(صفحه206)
منها: جعل الحكم متعلّقاً بموضوعاتها على تقدير شيء، فيكون المجعول فيقوله: «إذا غلى العصير حرم» هو حرمته على تقدير الغليان، وفي قوله: «إذا بلغالماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» هو الاعتصام على تقدير الكرّيّة.
ومنها: جعل الحكم متعلّقاً بموضوع متقيّد بعنوان، فيكون المجعول فيهما هوالحرمة المتعلّقة بالعصير المغلي والاعتصام للماء البالغ حدّ الكرّ، فيكون قوله:«إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» عبارة اُخرى عن أنّ الكرّ لاينجّسهشيء، فيكون التعبير بذلك تفنّنا في البيان أو تنبيها على أنّ السرّ في نجاسةالمغلي هو غليانه، وفي اعتصام الماء هو كرّيّته، وعلى هذا يكون الموضوعمركّبا من ذات وقيد.
ومنها: جعل سببيّة المعلّق عليه للمعلّق، فيكون مفاد القضيّتين أنّ الغليانسبب للحرمة والكرّيّة للاعتصام.
ومنها: جعل الملازمة بين الكرّيّة والاعتصام والحرمة والغليان.
كلّ ذلك محتمل بحسب مقام الثبوت، أمّا الأوّلان فلا كلام فيهما، وأمّالأخيران فقد مرّ التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعيّة وقلنا: إنّ السببيّةوالملازمة وأمثالهما قابلة للجعل، وإنّ المنكر لإمكانه فيها خلط بين التكوينوالتشريع وبين السببيّة الحقيقيّة التكوينيّة والاعتباريّة القانونيّة.
وأمّا بحسب مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة فهو خارج عمّا نحنبصدده والأدلّة مختلفة بحسب المقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات.
الثالث: أنّ التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرناه، وقدلايكون في كلامه لكن العقل يحكم به.
مثلاً: لو ورد: «أنّ الماء البالغ حدّ الكرّ لاينجسّه شيء»، و«أنّ العصيرالمغلي يحرم» يحكم العقل بأنّ الماء إذا بلغ قد كرّ لا ينجّسه شيء، وأنّ العصير
(صفحه 207)
إذا غلى يحرم، لكن ليس هذا من التعليق الشرعي، بل هو تعليق عقليٌّ يدركهالعقل من القضيّة المنجّزة. وهذا التعليق قد يكون في الأحكام كما عرفت، وقديكون في الموضوعات، كما يحكم بأنّ الماء إذا بلغت مساحته ثلاثة أشبارونصفا طولاً وعرضا وعمقا فهو كرّ، ويحكم على الماء الناقص عن الكرّ بمنّبأنّه إذا زيد عليه منّ يصير كرّا، وهذا تعليق عقلي في الموضوع، كما أنّ ما مرّتعليق عقلي في الحكم، ويمكن أن يقع التعليق في الموضوع في كلام الشارعويرجع إلى التعبّد بوجود موضوع الحكم على تقدير كذائي وترتيب آثارهعليه على فرض تحقّقه.
الرابع: إذا اُخذ عنوان في موضوع حكم يكون ظاهرا في الفعليّة، فإذا قيل:«الكرّ معتصم» و«المستطيع يجب عليه الحجّ» يكون ظاهرا في أنّ الكرّ الفعليمعتصم، والمستطيع الفعلي يجب عليه الحجّ وهكذا، وهذا واضح.
لكن يقع الكلام في قوله: «لاتنقض اليقين بالشكّ» أنّ الميزان فعليّة اليقينوالشكّ، أو فعليّه المتيقّن؟ فعلى الأوّل لاينظر إلى المتيقّن هل هو متحقّق فعلأم لا، بخلاف الثاني.
