(صفحه24)
والجواب عنه: أوّلاً: أنّه لايستفاد الإثبات من ضميمة عدم إلى عدم آخرحتّى نقول بترتّب العقوبة على ترك هذا المجموع.
وثانياً: أنّ استحقاق العقوبة يكون على مخالفة الواقع، فإنّ الجهل بما هولايكون مانعا عن تنجّز الواقع واستحقاق العقاب ما لم يستند إلى البراءةالعقليّة وقاعدة قبح العقاب بلابيان، والمفروض عدم جريانها قبل الفحص.
فما هو المسلّم استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع عند تمسّك المكلّفبالبرائة وارتكاب محتمل الحرمة، أو ترك محتمل الوجوب بدون الفحص عنبيان المولى على التكليف.
ولكنّ البحث في أنّ استحقاق العقوبة على المخالفة يكون مطلقا أو في بعضالصور المتصوّرة في المقام؟ إذ الصور المتصوّرة ثلاثة:
الاُولى: إيصال المكلّف بعد الفحص إلى بيان من المولى وأمارة معتبرةظاهرة الدلالة على إثبات التكليف المحتمل.
الثانية: عدم إيصاله إليه نفيا أو إثباتا على فرض تتبّعه وتفحّصه في مظانّوجود الدليل.
الثالثة: إيصاله على فرض الفحص والتتبّع إلى دليل معتبر مخالف للحكمالواقعي.
ربّما يقال: بتحقّق استحقاق العقوبة في جميع الصور الثلاثة، فإنّ تمام الملاكله هو عدم الفحص ومخالفة الواقع ولا عذر للمكلّف في مخالفة التكليفالواقعي، ولا حجّة له لاستناد عمله إليها عقلاً، بل العقل يحكم في الشبهاتالبدويّة قبل الفحص بالاحتياط كحكمه به في الشبهات المقرونة بالعلمالإجمالي، وحكم العقل بلزوم الاحتياط بيان كأنّه صدر من المولى، فاستحقاقالعقوبة أمرٌ موجّه بلافرق بين كون نتيجة الفحص على تقدير الفحص بيان
(صفحه 25)
على ثبوت التكليف أو على عدم التكليف أو اليأس عن الظفر بالدليل.
ولكنّ التحقيق أنّ استحقاق العقوبة منحصر بالصورة الاُولى ـ أي كوننتيجة الفحص هو الإيصال إلى البيان على التكليف ـ فإنّ عدم العذر والحجّةللمكلّف في مقام مخالفة الواقع يتحقّق في هذه الصورة دون غيرها؛ ضرورةعدم البيان على تقدير الفحص، أو وجود الدليل على خلاف الواقع عذرللمكلّف. وإن لم يكن ملتفتا إليه في مقام العمل، فمع تحقّق العذر الواقعيلايتحقّق عنوان المعصية ومخالفة المولى حتّى يترتّب عليه استحقاق العقوبة.نعم، يتحقّق هنا عنوان التجرّي ولكنّه خارج عن البحث، كما لا يخفى.
وأمّا حكم العقل بلزوم الاحتياط في الشبهات البدويّة قبل الفحص فلإشكال فيه، ولكنّه ليس بملاك التحفّظ على الواقع، فإنّ هذا الملاك يتحقّق بعدالفحص أيضا، بل يكون بملاك إمكان تحقّق البيان في مظانّ ثبوته.
ومن هنا يستفاد انحصار استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بصورةمصادفة البيان على التكليف على تقدير الفحص، بخلاف الصورة الثانيةوالثالثة. هذا كلّه في الواجبات المطلقة.
وأمّا في الواجبات المشروطة المحتملة فيقال أيضا: هل يجب الفحص قبلتحقّق الشرط أم لا؟
ربّما يقال بعدم وجوب الفحص فيها، فإنّ وجوب الفحص وجوب مقدّمي،قد ثبت في باب مقدمة الواجب أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذي المقدّمة،فإذا لم يكن وجوب ذي المقدّمة فعليّا كيف يمكن كون الوجوب الغيريالمترشّح منه فعليّا؟ فلا يجب الفحص في الواجبات المشروطة والموءقّتة قبلتحقّق الشرط والوقت على القاعدة، إذ لايجب ذي المقدّمة بعد حتّى تجبمقدّماته التي منها الفحص.
(صفحه26)
وهذا المعنى يوجب الإشكال في باب الحجّ، فإنّ لازم ذلك عدم وجوبتحصيل المقدّمات على المستطيع قبل الموسم، ولذا التزم الفقهاء بالواجبالمعلّق هنا بمعنى كون الزمان قيدا للواجب، ومن الخصوصيّات المعتبرة فيالحجّ وفعليّة الوجوب بمجرّد تحقّق الاستطاعة، فلا إشكال في تحصيلالمقدّمات عليه.
فهل يمكن إرجاع جميع الواجبات المشروطة والموقّتة إلى الواجب المعلّقوالقول بفعليّة الوجوب فيها قبل تحقّق الشرط والوقت حتّى يستفاد منهوجوب الفحص في المقام أم لا؟
والظاهر أنّه لايمكن الالتزام به، فإنّه خلاف ما هو المشهور عند الفقهاء منتحقّق الواجب المشروط الاصطلاحي في الشريعة، فلذا نقول ببطلان الوضوءقبل الوقت بداعي الأمر الوجوبي المقدّمي، كما هو واضح.
