(صفحه 163)
التنبيه الثاني
في البحث عن جريان الاستصحاب
في مؤدّيات الأمارات والطرق الشرعيّة وعدمه
ربّما يقال: بعدم جريانه فيها؛ إذ لابدّ في الاستصحاب من تحقّق اليقينبالحدوث والشكّ في البقاء، والأمارات مطلقا لاتفيد اليقين، بعد ما ذكرنا أنّحجّيّة الأمارات بنحو الطريقيّة والكاشفيّة، بمعنى المنجّزيّة عند موافقة الواقعوالمعذّريّة عند مخالفة الواقع، وقيام الطرق والأمارات لايوجب جعل الحكمالظاهري على طبق مؤدّياتها، كما أنّ حجّيّة القطع أيضا تكون كذلك، ولازمعدم جريانه فيها انسداد باب الاستصحاب إلاّ في بعض الموارد، وهذالإشكال مهمّ وتترتّب عليه ثمرة فقهيّة مهمّة.
قال صاحب الكفاية قدسسره : «يمكن أن يذبّ عمّا في استصحاب الأحكام التيقامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها، وقد شكّ في بقائها على تقديرثبوتها، من الإشكال: بأنّه لايقين بالحكم الواقعي، ولا يكون هناك حكم آخرفعلي بناء على ما هو التحقيق، من أنّ قضيّة حجّيّة الأمارة ليست إلاّ تنجّزالتكاليف مع الإصابة والعذر مع المخالفة، كما هو قضيّة الحجّة المعتبرة عقلاً،كالقطع والظنّ في حال الانسداد وعلى الحكومة، لا إنشاء أحكام فعليّة
(صفحه164)
شرعيّة ظاهريّة، كما هو ظاهر الأصحاب، ووجه الذبّ بذلك: أنّ الحكمالواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حين الشكّ محكوم بالبقاء، فتكون الحجّة علىثبوته حجّة على بقائه تعبّدا؛ للملازمة بين بقائه وثبوته واقعا.
إن قلت: كيف وقد اُخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار ولا يقينفي فرض تقدير الثبوت؟
قلت: نعم، ولكنّ الظاهر أنّه اُخذ كشفا عن الحكم الواقعي ومرآتا لثبوتهليكون التّعبّد في بقائه، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّما يكون في بقائه، فافهم»(1).
ويرد عليه: أوّلاً: لزوم التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبارفعليّة الشكّ واليقين في الاستصحاب، وبين ما اختاره في التنبيه الثاني منالاكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوتهوإنلميحرز ثبوته، كما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره (2).
وثانياً: أنّ اليقين في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ» طريقيّ بلحاظ المتعلّقوالمتيقّن، وموضوعيّ بلحاظ حكم «لاتنقض» كموضوعيّته في قولنا: «اليقينحجّة عقلاً»، فلا ينافي مرآتيّة اليقين وكاشفيّته مع موضوعيّته بلحاظ حكمعدم النقض، والمفروض قوام الاستصحاب باليقين والشكّ واعتبار فعليّتهما،فلابدّ من طريق آخر لحلّ الإشكال.
وقال المحقّق النائيني رحمهالله وبعض تلامذته في مقام الجواب عن الإشكال: إنّمعنى جعل حجّيّة الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالمالاعتبار، فيكون اليقين حينئذٍ فردان: اليقين الوجداني، واليقين الجعليالاعتباري، فكما لو علمنا بحكم من الأحكام، ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى
- (1) كفاية الاُصول 2: 309 ـ 310.
(صفحه 165)
الاستصحاب، كذلك إذا قامت الأمارة أو الطريق على ثبوت حكم أوموضوع ذي حكم ثمّ شكّ في بقائهما لا مانع من استصحاب بقاء مؤدّىالطريق والأمارة(1).
وفيه: أنّ اعتبار الطرق والأمارات عند الشارع كثيرا مّا يكون من بابالتصويب وإمضاء ما هو معتبر عند العقلاء، وذكرنا في باب حجّيّة خبرالواحد أنّ أدلّ دليل على حجّيتّه هو عدم ردع الشارع بناء العقلاء في العملبخبر الثقة، وبعد الرجوع إلى العقلاء نستكشف أنّ خبر الثقة طريق غير علميّجعل حجّة على الواقع، بمعنى المنجّزيّة على تقدير الإصابة والمعذّريّة علىتقدير المخالفة للواقع، كما أنّ القطع طريق إلى الواقع بل على رأس الطرقوحجّة عقلاً، كذلك خبر الثقة طريق إليه وحجّة شرعا وعقلاءً في مورد فقدالقطع واليقين، فإنّ انحصار الطريق باليقين يوجب المعضلات والمشكلات فيمسائل الفرد والمجتمع ولا يكون عندهم مودّى الطرق والأمارات المتيقّنالتعبّدي في مقابل المتيقّن الوجداني، ولا يكون مفاد خبر الثقة بنجاسة الثوبـ مثلاً ـ هو القول بـ : أنّي أراك متيقّنا بالنجاسة وأنت عالمٌ في عالم الاعتبار»،وهكذا في سائر الأمارات والطرق.
