(صفحه14)
العلم يجوز له الاقتصار على الامتثال الإحتمالي.
والسرّ: أنّه لايعتبر في تحقّق الإطاعة أزيد من الإتيان بالمأمور به مع جميعالقيود المعتبرة فيه ولو بداعي احتمال الأمر، ولا فرق بينهما في نظر العقل أصلاً.
وثانياً: أنّ معنى حجّيّة الأمارة واعتبارها ليس إلاّ مجرّد وجوب العمل علىطبقها وترتيب آثار الواقع عليها في مقام العمل، وأمّا دلالة دليل الحجّيّة علىلزوم إلقاء احتمال الخلاف فلمنعرف لها وجها، فإنّ مفاد بناء العقلاء الذي هوالدليل المهمّ لحجّيّة الخبر ليس إلاّ بناء العمل على طبقه وترتيب الأثر عليهعملاً، ولا يستفاد منه إلقاء احتمال الخلاف في مقام العمل، وعلى فرضاستفادته منه لافرق في تحقّق الاعتناء باحتمال الخلاف بين تقدّم العمل بمؤدّىالطريق وتأخّره.
فانقدح من جميع ماذكرنا: أنّه لايعتبر في حسن الاحتياط شيء زائد علىتحقّق موضوعه وهو احتمال التكليف، هذا كلّه في الاحتياط.
(صفحه 15)
اعتبار الفحص في جريان البراءة
وأمّا أصالة البراءة فيعتبر في جريانها في الشبهات الحكميّة الفحص،والكلام فيه تارة يقع في أصل اعتبار الفحص ووجوبه، واُخرى في مقداره،وثالثة فيما يترتّب على العمل بالبراءة قبل الفحص من التبعة والأحكام.
أمّا الكلام في أصل اعتبار الفحص ووجوبه فقد يقع في البراءة العقليّة، وقديقع في البراءة الشرعيّة.اعتبار الفحص في جريان البراءة
أدلّة وجوب الفحص
أمّا البراءة العقليّة التي مدركها قبح العقاب بلابيان والمؤاخذة بلابرهان فلإشكال في اعتبار الفحص فيها؛ لأنّها متفرّعة على عدم البيان، والمراد به وإنكان هو البيان الواصل إلى المكلّف جزما، إلاّ أنّ مناط الوصول ليس هو أنيُعلم المولى كلّ واحد من المكلّفين بحيث يسمعه كلّ واحد منهم، بل وصولهيختلف حسب اختلاف الموالي والعبيد.
فالمولى المقنّن للقوانين العامّة الثابتة على جميع المكلّفين إنّما يكون إيصالهللأحكام من الأوامر والنواهي بإرسال الرسل وإنزال الكتب، ثمّ الأحاديثالمرويّة عن أنبيائه وأوصيائهم المحفوظة في الكتب التي بأيديالمكلّفين، بحيثيتمكّن كلّ واحد منهم من الرجوع إليها والاطّلاع على أحكام اللّه جلّ شأنه.
(صفحه16)
وحينئذٍ فالملاك في تحقّق البيان الذي لايقبح العقاب والمواخذة معه هو أنأمر اللّه تعالى رسوله بتبليغه، وقد بلّغه الرسول على نحو المتعارف، وصارمضبوطا في الكتب المعدّة له، ومع فقدان أحد هذه الشروط يصدق عدمالبيان ويقبح العقاب معه، وحينئذ فمع احتمال المكلّف ثبوت التكليف المبيّنالواصل بحيث لو فحص لظفر به لايجوز الاعتماد على البراءة التي مدركها قبحالعقاب بلابيان، كما أنّ العبد العرفي لو وصل إليه مكتوب من ناحية مولاهواحتمل أن يكون المكتوب متضمّنا لبعض التكاليف لايجوز له القعود عنهبعدم مراجعته استنادا إلى أنّ المولى لم يبيّن حكمه، ولا يكون مثل هذا العبدمعذورا عند العقلاء جزما، كما لا يخفى.
ثمّ إنّه قد يستشكل في وجوب الفحص وعدم جريان البراءة قبله بأنّالحكم مالم يتّصف بوصف المعلوميّة لايكون باعثا ومحرّكا؛ ضرورة أنّ البعثبوجوده الواقعي لايصلح للمحرّكيّة، وإلاّ لكان اللازم تحقّق الانبعاث بالنسبةإلى الجاهل به المعتقد عدمه، بل قد عرفت سابقا أنّه لايعقل أن يكونالانبعاث مسبّبا عن البعث الواقعي، بل الانبعاث دائما مسبّب عن البعثبوجوده العلمي الذي هو الصورة الذهنيّة الكاشفة عنه، والأوامر إنّما تتّصفبالباعثيّة والمحرّكيّة بالعرض، كما أنّ اتّصافها بوصف المعلوميّة أيضا كذلك؛ضرورة أنّ المعلوم بالذات إنّما هو نفس الصورة الحاضرة عند النفس، كمحقّق في محلّه.
