(صفحه 181)
بارتفاعه، ففي استصحابه إشكال أظهره عدم جريانه، فإنّ وجود الطبيعي وإنكان بوجود فرده إلاّ أنّ وجوده في ضمن المتعدّد من أفراده ليس من نحووجود واحد له، بل متعدّد حسب تعدّدها، فلو قطع بارتفاع ما علم وجودهمن الأفراد لقطع بارتفاع وجود الكلّي وإن شكّ في وجود فرد آخر مقارنلوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه، بنفسه أو بملاكه، كما إذا شكّ في الاستحباب بعدالقطع بارتفاع الايجاب بملاك مقارن أو حادث»(1).
وقال اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره في مقام الجواب عنه: «وأمّا ما أفاده المحقّقالخراساني قدسسره من تعدّد الطبيعي بتعدّد الفرد، وأنّ الكلّي في ضمن فرد غيره فيآخر، ولذا اختار عدم الجريان مطلقا، فهو حقّ في باب الكلّي الطبيعي عقلكما حقّق في محلّه، لكن جريانه لايتوقّف على الوحدة العقليّة، بل الميزان وحدةالقضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفاً، ولا إشكال في اختلاف الكلّيّات بالنسبةإلى أفرادها لدى العرف.
وتوضيحه: أنّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع التي هي تحته، كزيدوعمرو بالنسبة إلى الإنسان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب كزيدوحمار بالنسبة إلى الحيوان، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسّط أوالبعيد، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الكلّي العرضيّ، كأفراد الكيفيّات والكمّياتالتي هي مشتركة في العروض على المحلّ.
ولا يخفى أنّ الأفراد بالنسبة إلى الكلّيّات مختلفة عرفا، فإذا شكّ في بقاءنوع الإنسان إلى ألف سنة يكون الشكّ في البقاء عرفا مع تبدّل الأفراد، لكنّالعرف يرى بقاء النوع مع تبدّل أفراده، وقد يكون الجنس بالنسبة إلى أفرادالأنواع كذلك، وقد لايساعد عليه نظر العرف، كأفراد الإنسان والحمار بالنسبة
- (1) كفاية الاُصول 2: 312.
(صفحه182)
إلى الحيوان، فإنّ العرف لايرى الإنسان من جنس الحيوان، وقد لايساعدعليه نظر العرف في أفراد الأجناس البعيدة، وقد يساعد على ذلك.
وبالجملة، الميزان وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفا، ولا ضابطلذلك(1).
فلا نقول بجريان استصحاب الكلّي في هذا القسم مطلقا، ولا بعدم جريانهمطلقا، ولا بالتفصيل الذي ذكره الشيخ قدسسره ، بل جريانه وعدم جريانه تابعلوحدة القضيّتين بنظر العرف وعدمها.
وقال بعض الأعلام قدسسره : «والصحيح عدم جريان الاستصحاب فيالصورتين؛ لأنّ الكلّي لاوجود له إلاّ في ضمن الفرد، فهو حين وجودهمتخصّص بإحدى الخصوصيّات الفرديّة، فالعلم بوجود فرد معيّن يوجبالعلم بحدوث الكلّي بنحو الانحصار ـ أي يوجب العلم بوجود الكلّيالمتخصّص بخصوصيّة هذا الفرد ـ وأمّا وجود الكلّي المتخصّص بخصوصيّة فردآخر فلميكن معلوما لنا، فما هو المعلوم لنا قد ارتفع يقينا، وما هو محتملللبقاء لم يكن معلوما لنا، فلا يكون الشكّ متعلّقا ببقاء ما تعلّق به اليقين، فليجري فيه الاستصحاب»(2).
وجوابه: أنّ احتياج وجود الكلّي إلى الخصوصيّات الفرديّة لا بحث فيه، إلأنّ الكلّي بعد التحقّق والوجود كأنّه ينحلّ إلى أمرين أو حيثيّتين: إحداهمحيثيّة الكلّي المتحقّق، والاُخرى حيثيّة الخصوصيّات الفرديّة، والاستصحابيجري في الأمر الأوّل ـ أي الكلّي المتحقّق ـ ولا فرق بين زيد وعمرو وسائرالأفراد في كلّي الإنسانيّة المتحقّقة، والفرق إنّما يرجع إمّا إلى مقالة صاحب
- (2) مصباح الاُصول 2: 114 ـ 115.
(صفحه 183)
الكفاية، وإمّا إلى ماذكره النائيني رحمهالله وبعد ردّ ما ذكراه تستفاد وحدة كلّيالإنسان المتحقّق في ضمن زيد مع كلّي الإنسان المتحقّق في ضمن عمروـ مثلاً ـ ، والاختلاف في الخصوصيّات الفرديّة فقط، فلا مانع من استصحابالكلّي هنا.
وترد على هذا القسم من الكلّي أيضا شبهة نظير الشبهة العبائيّة في القسمالثاني منه، وهي: أنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم لميجزله الدخول في الصلاة مع الوضوء، بناء على جريان الاستصحاب في الصورةالاُولى من القسم الثالث من استصحاب الكلّي، وذلك لجريان استصحابالحدث حينئذ بعد الوضوء؛ لاحتمال اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة، وهيلاترتفع بالوضوء. ولا يلتزم بهذا الحكم الشيخ قدسسره ولا غيره؛ فإنّ كفايةالوضوء حينئذ من الواضحات. وهذا يكشف من عدم جريان الاستصحابفي القسم الثالث مطلقا.