ولكنّ التحقيق: أنّ وجوب الفحص لايكون وجوبا مقدّميّا؛ إذ المقدّمةعبارة عن مقدّمة الوجود ـ كما مرّ في بحث مقدّمة الواجب ـ يعني وجود ذيالمقدّمة متقوّم على وجودها، وبدون تحقّقها لايتحقّق ذي المقدّمة، وهذا المعنىلايتحقق في مسألة الفحص بالنسبة إلى الواجب المحتمل؛ إذ يمكن الإتيانبالواجب المحتمل بدون الفحص احتياطا، فلا يرتبط وجوب الفحص بمسألةوجوب المقدّمة، بل هو من الأحكام اللزوميّة العقليّة، ولا فرق بنظر العقل بينالواجبات المطلقة والمشروطة من حيث وجوب الفحص، وقد مرّ في بابمقدّمة الواجب أنّ البحث في وجوب المقدّمة هو الوجوب الشرعي وإن كانتالملازمة بين المقدّمة وذيها عقليّة.
مضافا إلى أنّه لو فرض كون وجوب الفحص وجوبا غيريّا مقدميّا فإنّتلقّي توقّف وجوب المقدّمة على وجوب ذيها بعنوان الأصل المسلّم باطل
(صفحه 27)
عقلاً، كما مرّ في محلّه، فإنّ المولى إذا قال لعبده: يجب عليك أن تكون علىالسطح في الليل، وعلم العبد بأنّه غير مقدور له تحصيل السلّم في الليل،فلاشكّ في حكم العقل هنا بوجوب تحصيل السلّم قبل الليل، ولا يعدّهمعذورا في مخالفة المولى؛ لعدم القدرة على تحصيله في الليل، فكما أنّ العقليحكم بوجوب تحصيل بعض المقدّمات المحرزة قبل وجوب المقدّمة، كذلكيحكم بوجوب الفحص على فرض مقدّميّته إذا كان ترك الفحص مؤدّيا إلىترك الواجب المشروط المحتمل في ظرف وجوبه، كما لا يخفى.
الواجب التهيّئي
التزم المقدّس الاردبيلي رحمهالله وتلميذه صاحب المدارك رحمهالله للتّخلّص عنالإشكال بأنّه لامانع من كون وجوب الفحص وجوبا نفسيّا تهيّئيّا فيالواجبات المشروطة، ومن خصوصيّته ترتّب استحقاق العقوبة على مخالفته،مع أنّ له محبوبيّة ومطلوبيّة للتّهيّؤ للواجب النفسي الذاتي الآخر لا لنفسه،كأنّه برزخ بين الوجوب الغيري والنفسي الذاتي، فيكون استحقاق العقوبةلترك الفحص والتبيّن فيما إذا كان مؤدّيا إلى مخالفة التكليف الوجوبي في ظرفه،لا لمخالفة التكليف اللزومي المشروط أو الموقّت(1).
والتزم صاحب الكفاية رحمهالله بتوسعة هذا المعنى في الواجبات المطلقة أيضا،وأنّه لا مانع من الالتزام باستحقاق العقوبة على ترك التفحّص والتعلّم الواجببالوجوب النفسي التهيّئي فيها(2).
ولا بدّ لنا من البحث أوّلاً في إمكان الوجوب النفسي التهيّئي ثبوتا، وعلى
- (1) كفاية الاُصول 2: 258، نقلاً عنهما.
(صفحه28)
فرض إمكانه هل تتحقّق الملازمة بين تركه واستحقاق العقوبة أم لا؟ وثانياً:هل الدليل العقلي أو النقلي يدلّ على إثباته أم لا؟
ربّما يقال بعدم إمكانه؛ إذ لايعقل اتّصاف المقدّمة بالوجوب الغيري قبلاتّصاف ذيها بالوجوب النفسي فضلاً عن الوجوب النفسي التهيّئي، فلا يمكناتّصاف التفحّص والتعلّم به بعنوان المقدّمة الواجبة كما هو المفروض.
والجواب عنه: أوّلاً: نمنع مقدّميّة التفحّص والتعلّم للواجب.
وثانياً: على فرض المقدّميّة نمنع تبعيّة وجوب المقدّمة دائما لفعليّة وجوبذيها، كما مرّ. فلا إشكال في إمكانه لجعل المولى وجوبا نفسيّا تهيّئيّا للتّفحصوالتعلّم قبل تحقّق شرط الواجب المشروط، ولا يكون مخالفا لأيّ حكم منالأحكام العقليّة المسلّمة.
وأمّا من حيث الملازمة بين تركه واستحقاق العقوبة فلا يحكم العقل بهبعد ما كان الحكم باستحقاق العقوبة من الأحكام العقليّة، فإنّ للعقل حكمان:أحدهما الحكم باستحقاق العقاب في مورد مخالفة التكاليف النفسيّة الأصليّة،والآخر الحكم بعدم استحقاق العقاب في مورد ترك مقدّمات التكاليفومخالفتها، وأمّا في مورد مخالفة الواجب النفسي التهيّئي فلا حكم له باستحقاقالعقاب، فإنّ تسميته بالواجب النفسي لايوجب كونه مقصودا بالذات، بليكون من مقدّمات وممهّدات الواجبات الأصليّة، فلا يحكم العقل بترتّباستحقاق العقوبة على تركه، فنمنع الملازمة بينهما، كما هو واضح.
عدم الدليل على الوجوب النفسي التهيّي
واعلم أنّه على فرض تماميّة إمكانه وتحقّق الملازمة لا دليل له في مقامالإثبات عقلاً ونقلاً، أمّا العقل فلا طريق له لاستكشاف الحكم الوجوبي