(صفحه28)
فرض إمكانه هل تتحقّق الملازمة بين تركه واستحقاق العقوبة أم لا؟ وثانياً:هل الدليل العقلي أو النقلي يدلّ على إثباته أم لا؟
ربّما يقال بعدم إمكانه؛ إذ لايعقل اتّصاف المقدّمة بالوجوب الغيري قبلاتّصاف ذيها بالوجوب النفسي فضلاً عن الوجوب النفسي التهيّئي، فلا يمكناتّصاف التفحّص والتعلّم به بعنوان المقدّمة الواجبة كما هو المفروض.
والجواب عنه: أوّلاً: نمنع مقدّميّة التفحّص والتعلّم للواجب.
وثانياً: على فرض المقدّميّة نمنع تبعيّة وجوب المقدّمة دائما لفعليّة وجوبذيها، كما مرّ. فلا إشكال في إمكانه لجعل المولى وجوبا نفسيّا تهيّئيّا للتّفحصوالتعلّم قبل تحقّق شرط الواجب المشروط، ولا يكون مخالفا لأيّ حكم منالأحكام العقليّة المسلّمة.
وأمّا من حيث الملازمة بين تركه واستحقاق العقوبة فلا يحكم العقل بهبعد ما كان الحكم باستحقاق العقوبة من الأحكام العقليّة، فإنّ للعقل حكمان:أحدهما الحكم باستحقاق العقاب في مورد مخالفة التكاليف النفسيّة الأصليّة،والآخر الحكم بعدم استحقاق العقاب في مورد ترك مقدّمات التكاليفومخالفتها، وأمّا في مورد مخالفة الواجب النفسي التهيّئي فلا حكم له باستحقاقالعقاب، فإنّ تسميته بالواجب النفسي لايوجب كونه مقصودا بالذات، بليكون من مقدّمات وممهّدات الواجبات الأصليّة، فلا يحكم العقل بترتّباستحقاق العقوبة على تركه، فنمنع الملازمة بينهما، كما هو واضح.
عدم الدليل على الوجوب النفسي التهيّي
واعلم أنّه على فرض تماميّة إمكانه وتحقّق الملازمة لا دليل له في مقامالإثبات عقلاً ونقلاً، أمّا العقل فلا طريق له لاستكشاف الحكم الوجوبي
(صفحه 29)
الشرعي للتفحّص بعنوان الواجب النفسي التهيّئي، مع أنّ الفحص لازم وتركهيوجب استحقاق العقوبة عقلاً، ولكن لاطريق للكشف عن الوجوب النفسيالتهيّئي له عند الشارع، كما أنّ البحث في باب المقدّمة الواجب أنّ استكشافالحكم الشرعي الوجوبي لها بعد وجوب ذيها هل يمكن من طريق العقل أملا؟ مع أنّ اللابديّة العقليّة لها لاتكون قابلة للإنكار، وهكذا في ما نحن فيه،فلا يحكم العقل باستكشاف الوجوب الشرعي النفسي التهيئي للتفحّص، كمهو واضح.
وهكذا لايستفاد من الأدلّة النقليّة هذا المعنى، فإنّ المستفاد من مثلآية النفر هي المطلوبيّة النفسية للتفقّه في الدين وتعلّم معالم الدين ـ إلأنّه من الواجبات الكفائيّة باعتبار قوله تعالى: «مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْطَـآلـءِفَةٌ»(1) ـ لا المطلوبيّة النفسيّة التهيّئيّة، وهكذا من مثل قوله عليهالسلام : «الكمالكلّ الكمال التفقّه في الدين، والصبر على النائبة، وتقدير المعيشة»(2)، وما يدلّعلى المؤاخذة لتارك العمل لترك التعلّم، وأنّ ترك التعلّم ليس بعذر، وأنّ تركالتعلّم يوجب الهلكة، ونحو ذلك، لا دلالة لها على الحكم التعبّدي الزائد علىحكم العقل حتّى نستفاد منه الوجوب النفسي التهيئي، بل مفاد جميعها نوع منالإرشاد إلى حكم العقل بلزوم التّفحّص والتعلّم، وعدم المعذوريّة عند اللّه فيصورة تركه، واستحقاق العقوبة.
فمقتضى القاعدة في مورد رجوع الجاهل المقصّر إلى البراءة إذا شكّ فيجزئيّة السورة ـ مثلاً ـ قبل الفحص هو بطلان العبادة واستحقاق العقوبة علىالمخالفة؛ لعدم إتيانه بالمأمور به الواقعي في مقام الامتثال.
- (2) الكافي 1: 32، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.
(صفحه30)
ولكن انتقضت هذه القاعدة حسب النصّ الصحيح والفتوى المشهورةبموردين في الفقه: أحدهما: إتيان الصلاة تماما موضع القصر بدون الفحص،والآخر: إتيان الصلاة جهرا في موضع الإخفات، وإتيان الصلاة إخفاتا فيموضع الجهر بدون الفحص، والمستفاد من النصّ الصحيح والفتوى المشهورةأوّلاً: صحّة العمل وتماميّته، وثانياً: استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع، وثالثاً:عدم كون استحقاق العقوبة قابلاً للرفع، وإن التفت إلى وظيفته في الوقت وأتىبها كما هي.
واستشكل هنا: أوّلاً: بأنّه لا وجه للحكم بصحّة العمل؛ لعدم مطابقة المأتيبه مع المأمور به.
وثانياً: أنّ العمل المأتي به إن كان متّصفا بالصحّة لايتصوّر وجه للحكمباستحقاق العقوبة.
