(صفحه12)
والحاصل: أنّ المراد بكون التكرار لعبا إن كان هو اللعب بأمر المولى فذلكممنوع جدّا؛ لأنّه ليس لعبا إلاّ في كيفيّة الإطاعة، وإن كان هو اللعب ولو فيخصوصيّات العمل فنمنع كون هذا اللعب مؤثّرا في البطلان.
وأمّا الجهة الثانية فمحصّلها: أنّه يعتبر في العبادة قصد القربة والوجه والتمييزوالجزم بالنيّة، ولا يتحقّق ذلك إلاّ مع العلم التفصيلي بالمأمور به.
وجوابها: أنّه لا مانع من تحقّق قصد القربة والوجه والتمييز في الامتثالأيضا، بصورة التعليق، والقول بأنّي اُصلّي صلاة الجمعة لوجوبها إن كانتواجبة، وكفاية احتمال المقرّبيّة لقصد القربة وإتيان العمل بداعي احتمال المقرّبيّةلايكون قابلاً للإنكار.
نعم، الجزم بالنيّة لايتحقّق إلاّ مع العلم التفصيلي، ولكن لا دليل علىاعتباره في العبادة، لعدم الدليل عليه لا عقلاً ولا شرعا.
أمّا عقلاً فواضح، وأمّا شرعا فلخلوّ النصوص عن الدلالة على اعتباره،ومن الواضح أنّ الأمر بالشيء لايقتضي إلاّ مجرّد الإتيان في الخارج، فإطلاقدليل الأمر دليل على العدم، بناء على ما حقّقنا في مباحث الألفاظ من إمكانتلك الاُمور كلّها في متعلّق الأمر، وعلى تقدير القول بعدم الإمكان فحيث إنّهلا سبيل للعقل إلى تشخيص كونها معتبرة، بل اللازم أن يبيّنه الشارع،والمفروض عدم دليل شرعي على اعتبارها، فلا وجه للقول به قبل جريانأصالة البراءة. ومن هذه الجهة أيضا لا فرق في جريانها بين أجزاء الصلاةوبين الاُمور المذكورة.
نعم، قد يستدلّ بالإجماع على بطلان العمل بالاحتياط، كما ادّعاه السيّدالرضي(1) على بطلان صلاة من صلّى ولا يعلم أحكامها، ومقتضى عمومه
- (1) ذكري الشيعة 4: 325، فرائد الأصول 2: 508.
(صفحه 13)
بطلان صلاة المحتاط، وكما أنّه قد ادّعى الإجماع على بطلان عبادة تارك طريقيالاجتهاد والتقليد والأخذ بالاحتياط، ولكنّ الإجماع المنقول بالخبر الواحدفاقد للحجّيّة والاعتبار كما ثبت في محلّه، فلا إشكال في صحّة عبادة المحتاط.
فالإشكالات الواردة على الاحتياط في الشبهات المقرونة بالعلم الإجماليوإن كان مستلزما لتكرار العبادة قابلة للدفع.
وأمّا الإشكال الراجع إلى الاحتياط فيما إذا كان على خلافه حجّة شرعيّةفهو ما ذكره المحقّق النائيني رحمهالله ومحصّله: أنّه يعتبر في حسن الاحتياط إذا كانعلى خلافه حجّة شرعيّة أن يعمل المكلّف أوّلاً بمؤدّى الحجّة، ثمّ يعقّبهبالعمل على خلاف ما اقتضته الحجّة إحرازا للواقع، وليس للمكلّف أن يعملبالعكس إلاّ إذا لم يستلزم الاحتياط استئناف جملة العمل وتكراره.
والسرّ في ذلك: أنّ معنى اعتبار الطريق إلقاء احتمال مخالفته للواقع عملوعدم الاعتناء به، والعمل أوّلاً برعاية احتمال مخالفة الطريق للواقع ينافي إلقاءاحتمال الخلاف، فإنّ ذلك عين الاعتناء باحتمال الخلاف، وهذا بخلاف ما إذقدّم العمل بمؤدّى الطريق، فإنّه حيث قد أدّى المكلّف ما هو الوظيفة وعمل بميقتضيه الطريق، فالعقل يستقلّ بحسن الاحتياط لرعاية إصابة الواقع. هذا،مضافا إلى أنّه يعتبر في حسن الطاعة الاحتماليّة عدم التمكّن من الطاعةالتفصيليّة، وبعد قيام الطريق المعتبر يكون المكلّف متمكّنا من الامتثالالتفصيلي بمؤدّى الطريق، فلا يحسن منه الامتثال الإحتمالي(1). إنتهى.
وجوابه: أوّلاً: أنّ تقدّم رتبة الامتثال التفصيلي على الامتثال الاحتماليممنوع، بل الظاهر كونهما في عرض واحد ورتبة واحدة، فمع التمكّن من تحصيل
- (1) فوائد الاُصول 4: 265.
(صفحه14)
العلم يجوز له الاقتصار على الامتثال الإحتمالي.
