(صفحه228)
التكليف والبعث والزجر لايكاد يتعلّق به من حيث أنّه كلّي، بل لابدّ من تعلّقهبالأشخاص، وكذلك الثواب والعقاب المترتّب على الطاعة والمعصية، وكانغرضه من عدم دخل الأشخاص عدم أشخاص خاصّة، فافهم»(1).
وقال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله «ههنا شبهة اُخرى، وهى: أنّه من الممكن أنيكون المأخوذ في موضوع الحكم الثابت في الشرائع السابقة عنوان على نحوالقضيّة الحقيقيّة، لاينطبق ذلك العنوان على الموجودين في عصرنا كما لو اُخذعنوان اليهود والنصارى، فإنّ القضيّة وإن كانت حقيقيّة لكن لاينطبق عنوانموضوعها على غير مصاديقه، ففي قوله تعالى: «وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّذِى ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ»(2)، إلى آخره كانتالقضيّة حقيقيّة، لكن إذا شكّ المسلمون في بقاء حكمها لهم لايجريالاستصحاب، كما لو ثبت حكم للفقراء وشكّ الأغنياء في ثبوته لهم لايمكنإثباته لهم بالاستصحاب، وهذا واضح جدّا»(3).
وكان لبعض الأعلام رحمهالله أيضا نظير هذا الإشكال فإنّه قال: «إنّ النسخ فيالأحكام الشرعيّة إنّما هو بمعنى الدفع وبيان أمد الحكم؛ لأنّ النسخ بمعنى رفعالحكم الثابت مستلزم للبداء المستحيل في حقّه سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا غير مرّة أنّ الاهمال بحسب الواقع ومقام الثبوت غير معقول،فإمّا أن يجعل المولى حكمه بلا تقييد بزمان ويعتبره إلى الأبد، وإمّا أن يجعلهممتدّاً إلى وقت معيّن، وعليه فالشكّ في النسخ شكّ في سعة المجعول وضيقه منجهة احتمال اختصاصه بالموجودين في زمان الحضور.
وكذا الكلام في أحكام الشرائع السابقة، فإنّ الشكّ في نسخها شكّ في
- (1) كفاية الاُصول 2: 323 ـ 325.
(صفحه 229)
ثبوت التكليف بالنسبة إلى المعدومين، لاشكّ في بقائه بعد العلم بثبوته، فإنّاحتمال البداء مستحيل في حقّه تعالى، فلا مجال حينئذ لجريان الاستصحاب».
ثمّ قال: «وتوهّم أنّ جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّة ينافياختصاصها بالموجودين مدفوع بأنّ جعل الأحكام على نحو القضايا الحقيقيّةمعناه عدم دخل خصوصيّة الأفراد في ثبوت الحكم، لاعدم اختصاص الحكمبحصّة دون حصّة، فإذا شككنا في أنّ المحرّم هو الخمر مطلقاً أو خصوصالخمر المأخوذ من العنب كان الشكّ في حرمة الخمر المأخوذ من غير العنبشكّاً في ثبوت التكليف، ولا مجال لجريان الاستصحاب معه.
والمقام من هذا القبيل، فإنّا نشكّ في أنّ التكليف مجعول لجميع المكلّفين أوهو مختصّ بمدركي زمان الحضور، فيكون احتمال التكليف بالنسبة إلى غيرالمدركين شكّاً في ثبوت التكليف لا في بقائه».
ثمّ قال: «فالتحقيق: أنّ هذا الإشكال لا دافع له، وأنّ استصحاب عدمالنسخ ممّا لا أساس له، فإن كان لدليل الحكم عموم أو إطلاق يستفاد منهاستمرار الحكم فهو المتّبع وإلاّ فإن دلّ دليل من الخارج على استمرار الحكمـ كقوله عليهالسلام : «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يومالقيامة» ـ فيؤخذ به، وإلاّ فلا يمكن إثبات الاستمرار باستصحاب عدمالنسخ(1).
وجوابه: سلّمنا أنّ النسخ في الحقيقة دفع، وهو عبارة عن انتهاء أمدالحكم، لا أنّه رفع استمرار الحكم، وسلّمنا أنّه لامجال لاستصحاب أحكامالشرائع السابقة في زماننا هذا، ولكن يمكن جريان استصحاب عدم النسخ فيالشريعة المقدّسة ويتصوّر هذا على قسمين:
- (1) مصباح الاُصول 3: 148 ـ 149.
(صفحه230)
الأوّل: لو فرضنا أنّ شخصاً أدرك رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وعاش في زمانه ـ مثلاً وعمل بالأحكام الشرعيّة، ثمّ سافر إلى بلاد بعيدة، وحصل له الشكّ بعد مدّةفي أنّ حكم كذا الذي كان مورد عمله إلى الآن هل إنتهى أمده أم لا؟ ومعلومأنّه لاملجأ له سوى استصحاب عدم النسخ.
