التقديريالاعتباري.
وأيضا أنّ قوله: (أبدا) لتأبيد الحكم المقدّم، أي عدم نقض اليقين بالشكّمستمرّ ومؤبّد، فلابدّ أوّلاً من جعل الحكم، ثمّ إفادة تأبيده بلفظ (أبدا) الذيهو قائم مقام الإطلاق، فينحلّ عرفا هذا الحكم المتقيّد بالتأبيد وعدمه،وتأبيده واستمراره، فلو اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ؛ أي من أوّل وجودهإلى آخره يقدّر اليقين وينسب إليه النقض، فلا مصحّح للتأبيد، فإنّ الأمرالمستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلى آخره لايصحّ اعتبار الاستمرارفيه ثانيا؛ فإنّ الشيء المستمرّ لايقع فيه استمرار آخر.
هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ، وإن اعتبر في أوّل زمان الشكّواُريد بيان تأبيد حكمه بلفظ (أبدا) فلا مصحّح لنسبة النقض إلى ما بعدظرف التقدير بناءً على تحقّقه.
فتلخّص ممّا ذكرنا: أنّ الظاهر من تأبيد الحكم أنّ اليقين المتعلّق بأمرٍ سابقعلى الشكّ لاينقض في ظرف الشكّ من أوّل زمانه إلى آخره.
ولكنّ الظاهر أنّ إشكاله الأخير لايكون قابلاً للمساعدة، بل يمكنمناقشته بأنّ اليقين التقديري يرتبط بإسناد النقض باليقين، وهو الموضوع فيالمقام، فيكون فرض اليقين التقديري إلى آخر زمان الشكّ بعنوان بقاءالموضوع، وأمّا ذكر لفظ (أبدا) فهو لبيان استمرار الحكم، أي تأبيد عدم جواز
(صفحه112)
نقض اليقين بالشكّ، فوقع الخلط بين الحكم والموضوع في كلامه قدسسره .
وآخر ما أورد عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (1) أن قال: «وأيضا قوله فيذيل الصحيحة: «وإنّما ينقضه بيقين آخر» ليس حكما مجعولاً؛ ضرورة امتناعجعل إيجاب العمل على طبق اليقين، فإنّه بمنزلة جعل الحجّيّة والكاشفيّة له،فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدّم، فتكون تأكيدلاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر، أو لإفادة استمراره حتّى مع وجودالظنّ إن اُريد بالشكّ ما هو المصطلح، لاعدم العلم، فيفهم من هذه الغاية أنّالمتكلّم اعتبر ثلاثة اُمور: اليقين السابق، والشكّ المستمرّ، واليقين المتأخّر،فقال: إنّ حكم اليقين بالأمر السابق مستمرّ في زمان الشكّ ولا ترفع اليد عنهإلى زمان اليقين بخلافه».
فاعتبار اليقين في ظرف الشكّ ممّا لاتساعده هذه الاعتبارات.
وبالجملة، إنّ التأمّل في الصحيحة صدرا وذيلاً ممّا يشرف بالفقيه علىالقطع بأنّ اليقين في الكبرى هو اليقين المحقّق الفعلي المتعلّق بالشيء في الزمانالسابق، لا المقدّر المفروض في زمان الشكّ.
والتحقيق: أنّ جميع ما أورده قدسسره على المحقّق الهمداني رحمهالله قابل للمساعدة إلما ذكرناه من الخلط في كلامه.
وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله فحاصله: أنّ المراد من اليقين نفس المتيقّنممّا لايمكن المساعدة عليه ـ كما يظهر من الشيخ ـ بل المراد من نقض اليقيننقضه بما أنّه يستتبع الحركة على وفق المتيقّن، فأخذ اليقين في الأخبار إنّميكون باعتبار كونه كاشفا وطريقا إلى المتيقّن، لا بما أنّه صفة قائمة في النفس،فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن.