والسرّ: أنّه لايعتبر في تحقّق الإطاعة أزيد من الإتيان بالمأمور به مع جميعالقيود المعتبرة فيه ولو بداعي احتمال الأمر، ولا فرق بينهما في نظر العقل أصلاً.
وثانياً: أنّ معنى حجّيّة الأمارة واعتبارها ليس إلاّ مجرّد وجوب العمل علىطبقها وترتيب آثار الواقع عليها في مقام العمل، وأمّا دلالة دليل الحجّيّة علىلزوم إلقاء احتمال الخلاف فلمنعرف لها وجها، فإنّ مفاد بناء العقلاء الذي هوالدليل المهمّ لحجّيّة الخبر ليس إلاّ بناء العمل على طبقه وترتيب الأثر عليهعملاً، ولا يستفاد منه إلقاء احتمال الخلاف في مقام العمل، وعلى فرضاستفادته منه لافرق في تحقّق الاعتناء باحتمال الخلاف بين تقدّم العمل بمؤدّىالطريق وتأخّره.
فانقدح من جميع ماذكرنا: أنّه لايعتبر في حسن الاحتياط شيء زائد علىتحقّق موضوعه وهو احتمال التكليف، هذا كلّه في الاحتياط.
(صفحه 15)
اعتبار الفحص في جريان البراءة
وأمّا أصالة البراءة فيعتبر في جريانها في الشبهات الحكميّة الفحص،والكلام فيه تارة يقع في أصل اعتبار الفحص ووجوبه، واُخرى في مقداره،وثالثة فيما يترتّب على العمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.
أمّا الكلام في أصل اعتبار الفحص ووجوبه فقد يقع في البراءة العقليّة، وقديقع في البراءة الشرعيّة.اعتبار الفحص في جريان البراءة
أدلّة وجوب الفحص
أمّا البراءة العقليّة التي مدركها قبح العقاب بلابيان والمؤاخذة بلابرهان فلإشكال في اعتبار الفحص فيها؛ لأنّها متفرّعة على عدم البيان، والمراد به وإنكان هو البيان الواصل إلى المكلّف جزما، إلاّ أنّ مناط الوصول ليس هو أنيُعلم المولى كلّ واحد من المكلّفين بحيث يسمعه كلّ واحد منهم، بل وصولهيختلف حسب اختلاف الموالي والعبيد.
فالمولى المقنّن للقوانين العامّة الثابتة على جميع المكلّفين إنّما يكون إيصالهللأحكام من الأوامر والنواهي بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثمّ الأحاديثالمرويّة عن أنبيائه وأوصيائهم المحفوظة في الكتب التي بأيديالمكلّفين، بحيثيتمكّن كلّ واحد منهم من الرجوع إليها والاطّلاع على أحكام اللّه جلّ شأنه.
(صفحه16)
وحينئذٍ فالملاك في تحقّق البيان الذي لايقبح العقاب والمواخذة معه هو أنأمر اللّه تعالى رسوله بتبليغه، وقد بلّغه الرسول على نحو المتعارف، وصارمضبوطا في الكتب المعدّة له، ومع فقدان أحد هذه الشروط يصدق عدمالبيان ويقبح العقاب معه، وحينئذ فمع احتمال المكلّف ثبوت التكليف المبيّنالواصل بحيث لو فحص لظفر به لايجوز الاعتماد على البراءة التي مدركها قبحالعقاب بلابيان، كما أنّ العبد العرفي لو وصل إليه مكتوب من ناحية مولاهواحتمل أن يكون المكتوب متضمّنا لبعض التكاليف لايجوز له القعود عنهبعدم مراجعته استنادا إلى أنّ المولى لم يبيّن حكمه، ولا يكون مثل هذا العبدمعذورا عند العقلاء جزما، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد يستشكل في وجوب الفحص وعدم جريان البراءة قبله بأنّالحكم مالم يتّصف بوصف المعلوميّة لايكون باعثا ومحرّكا؛ ضرورة أنّ البعثبوجوده الواقعي لايصلح للمحرّكيّة، وإلاّ لكان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبةإلى الجاهل به المعتقد عدمه، بل قد عرفت سابقا أنّه لايعقل أن يكونالانبعاث مسبّبا عن البعث الواقعي، بل الانبعاث دائما مسبّب عن البعثبوجوده العلمي الذي هو الصورة الذهنيّة الكاشفة عنه، والأوامر إنّما تتّصفبالباعثيّة والمحرّكيّة بالعرض، كما أنّ اتّصافها بوصف المعلوميّة أيضا كذلك؛ضرورة أنّ المعلوم بالذات إنّما هو نفس الصورة الحاضرة عند النفس، كمحقّق في محلّه.
والحاصل: أنّ البعث الواقعي لايكون باعثا ما لم يصر مكشوفا، والكاشفعنه إنّما هو العلم ونحوه، وأمّا الاحتمال فلا يعقل أن يكون كاشفا، وإلاّ لكاناللازم أن يكشف عن طرفي الاحتمال ـ أي الوجود والعدم ـ فمع الاحتماللايكون البعث الواقعي محرّكا وباعثا، وبدون الباعثيّة لايمكن أن يكون