والتحقيق في الجواب: أنّ إضافة النقض إلى اليقين في قوله: «لاتنقض اليقينبالشكّ» تكون بلحاظ الإبرام والاستحكام المتحقّق فيه، وهذا الاستحكاملايرتبط به بما أنّه صفة قائمة بالنفس، فإنّه ربّما يزول عن النفس سريعا بخلافالشكّ، بل يرتبط بالمتيقّن والكشف عنه كأنّه يراه بالعيان، وملاك الاستحكامعبارة عن حجّيّة القطع، فهو بلحاظ حجّيّته واجد للاستحكام والإبرام،لا بلحاظ كشفه عن الواقع بدون التخلّف، كأنّه يقول: «لاتنقض اليقين الذي
- (1) فوائد الاُصول 4: 404، مصباح الاُصول 3: 99.
(صفحه166)
هو حجّة بالشكّ، الذي ليس بحجّة»، وهذا الملاك يتحقّق في سائر الأماراتوالطرق المعتبرة أيضا، فالشكّ باعتبار عدم حجّيّته وعدم إحرازه للواقعلاينقض اليقين الذي هو حجّة ومحرز له؛ فإنّه لاينبغي أن ترفع اليد عن الحجّةبغير الحجّة، فيلحق الظنّ المعتبر باليقين، والظنّ الغير المعتبر بالشكّ.
هذا توضيح ما ذكره اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره في المقام، ثمّ ذكر مؤيّدات لهوقال: «ويؤيّد ذلك ـ بل يدلّ عليه ـ قوله في صحيحة زرارة الثانية: «لأنّككنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقينبالشكّ أبدا»(1) الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس، ولا بدّ أن تحملالطهارة على الواقعيّة منها؛ لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهريّة لمذكرنا سابقا. ومعلوم أنّ العلم الوجداني بالطهارة الواقعيّة ممّا لايمكن عادة، بلالعلم إنّما يحصل بالأمارات كأصالة الصحّة، وإخبار ذي اليد، وأمثالهما، فيرجعمفاده إلى أنّه لاترفع اليد عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشكّ.
بل يمكن أن يؤيّد بصحيحته الاُولى أيضا؛ فإنّ اليقين الوجداني بالوضوءالصحيح أيضا ممّا لايمكن عادة، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحة بعده،ويحكم بصحّته بقاعدة الفراغ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجب الشكّفيه، فاليقين بالوضوء أيضا لايكون يقينا وجدانيّا غالبا، تأمّل»(2).
فلا يكون اليقين فيهما في مقابل الأمارات المعتبرة فيستفاد منهما صحّةجريان الاستصحاب في موارد الطرق والأمارات المعتبرة.
- (1) الوسائل 3: 466، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 1.
(صفحه 167)
التنبيه الثالث
في تردّد المستصحب
وأنّه قد يكون فردا معيّنا، كما إذا شككنا في بقاء زيد في الدار بعد العلمبدخوله فيها لترتّب أثر شرعي، وقد يكون فردا مردّدا، كما إذا علمنا بتحقّقفرد في الدار ولكنّه مردّد بين زيد وعمرو، وشككنا بعد ساعة في بقائه فيها،فلا إشكال في جريان الاستصحاب في هذين الموردين، إلاّ أن جريانه فيمورد الثاني يكون لترتّب الآثار المشتركة على بقاء الفردين لا الآثار المختصّةعلى بقاء أحد الفردين.
ربّما يقال: يتصوّر هنا قسم ثالث للفرد ويعبّر عنه بالفرد المنتشر، ولكنّهليس بصحيح؛ إذ الفرديّة مساوقة للتشخّص والتعيّن، ولا يمكن الجمع بينالتعيّن والتشخّص الفردي والانتشار والسعة، وهو في الحقيقة كلّي معيّن فيالخارج، ومثاله: قول البائع للمشتري: «بعتك صاعا من هذه الصبرة»، وإنكان المستصحب من هذا القبيل فهو استصحاب الكلّي، لا استصحاب الفرد.
وقد يكون المستصحب كلّيّا واستصحاب الكلّي على أقسام
القسم الأوّل: ما إذا علمنا بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن، ثمّ شككنا فيبقاء هذا الفرد وارتفاعه، فلا محالة نشكّ في بقاء الكلّي وارتفاعه أيضا، فإذ