الثاني: أنّ حكم كذا ومفاد آية كذا التي يكون عنوانها «الذين آمنوا» ولميصرّح من حيث الدليل بتوقيته، إن شككنا في زماننا هذا في انتهاء أمدهونسخه في زمان رسول اللّه صلىاللهعليهوآله فأيّ مانع يمنع من استصحاب عدم نسخه؟فالظاهر أنّه لامانع من جريان استصحاب عدم النسخ في شريعتنا، كما أنّهعند الشيخ والمحقّق الخراسانيوسائر المحقّقين مفروغ عنه.
وأمّا الإشكال الثاني على استصحاب عدم النسخ المختصّ باستصحابأحكام الشرائع السابقة، فهو ما يستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمهالله من أنّ تبدّلالشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة إن كانٍ بمعنى نسخ جميع أحكام الشريعةالسابقة ـ بحيث لو كان حكم في الشريعة اللاحقة موافقاً لما في الشريعة السابقةلكان الحكم المجعول في الشريعة اللاحقة مماثلاً للحكم المجعول في الشريعةالسابقة لا بقاء له ـ فيكون مثل إباحة شرب الماء الذي هو ثابت في جميعالشرائع مجعولاً في كلّ شريعة مستقلاًّ، غاية الأمر أنّها أحكام متماثلة، فعدمجريان الاستصحاب عند الشكّ في النسخ واضح؛ للقطع بارتفاع جميع أحكامالشريعة السابقة، فلا يبقى مجال للاستصحاب. وإن كان تبدّل الشريعة بمعنىنسخ بعض أحكامها لا جميعها فبقاء الحكم الذي كان في الشريعة السابقة وإنكان محتملاً إلاّ أنّه يحتاج إلى الإمضاء في الشريعة اللاحقة، ولا يمكن إثباتالإمضاء باستصحاب عدم النسخ إلاّ على القول بالأصل المثبت(1).
- (1) فوائد الاُصول 4: 480.
(صفحه 231)
وجوابه: أنّ نسخ جميع أحكام الشريعة السابقة وإن كان مانعاً عن جرياناستصحاب عدم النسخ إلاّ أنّ الالتزام به بلا موجب، فإنّه لا داعي إلى جعلإباحة شرب الماء ـ مثلاً ـ في الشريعة اللاحقة مماثلة للإباحة التي كانت فيالشريعة السابقة، والنبوّة ليست ملازمة للجعل، فإنّ النبيّ هو المبلّغ للأحكامالإلهيّة.
وأمّا ماذكره من أنّ بقاء حكم الشريعة السابقة يحتاج إلى الإمضاء فيالشريعة اللاحقة فهو صحيح، إلاّ أنّ نفس أدلّة الاستصحاب كافية في إثباتالإمضاء، وليس التمسّك به من التمسّك بالأصل المثبت، فإنّ الأصل المثبت فيهإنّما هو إذا وقع التعبّد بما هو خارج عن مفاد الاستصحاب.
و في المقام نفس دليل الاستصحاب دليل على الإمضاء، فكما لو ورد دليلخاصّ على وجوب البناء على بقاء أحكام الشريعة السابقة إلاّ فيما علم النسخفيه يجب التعبّد به، فيحكم بالبقاء في غير ما علم نسخه، ويكون هذا الدليلالخاصّ دليلاً على الإمضاء.
فكذا في المقام فإنّ أدلّة الاستصحاب تدلّ على وجوب البناء على البقاء فيكلّ متيقّن شكّ في بقائه، سواء كان من أحكام الشريعة السابقة أو من أحكامهذه الشريعة المقدّسة أو من الموضوعات الخارجيّة، فلا إشكال فياستصحاب عدم النسخ من هذه الجهة. والعمدة في منعه ماذكرناه.
و أمّا ماقيل في وجه المنع ـ من أنّ العلم الإجمالي بنسخ كثير من الأحكاممانع عن التمسّك باستصحاب عدم النسخ ـ فهو مدفوع بأنّ محلّ الكلام إنّما هوبعد انحلال العلم الإجمالي بالظفر بعدّة من موارد النسخ التي يمكن انطباقالمعلوم بالإجمال عليها، فتكون الشبهة فيما عدا ذلك بدويّة، ويجري فيه
(صفحه232)
الاستصحاب بلا مزاحم(1).
والإشكال من ناحية العلم الإجمالي غير مختصّ بالمقام فقد استشكل به فيموارد، منها: العمل بالعامّ مع العلم الإجمالي بالتخصيص، ومنها: العمل بأصالةالبراءة مع العلم الإجمالي بتكاليف كثيرة، ومنها المقام.
والجواب في الجميع هو ما ذكرناه من أنّ محلّ الكلام بعد الانحلال.
- (1) كفاية الاُصول 2: 324.