وقال بعض الأعلام قدسسرهم في مقام الجواب عنه: «ولكنّ الإنصاف عدم ورودهذا النقض على الشيخ رحمهالله وذلك؛ لأنّ الواجب على المحدث هو الوضوء؛ لقولهتعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ»(1)، والجنب خارج من هذالعموم ويجب عليه الغسل؛ لقوله تعالى: «وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ»(2)، فيكونوجوب الوضوء مختصّا بغير الجنب، فإنّ التقسيم قاطع للشركة، فالمكلّفبالوضوء هو كلّ محدث لايكون جنبا، فهذا الذي قام من نومه ويحتمل كونهجنبا حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة، فكونه محدثا محرزبالوجدان، وكونه غيرجنب محرز بالتعبّد الشرعي، فيدخل تحت قوله تعالى:
(صفحه184)
«فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ...» فيكون الوضوء في حقّه رافعا للحدث، ولا مجاللجريان الاستصحاب في الكلّي؛ لكونه محكوما بالأصل الموضوعي»(1).
ويمكن الجواب عنه بأنّ الآية مشتملة على قضيّتين، كأنّه قال: إذا تحقّقالنوم يجب الوضوء، وإذا تحقّقت الجنابة يجب الاغتسال، ولا ارتباط بينهما ولدليل لتقييد موضوع وجوب الوضوء وتركيبيه ـ أي النوم وعدم الجنابة ـ كمإذا قال المولى لعبده: «إن جاءك زيدٌ فأكرمه»، ثمّ قال: «إن جاءك عمروٌفأهنه»، فمجيء زيد سبب مستقلّ لوجوب إكرام زيد، ولا دليل لدخالة قيدآخر أو جزء آخر فيه ـ أي مجيء عمرو وعدم مجيئه ـ وهكذا في القضيّةالثانية.
وأمّا استشهاده بذيل الآية ـ أي «فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا»(2)،واستفادته تقييد موضوع الوضوء بوجدان الماء بقرينة المقابلة بين الصدروالذيل فليس بصحيح؛ فإنّ هذا التقييد يستفاد من نفس الأمر بالوضوء معقطع النظر عن ذيل الآية.
والتحقيق: أنّ هذا الجواب ليس بصحيح، بل ما ذكره بعض الأعلام قدسسره فيكمال الدقّة والمتانة، فإنّ الظاهر من قوله تعالى: «إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ...» أنّه:إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم... وهذا المعنى في القضيّةالاُولى واضح.
وأمّا ارتباط القضيّة الشرطيّة الثانية بالصلاة، فيستفاد من ذكرها عقيبالقضيّة الاُولى، فالقيام من النوم إلى الصلاة محفوظ فيهما، فالمستفاد من الآيةصدرا وذيلاً أنّ القائم من النوم على قسمين: قد يكون القائم من النوم جنب
- (1) مصباح الاُصول 3: 115 ـ 116.
(صفحه 185)
وقد يكون غيرجنب، كأنّه قال: «إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ولمتكونوا جنبفاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق، وإذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكنتمجنبا فاطّهروا ويجب عليكم الاغتسال»، وبهذا الاستظهار من الآية يصحّالجواب عن الشبهة، وأنّ موضوع الوضوء في صدر الآية مقيّد ومركّب منالجزئين ـ أي القيام من النوم وعدم الجنابة ـ والأوّل محرز بالوجدان والثانيبالاستصحاب، فبعد جريان استصحاب الموضوع ـ أي عدم الجنابة ـ لاتصلالنوبة إلى استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء، ولا تقاس الآية بالمثالالمذكور، كما هو واضح، ونفس الآية مع قطع النظر عن الروايات تدلّ علىكفاية الغسل للصلاة بعد الجنابة. هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل منالشبهة.
والجواب الثاني: أنّ المستصحب لابدّ من كونه مجعولاً وحكما شرعيّا أوموضوعا للحكم الشرعي، ومعلوم أنّ الحدث الكلّي لايكون من الأحكامالمجعولة الشرعيّة، فإنّه أمر انتزاعي انتزعه المتشرّعة لايكون هذا العنوان فيلسان الشارع محكوما بحكم، ولا يكون موضوعا للحكم الشرعي؛ إذ لانرىفي الشريعة أن يكون مطلق الحدث والعنوان الجامع بين الأصغر والأكبرمحكوما بحكم.
ولكن يمكن أن يتحقّق بعض موارد في الشرع أن يكون عنوان المحدثمحكوما بحكم، مثل: «المحدث لايجوز له مسّ كتابة القرآن»، وهكذا، فإن كانكذلك فليس هذا الجواب بتامّ؛ إذ لا مانع من استصحاب كلّي الحدث لترتّبهذه الآثار الشرعيّة.
وأمّا القسم الرابع من الكلّي فهو ما إذا علمنا بوجود عنوانين يحتملانطباقهما على فرد واحد وعدمه، أو علمنا بوجود فردين وشكّ في تعاقبهم