وقد مرّ الكلام فيه سابقا، وقلنا: إنّ الحقّ ـ بحسب النظر إلى أدلّةالاستصحاب، ومناسبة الحكم والموضوع، وأنّ اليقين لإبرامه لاينقض بالشكّ؛لعدم إبرامه ـ أنّ الموضوع هو نفس اليقين والشكّ بما أنّ اليقين طريق وكاشف،فلا يعتبر فيه إلاّ فعليّة الشكّ واليقين.
نعم، لابدّ وأن يكون المستصحب ممّا يترتّب على التعبّد به أثر عملي، فلوفرض أنّ اليقين بأمر تعليقي يترتّب عليه أثر عملي لو تعبّد ببقائه لجرىالاستصحاب بلا إشكال؛ لفعليّة الشكّ واليقين، وعدم اعتبار أمر آخر، سواءكان المتيقّن وجوديّا أم لا، وفعليّا أم لا؛ لعدم الدليل على كونه كذلك، فإذ
(صفحه208)
تعلّق اليقين بقضيّة تعليقيّة، وفرضنا أنّ بقاءها في زمن الشكّ يكون ذا أثرشرعي ـ كما لو فرض أنّ نفس القضيّة موضوعة لحكم في زمان الشكّ ـ لجرىالاستصحاب فيها بلا إشكال وريب، لفعليّة اليقين والشكّ وكون المتيقّن ذا أثرشرعي في زمن الشكّ أو منتهيا إليه، وأمّا لزوم كون المتيقّن وجوديّا فعليّا فليعتبر.
إذا عرفت ما ذكرناه نقول: إنّ التعليق إذا ورد في دليل شرعي ـ كما لوورد:«أنّ العصير العنبي إذا غلى يحرم»، ثمّ صار العنب زبيبا، فشكّ في أنّ عصيرهأيضا يحرم إذا غلى أو لا ـ فلا إشكال في جريان استصحابه من حيث التعليق؛لما عرفت من أنّ المعتبر في الاستصحاب ليس إلاّ اليقين والشكّ الفعليّينوكون المشكوك فيه ذا أثر شرعي أو منتهياً إليه، وكلا الشرطين حاصلان، أمّفعليتّهما فواضحة، وأمّا الأثر الشرعي فلأنّ التعبّد بهذه القضيّة التعليقيّة أثرهفعليّة الحكم لدى حصول المعلّق عليه من غير شبهة المثبتيّة، لأنّ التعليق إذكان شرعيّاً معناه التعبّد بفعليّة الحكم لدى تحقّق المعلّق عليه، وإذا كان الترتّببين الحكم والمعلّق عليه شرعيّاً لاترد شبهة المثبتيّة فتحقّق الغليان وجدانبمنزلة تحقّق موضوع الحكم الشرعي وجداناً.
والحاصل: أنّ البحث متمركز ومتمحّض في أنّ تعليقيّة الحكم هل تكونمانعاً عن جريان الاستصحاب أم لا؟ وأمّا إرجاع الاستصحاب التعليقي إلىالتنجيزي، والقول بأنّ معنى قضيّة «العصير العنبي إذا غلى يحرم»العصير بعدالغليان ملازم للحرمة، والملازمة كالسببيّة والمسببيّة من الأحكام التنجيزيّة،كما يستفاد من كلام الشيخ رحمهالله فهو خارج عن محلّ البحث، كما أنّ القول بأنّإثبات حكم العصير العنبي بالاستصحاب للعصير الزبيبي مع أنّهما عنوانانمختلفان، والمعتبر في الاستصحاب وحدة الموضوع أيضا خارج عن البحث.
