(صفحه202)
العقل ـ لا يجري مطلقا؛ لأنّ العدم الأزلي ليس هو إلاّ عبارة عن اللاحكميّةواللاحرجيّة، وهذا المعنى بعد وجود المكلّف واجتماع شرائط التكليف فيه قدانتقض قطعا ولو إلى الإباحة، فإنّ اللاحرجيّة في الإباحة بعد اجتماع شرائطالتكليف غيراللاحرجيّة قبل وجود المكلّف؛ إذ الأوّل يستند إلى الشارع،والثاني لايستند إليه، فلا مجال لجريان استصحاب العدم، ويبقى استصحابالوجوب الثابت قبل الزوال إذا كان الزمان ظرفا للحكم أو الموضوع»(1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال عدم مطلق،له حالة سابقة لانعلم بانتقاضه، كما أنّ عدم وجوب الجلوس بلاقيد عدممطلق، لكنّه انتقض بالعلم بوجوده قبل الزوال، فعدم كليهما عدم مطلق ذوحالة سابقة متيقّنة بلافرق بينهما، فكما أنّ عدم الإنسان عدم مطلق، كذلكعدم الإنسان العالم عدم مطلق، وهكذا في ما نحن فيه، فيكون عدم وجوبالجلوس المقيّد بما بعد الزوال قابلاً للاستصحاب.
وثانياً: أنّ جواب المحقّق النائيني رحمهالله لاينطبق على شبهة النراقي قدسسره فإنّالمفروض في الشبهة كون قبل الزوال ظرفا للحكم وجريان استصحابالوجودي بلا إشكال، وإذا كان قبل الزوال قيدا له، فلا يجري استصحابالوجودي أصلاً، وأمّا عنوان ما بعد الزوال في تقريب استصحاب العدميفيكون قيدا، إمّا قيدا للحكم وإمّا لمتعلّقه ـ أي الوجوب أو الجلوس فيالمثال ـ ولا يكون القيد خارجا عن هذه الدائرة، فتتحقّق حالة سابقة عدميّةلكليهما.
وأمّا في كلام المحقّق النائيني رحمهالله فيكون عنوان ما بعد الزوال قيدا لعدموجوب الجلوس، وإذا كان ما بعد الزوال قيدا للعدم فلا يكون له حالة سابقة
- (1) فوائد الاُصول 4: 445 ـ 448.
(صفحه 203)
متيقّنة، فإنّ عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال لايمكن استصحابه، إلإذا آن وقت الزوال ولميثبت وجوده، ففي الآن الثاني يستصحب هذا العدم،والمفروض أنّه في أوّل الزوال مشكوك كما ذكره قدسسره ولكنّه لايرتبط بشبهةالنراقي قدسسره ، فوجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال لميتحقّق إلى الآن، وله حالةسابقة عدميّة متيقّنة، والآن بعد وجوب الجلوس قبل الزوال نشكّ في تحقّقه،فنستصحب عدم وجوبه، فيجري استصحاب العدم والوجود معا وتعودالشبهة.
والتحقيق في الجواب عن شبهة النراقي قدسسره : أنّه لايتحقّق التعارض بينالاستصحابين، بل لا مانع من جريانهما معا.
توضيح ذلك: أنّ التعارض قد يكون بين الدليلين بالذات، وقد يكونبالعرض، مثال الأوّل كقولنا: صلاة الجمعة واجبة، وصلاة الجمعة ليستبواجبة؛ لعدم إمكان اجتماع نفي حكم عن موضوع واحد وإثباته فيه، فليكون مفاد الدليلين في أنفسهما قابلاً للاجتماع، ومثال الثاني كما إذا علمنا إجمالبنجاسة إمّا العباءة أو القباء ونجري استصحاب الطهارة في كليهما، ومعلوم أنّهلا منافاة ذاتا بين استصحاب طهارتهما، ولكن العلم بنجاسة أحدهما، إجماليوجب إلقاء التعارض بينهما، وهذا يسمّى التعارض بالعرض.