وثالثاً: على فرض قبول استحقاق العقوبة في صورة الالتفات في خارجالوقت لا وجه له في صورة الالتفات في الوقت، وتمكّنه من إتيان المأمور بهكما هو.
وأجاب صاحب الكفاية رحمهالله عن الإشكال الأوّل بأنّ صحّة العبادة لايحتاجإلى الأمر، بل اشتمالها على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء يكفي للحكمبالصحّة وإن كانت فاقدة للأمر لجهة، كما في عدم تعلّق الأمر بالصلاة مكانالإزالة بلحاظ أهمّيّتها وعدم نقصان الصلاة من حيث الاشتمال على المصلحة،بخلاف ما يقول به القائل بالتّرتّب، من تعلّق الأمر المطلق بالإزالة والأمرالمشروط بالعصيان أو نيّة العصيان بالصلاة، فالمأتي به يكون صحيحا بلحاظاشتماله على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء، وعدم تعلّق الأمر به بل بالمأموربه يكون بلحاظ اشتماله على المصلحة الزائدة(1).
(صفحه 31)
ويرد عليه: أنّ الإتيان بالمصلحة الزائدة هل يكون راجحا أم لازما؟ فإنكان راجحا فلابدّ أن يكون المأتي به أيضا مأمورا به بصورة الواجبالتخييري، لا كونه خارجا من دائرة الأمر والمأمور به، وإن كان لازما لابدّللمكلّف من استيفائها إذا التفت إليها في الوقت.
ويمكن الجواب عنه: بأنّها لازمة الاستيفاء إلاّ أنّ المكلّف بعد الإتيانبالمأتي به لايكون قادرا على استيفائها لتحقّق التضادّ بين المأتي به والمأموربه، غاية الأمر أنّ التضادّ قد يكون محسوسا كالصلاة والإزالة، وقد يكونغيرمحسوس كما في المقام.
إن قلت: إنّ صلاة الإتمام سبب لتفويت المصلحة الزائدة، وتفويتها حرام،ودليله استحقاق العقوبة لتركها، فصلاة الإتمام مقدّمة الحرام وسبب له،وسببيّته بمعنى العلّة التامّة، فهي أيضا حرام، وتعلّق الحرمة بالعبادة يقتضيفسادها، فكيف يحكم بصحّتها.
قلت: إنّ عدم أحد الضدّين لايمكن أن تكون مقدّمة لوجود الآخر، لتحقّقاختلاف الرتبة بين المقدّمة وذيها، والحال أنّ اللازم اتّحاد الرتبة بين عدم أحدالضدّين ووجود الآخر، كما مرّ في محلّه، بل التحقيق: أنّ عدم أحد الضدّينملازم لوجود الآخر، ولا يعتبر في المتلازمين الاتّحاد في الحكم، واتّصاف أحدالمتلازمين بالحرمة لايقتضي اتّصاف الآخر بها، فيمكن أن يكون أحدهمحراما والآخر مباحا أو مكروها.
نعم، التلازم يقتضي عدم اختلافهما اختلافا غير قابل للجمع، كحرمةأحدهما ووجوب الآخر، فالأمر في ما نحن فيه يكون كذلك، فإنّ صلاة الإتمامملازمة لتفويت المصلحة الزائدة؛ لعدم إمكان استيفائها بعد استيفاء المصلحة
- (1) كفاية الاُصول 2: 261.
(صفحه32)
الناقصة بالإتيان بصلاة الإتمام، فعدم استيفاء المصلحة الزائدة حرام يترتّبعليه استحقاق العقوبة، ولكنّ سراية حرمته إلى صلاة الاتمام حتّى نقول: إنّتعلّق الحرمة بالعبادة يقتضي فسادها ليس بتامّ.
إن قلت: إنّ لازم ذلك صحّة صلاة الإتمام من العالم العامد في السفر أيضا؛لاشتمالها على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء، وعدم الاحتياج إلى وجودالأمر في صحّة العبادة كما ذكره، مع أنّه لايكون قابلاً للالتزام.
قلت: إنّ الروايات تدلّ على صحّتها واشتمالها على المصلحة في الجاهل ولوكان مقصّرا، لا في جميع الحالات بالنسبة إلى جميع المكلّفين ولو كان المكلّفعالما، ولا دليل لاشتراك العالم والجاهل في هذا الحكم(1). هذا تمام كلام المحقّقالخراساني رحمهالله مع التصرّف والتوضيح منّا.
وأجاب عن الإشكال أيضا الشيخ الكبير كاشف الغطاء رحمهالله على ما نسبإليه في كتاب أجود التقريرات: بأنّ اتّصاف صلاة الإتمام في موضع القصربالصّحة يكون لكونها مأمورا بها بالأمر الترتّبي وإنّ المقام من مصاديقالترتّب، بأن المأمور به في الرتبة الاُولى عبارة عن صلاة القصر بدون أيّ قيدوشرط، وأمّا في الرتبة الثانية فهي صلاة الإتمام بصورة التعليق كأنّه يقول: إنعصيت الأمر بالقصر ولو للجهل عن تقصير يجب عليك الإتمام، ولا فرق بينما نحن فيه ومسألة الصلاة والإزالة(2).
واستشكل عليه الشيخ الأنصاري رحمهالله بأنّ ما ذكره رحمهالله مبني على القولبإمكان الترتّب، ولكنّه عندنا أمر مستحيل غير قابل للالتزام(3).
وقال المحقّق النائيني رحمهالله : إنّه «يتحقّق الفرق بين ما نحن فيه ومسألة الصلاة
- (1) كفاية الاُصول 2: 262.
- (2) كشف الغطاء 1: 171، أجود التقريرات 3: 571.
- (3) فرائد الاُصول 2: 627.