(صفحه 113)
ثمّ ذكر أنّه لميعهد استعمال النقض في العلم والقطع فإنّ إطلاق العلم والقطعيكون في مقابل الظنّ والشكّ غالبا، بخلاف اليقين؛ فإنّ إطلاقه غالبا يكونبلحاظ مايستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقّن والعمل على طبقه، وهذالمعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقّقالجري العملي على طبقه، ويصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن،بخلاف ما إذا لميكن للمتيقّن اقتضاء البقاء في سلسلة الزمان، فإنّ الجريالعملي بنفسه ينتقض، ولا يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن(1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّه لاوجه للفرق بين اليقين والعلم والقطع وإن لميذكر فيالرواية غير كلمة «اليقين»، ولكنّه لايكون مشعرا بعدم صحّة استعمال كلمة«القطع» أو «العلم» مكانه، بل مايقرب إلى الأذهان هو لزوم الحركة على وفقالقطع والحجّيّة الذاتيّة كانت لهذا العنوان، فلا فرق بينها في الاستعمالاتالفقهية والاُصوليّة؛ لكونها من الألفاظ المترادفة.
وثانياً: أنّ لزوم الحركة والعمل على وفق اليقين يكون من آثار اليقينوأحكامه كما أنّ الحجّيّة من آثاره، إلاّ أنّ الحجّيّة ولزوم العمل على طبقه منأحكامه العقليّة، وكذلك عدم نقضه بالشكّ من أحكامه وآثاره بتعبّد الشارع،وكلمة «اليقين» موضوع للجميع، ومغايرة الحكم والموضوع لا يخفى علىأحد، فما هو الملزم والداعي لإتيان كلمة «اليقين» في قوله «لاينقض اليقينبالشكّ» مصاحبا مع بعض آثاره العقليّة، أي لزوم الجري العملي على وفقه؟
وثالثاً: أنّ إنكار كون اليقين بمعنى المتيقّن والقول بصحّة ورود النقض علىاليقين بعناية المتيقّن، ثمّ تقسيم المتيقّن بالقابل للاستمرار وعدمه ليس بتامّ.
وعليه فهذا التقريب من المحقّق النائيني رحمهالله لايكون قابلاً للمساعدة.
- (1) فوائد الاُصول 4: 374 ـ 376.
(صفحه114)
وأمّا التقريب الثاني له رحمهالله فهو قوله: «وبتقريب آخر: يتوقّف صدق نقضاليقين بالشكّ على أن يكون زمان الشكّ ممّا قد تعلّق اليقين به زمان حدوثه»،إلخ.
وحاصله: أنّ المتيقّن إن كان صالحا للبقاء والاستمرار يتحقّق في زماناليقين بحدوثه يقين آخر ببقائه واستمراره، وأنّه خالٍ عن الحدّ والغاية،وإنكان غيرصالح للبقاء والاستمرار فاقتضائه وقابليّته محدود ومضيّق،فيتحقّق هنا اليقين بالحدوث فقط، ومعلوم أنّ النقض وعدمه في بابالاستصحاب يرتبط بالبقاء، وإسناد النقض إلى اليقين في قوله: «لاينقضاليقين بالشكّ» يقتضي تحقّق اليقين بالبقاء مع تحقّق اليقين بالحدوث، وهذالمعنى يختصّ في الشكّ في الرافع ولا يتصوّر في الشكّ في المقتضي(1).
ويرد عليه: أنّ صلاحية البقاء والاستمرار لايكون ملازما لتحقّق اليقينبالحدوث واليقين بالبقاء معا حتّى في زمان الشكّ، فإنّ تحقّق ما هو الصالحللبقاء ـ كالطهارة ـ كثيرا مّا متيقّن، ولا نعلم غاية استمراره، ولا يكوناستعداد بقاء الطهارة متيقّنا لنا، ولا يكون اليقين في القابليّة مورد النزاع حتّىنقول بنقضه أو عدم نقضه بالشكّ، بل البحث يدور مدار اليقين بالوضوءوعدم نقضه بالشكّ، ولا يتحقّق هنا يقين سوى اليقين بالحدوث.
تحقيق المسألة في الشكّ في الرافع والمقتضي
ذكر هنا اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2) تحقيقا تبعا لصاحب الكفاية، ونتيجتهشمول دائرة الاستصحاب للشكّ في الرافع والمقتضي، وهو:
- (1) فوائد الاُصول 4: 376.