والحاصل: أنّ البعث الواقعي لايكون باعثا ما لم يصر مكشوفا، والكاشفعنه إنّما هو العلم ونحوه، وأمّا الاحتمال فلا يعقل أن يكون كاشفا، وإلاّ لكاناللازم أن يكشف عن طرفي الاحتمال ـ أي الوجود والعدم ـ فمع الاحتماللايكون البعث الواقعي محرّكا وباعثا، وبدون الباعثيّة لايمكن أن يكون
(صفحه 17)
منجّزا، ومع عدم التنجّز لا وجه لاستحقاق العقوبة على مخالفته، ولا فرق فيهذا بين كون المكلّف قادرا على الفحص وعدمه.
ويرد عليه: أوّلاً: النقض بما إذا قامت الحجّة المعتبرة من قبل المولى علىثبوت التكليف وفرض عدم إفادتها الظنّ، بل كان التكليف مع قيام الأمارةأيضا مشكوكا أو مظنون الخلاف، فإنّه يجري فيه هذا الإشكال، ومقتضاهحينئذ عدم ثبوت العقاب على مخالفته على تقدير ثبوته في الواقع، مع أنهواضح البطلان، وإلاّ يلزم لغويّة اعتبار الأمارة، كما هو واضح. مضافا أنّه ليلتزم به المستشكل أيضا.
وثانياً: الحلّ بأنّه لانسلّم أن تكون المنجزيّة متفرّعة على الباعثيّة؛ لأنّالمنجّزيّة الراجعة إلى صحّة عقوبة المولى على المخالفة والعصيان حكم عقلي،وقد عرفت أنّ العقل يحكم بعدم المعذّريّة، وبصحّة العقوبة لو بيّن المولىالتكليف بنحو المتعارف، بحيث كان العبد متمكّنا من الاطّلاع عليه بالمراجعةإلى مظانّ ثبوته ولم يراجع، فخالف اعتمادا على البراءة كما عرفت في مثالالمكتوب الواصل من المولى إلى العبد، ويحتمل اشتماله على بعض التكاليف،والظاهر أنّ هذا من الوضوح بمكان، فلا مجال لهذا الإشكال.
ثمّ إنّه قد يقرّر وجوب الفحص بوجه آخر، ومحصّله: أنّ ارتكاب التحريمقبل الفحص ومراجعة مظانّ ثبوته ظلم للمولى، والظلم قبيح محرّم خصوصظلم المولى، فلو اقتحم في المشتبه قبل الفحص يستحقّ العقوبة لأجل ظلمالمولى، كما أنّه في موارد التجرّي يستحقّ العقوبة عليه وإن كان لايستحقّالعقوبة على مخالفة الواقع في المقامين.
ويرد عليه: أنّ تحقّق عنوان الظلم في المقام ليس إلاّ من جهة احتمال حصولالمخالفة بالاقتحام في المشتبه؛ ضرورة أنّه مع العلم بعدم وجود التكليف في
(صفحه18)
البين لايكون مجرّد ترك الفحص من مصاديق ذلك العنوان، فترك الفحصوارتكاب محتمل التحريم إنّما يكون ظلما لأجل احتمال تحقّق المخالفة التي هيقبيحة موجبة لاستحقاق العقوبة.
وحينئذ نقول: بعد جريان حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولو قبل تركالفحص ـ كما هو المفروض ـ لايبقى مجال لاحتمال تحقّق المخالفة القبيحة أصلاً،ومع انتفاء هذا الاحتمال يخرج المقام عن تحت عنوان ظلم المولى، كما هوالواضح.
ومن هنا يظهر الفرق بين المقام وبين مسألة التجرّي، فإنّ الموضوع للحكمبالقبح والحرمة هناك على تقدير ثبوته هو نفس عنوان التجرّي، الراجع إلىالطغيان على المولى والخروج عن رسم العبوديّة، وهذا لايتوقّف تحقّقه علىثبوت التكليف، بل يصدق على كلا التقديرين، بخلاف المقام، فإنّ تحقّق عنوانالظلم يتوقّف على عدم حكم العقل بقبح العقاب ولو قبل الفحص، والمفروضحكمه بذلك مطلقا، فتأمّل.
هذا، وقد يقرّر حكم العقل بوجوب الفحص بوجه ثالث، وهو: أنّ كلّ منالتفت إلى المبدء والشريعة يعلم إجمالاً بثبوت أحكام فيها، ومقتضى العلمالإجمالي هو الفحص عن تلك الأحكام.
ولا يخفى ضعف هذا الوجه؛ لأنّ الكلام إنّما هو في شرائط جريان أصلالبراءة بعد كون المورد المفروض مجرى لها، وقد عرفت أنّ مجراها هو الشكّفي أصل التكليف وعدم العلم به، لا إجمالاً ولا تفصيلاً. فلو فرض ثبوت العلمالإجمالي فإنّه يخرج المورد عن مجراها، فلا يبقى مجال للتمسّك بالعلم الإجماليلاعتبار وجوب الفحص في جريانها، كما لا يخفى، ولكن حيث إنّه وقع موردللنقض والإبرام بين الأعلام فلا مانع من التعرّض لحاله بما يسعه المقام،