(صفحه 209)
والمجعول في القضيّة التعليقيّة ـ مثل: «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِاسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» و«إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاتان» و«إن جاءكزيد فاكرمه» ـ هو الحكم التعليقي، وبعد تحقّق المعلّق عليه يصير فعليّاً،فالحكم الشرعي قد يكون فعليّاً، وقد يكون تعليقيّاً ـ أي الحكم المعلّق فيلسان الشارع ـ وإذا شككنا في بقاء الحكم التعليقي الشرعي لتبدّل حال منحالات الموضوع لاماهيّته، هل يكون التعليق مانعاً عن الاستصحاب أم لا؟كما إذا قال المولى لعبده: «إن جاءك زيد فأكرمه» في حال كون زيد صديقللمولى، وقبل تحقّق مجيء زيد ذهبت صداقتهما وشكّ العبد في بقاء الحكم فيهذا الحال، فلا مانع من جريان الاستصحاب لتماميّة أركانه من اليقين بالحكمالتعليقي، والشكّ في بقائه ووحدة الموضوع، فيشمله دليل «لاتنقض اليقينبالشكّ» ولا دليل لاختصاصه بما كان المتيقّن عبارة عن الحكم التنجيزي.
ويمكن أن يقال: إنّ استفادة وجوب الإكرام الفعلي بعد مجيء زيد مناستصحاب الحكم التعليقي تكون من مصاديق الاُصول المثبتة.
وجوابه أوّلاً: أنّ الشكّ في بقاء الحكم التعليقي وجريان الاستصحاب قديكون قبل تحقّق مجيء زيد، فالمستفاد هو الحكم التعليقي لا الفعلي.
وثانياً: أنّ المستصحب إن كان الحكم الشرعي يترتّب عليه جميع اللوازمحتّى اللوازم العقليّة كما يترتّب حكم العقل بالإطاعة على استصحاب وجوبصلاة الجمعة، كذلك يترتّب حكم العقل بفعليّة الحكم بعد تحقّق المعلّق عليهعلى استصحاب الحكم التعليقي.
فلا مانعيّة لتعليقيّة الحكم بما هي من جريان الاستصحاب.
وكان للمحقّق النائيني رحمهالله هنا كلامٌ مفصّلٌ، وخلاصته: أنّ المستصحب إذكان حكماً شرعيّاً فإمّا أن يكون حكماً جزئيّاً، وإمّا أن يكون حكماً كليّاً،
(صفحه210)
ونعني بالحكم الجزئي: هو الحكم الثابت لموضوعه عند تحقّق الموضوعخارجا، الموجب لفعليّة الحكم.
ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئي لايتصوّر إلاّ إذا عرض لموضوعهالخارجي ما يشكّ في بقاء الحكم معه، ولا إشكال في استصحابه.
وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّي فهو يتصوّر على أحد وجوه ثلاث:
الأوّل: الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ، كما إذا شكّ في نسخ الحكمالكلّي المجعول على موضوعه المقدّر وجوده، ولا إشكال أيضا في جرياناستصحاب بقاء الحكم على موضوعه وعدم نسخه عنه.
ونظير استصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في النسخ استصحاب الملكيّةالمنشأة في العقود العهديّة التعليقيّة كعقد الجعالة والسبق والرماية، فإنّ العاقدينشأ الملكيّة على تقدير خاصّ كرد الضالّة في عقد الجعالة ونحوذلك، فكانتالملكيّة المنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المنشأة على موضوعاتها المقدّروجودها، فلو شكّ في كون عقد الجعالة من العقود اللازمة التي لاتنفسخ بفسخأحد المتعاقدين أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بفسخ أحدهما، يجرياستصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين قبل ردّ الضالة.
الوجه الثاني: الشكّ في بقاء الحكم الكلّي على موضوعه المقدّر وجوده عندفرض تغيّر بعض حالات الموضوع، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماء المتغيرالذي زال عنه التغيّر من قبل نفسه، ولا إشكال في جريان استصحاب بقاءالحكم في هذا الوجه أيضا، ولا بدّ في هذا الوجه من فرض وجود الموضوعليمكن حصول الشكّ في بقاء حكمه عند فرض تبدّل بعض حالاته.
الوجه الثالث من الوجوه المتصورة في الشكّ في بقاء الحكم الكلّي: هوالشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب من جزئين عند فرض