والظاهر من كلام النراقي قدسسره في الشبهة أنّ التعارض بين الاستصحابينيكون بالذات وعدم إمكان اجتماع بين مفادهما، ولكنّه ليس كذلك، فإنّ تمامالموضوع في الاستصحاب الوجودي هو عنوان الجلوس فقط، كان الجلوسواجبا قبل الزوال والآن يكون مشكوكا، فنستصحب وجوب الجلوس بدونأيّ قيد زائد، وأمّا في الاستصحاب العدمي فنقول: الجلوس المقيّد بما بعدالزوال لميكن واجبا يقينا، وبعد وجوب الجلوس قبل الزوال نشكّ في بقاء
(صفحه204)
تلك الحالة السابقة العدميّة، فنستصحب عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعدالزوال، ولا منافاة بين مفاد الاستصحابين، فإنّ الجلوس بما أنّه جلوسواجب، وبما أنّه مقيّد بهذا الزمان ليس بواجب، كما نقول: إنّ نفقة الزوجة علىالزوج بما أنّه زوج واجب، وبما أنّه زوج عالم ليس بواجب، بل إن قلنبوجوبها عليه بهذا العنوان فهو بهتان على اللّه تعالى، وهكذا في ما نحن فيه،فلا تعارض بين الاستصحابين لا بالذات ولا بالعرض؛ لتعدّد موضوعهما.
(صفحه 205)
التنبيه الخامس
في الاستصحاب التعليقي
الأقوال والاحتمالات فيه مختلفة من جريانه مطلقا، وعدم جريانه كذلك،والتفصيل بين التعليق في الحكم والموضوع أو بين ما كان التعليق شرعيّوغيره.
ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من بيان اُمور:
الأوّل: أنّ محطّ البحث والنقض والإبرام في الاستصحاب التعليقي هو أنّتعليقيّة الحكم أو الموضوع هل توجب خللاً في أركان الاستصحاب وشرائطجريانه أم لا؟ وعلى الثاني هل يكون الاستصحاب التعليقي مفيدا ومنتهيا إلىالعمل أم لا؛ لابتلائه بالمعارضة دائما؟ فلابدّ من تمحّض البحث في ذلك.
وأمّا قضيّة بقاء الموضوع وعدمه أو إرجاع القضيّة التعليقيّة إلى القضيّةالتنجيزيّة، فهي خارجة عن محطّ البحث ومورد النقض والإبرام.
الثاني: أنّ التعليقات الواقعة في لسان الشرع والقضايا المشروطة كقوله «إذكان الماء قدر كرّ لاينجّسه شيء»(1)، وقوله: «إذا نشّ العصير أو غلى حرم»(2).تحتمل ثبوتاً لاُمور:
- (1) الوسائل 1: 117، الباب 9 من أبواب الماء المطلق، الحديث 1 و 2.
- (2) الوسائل 17: 229، الباب 3 من أبواب الاشربة المحرّمة، الحديث 4.
(صفحه206)
منها: جعل الحكم متعلّقاً بموضوعاتها على تقدير شيء، فيكون المجعول فيقوله: «إذا غلى العصير حرم» هو حرمته على تقدير الغليان، وفي قوله: «إذا بلغالماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» هو الاعتصام على تقدير الكرّيّة.
ومنها: جعل الحكم متعلّقاً بموضوع متقيّد بعنوان، فيكون المجعول فيهما هوالحرمة المتعلّقة بالعصير المغلي والاعتصام للماء البالغ حدّ الكرّ، فيكون قوله:«إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» عبارة اُخرى عن أنّ الكرّ لاينجّسهشيء، فيكون التعبير بذلك تفنّنا في البيان أو تنبيها على أنّ السرّ في نجاسةالمغلي هو غليانه، وفي اعتصام الماء هو كرّيّته، وعلى هذا يكون الموضوعمركّبا من ذات وقيد.
ومنها: جعل سببيّة المعلّق عليه للمعلّق، فيكون مفاد القضيّتين أنّ الغليانسبب للحرمة والكرّيّة للاعتصام.
ومنها: جعل الملازمة بين الكرّيّة والاعتصام والحرمة والغليان.
كلّ ذلك محتمل بحسب مقام الثبوت، أمّا الأوّلان فلا كلام فيهما، وأمّالأخيران فقد مرّ التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعيّة وقلنا: إنّ السببيّةوالملازمة وأمثالهما قابلة للجعل، وإنّ المنكر لإمكانه فيها خلط بين التكوينوالتشريع وبين السببيّة الحقيقيّة التكوينيّة والاعتباريّة القانونيّة.
وأمّا بحسب مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة فهو خارج عمّا نحنبصدده والأدلّة مختلفة بحسب المقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات.
الثالث: أنّ التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرناه، وقدلايكون في كلامه لكن العقل يحكم به.
مثلاً: لو ورد: «أنّ الماء البالغ حدّ الكرّ لاينجسّه شيء»، و«أنّ العصيرالمغلي يحرم» يحكم العقل بأنّ الماء إذا بلغ قد كرّ لا ينجّسه شيء، وأنّ العصير