(صفحه 31)
ويرد عليه: أنّ الإتيان بالمصلحة الزائدة هل يكون راجحا أم لازما؟ فإنكان راجحا فلابدّ أن يكون المأتي به أيضا مأمورا به بصورة الواجبالتخييري، لا كونه خارجا من دائرة الأمر والمأمور به، وإن كان لازما لابدّللمكلّف من استيفائها إذا التفت إليها في الوقت.
ويمكن الجواب عنه: بأنّها لازمة الاستيفاء إلاّ أنّ المكلّف بعد الإتيانبالمأتي به لايكون قادرا على استيفائها لتحقّق التضادّ بين المأتي به والمأموربه، غاية الأمر أنّ التضادّ قد يكون محسوسا كالصلاة والإزالة، وقد يكونغيرمحسوس كما في المقام.
إن قلت: إنّ صلاة الإتمام سبب لتفويت المصلحة الزائدة، وتفويتها حرام،ودليله استحقاق العقوبة لتركها، فصلاة الإتمام مقدّمة الحرام وسبب له،وسببيّته بمعنى العلّة التامّة، فهي أيضا حرام، وتعلّق الحرمة بالعبادة يقتضيفسادها، فكيف يحكم بصحّتها.
قلت: إنّ عدم أحد الضدّين لايمكن أن تكون مقدّمة لوجود الآخر، لتحقّقاختلاف الرتبة بين المقدّمة وذيها، والحال أنّ اللازم اتّحاد الرتبة بين عدم أحدالضدّين ووجود الآخر، كما مرّ في محلّه، بل التحقيق: أنّ عدم أحد الضدّينملازم لوجود الآخر، ولا يعتبر في المتلازمين الاتّحاد في الحكم، واتّصاف أحدالمتلازمين بالحرمة لايقتضي اتّصاف الآخر بها، فيمكن أن يكون أحدهمحراما والآخر مباحا أو مكروها.
نعم، التلازم يقتضي عدم اختلافهما اختلافا غير قابل للجمع، كحرمةأحدهما ووجوب الآخر، فالأمر في ما نحن فيه يكون كذلك، فإنّ صلاة الإتمامملازمة لتفويت المصلحة الزائدة؛ لعدم إمكان استيفائها بعد استيفاء المصلحة
- (1) كفاية الاُصول 2: 261.
(صفحه32)
الناقصة بالإتيان بصلاة الإتمام، فعدم استيفاء المصلحة الزائدة حرام يترتّبعليه استحقاق العقوبة، ولكنّ سراية حرمته إلى صلاة الاتمام حتّى نقول: إنّتعلّق الحرمة بالعبادة يقتضي فسادها ليس بتامّ.
إن قلت: إنّ لازم ذلك صحّة صلاة الإتمام من العالم العامد في السفر أيضا؛لاشتمالها على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء، وعدم الاحتياج إلى وجودالأمر في صحّة العبادة كما ذكره، مع أنّه لايكون قابلاً للالتزام.
قلت: إنّ الروايات تدلّ على صحّتها واشتمالها على المصلحة في الجاهل ولوكان مقصّرا، لا في جميع الحالات بالنسبة إلى جميع المكلّفين ولو كان المكلّفعالما، ولا دليل لاشتراك العالم والجاهل في هذا الحكم(1). هذا تمام كلام المحقّقالخراساني رحمهالله مع التصرّف والتوضيح منّا.
وأجاب عن الإشكال أيضا الشيخ الكبير كاشف الغطاء رحمهالله على ما نسبإليه في كتاب أجود التقريرات: بأنّ اتّصاف صلاة الإتمام في موضع القصربالصّحة يكون لكونها مأمورا بها بالأمر الترتّبي وإنّ المقام من مصاديقالترتّب، بأن المأمور به في الرتبة الاُولى عبارة عن صلاة القصر بدون أيّ قيدوشرط، وأمّا في الرتبة الثانية فهي صلاة الإتمام بصورة التعليق كأنّه يقول: إنعصيت الأمر بالقصر ولو للجهل عن تقصير يجب عليك الإتمام، ولا فرق بينما نحن فيه ومسألة الصلاة والإزالة(2).
واستشكل عليه الشيخ الأنصاري رحمهالله بأنّ ما ذكره رحمهالله مبني على القولبإمكان الترتّب، ولكنّه عندنا أمر مستحيل غير قابل للالتزام(3).
وقال المحقّق النائيني رحمهالله : إنّه «يتحقّق الفرق بين ما نحن فيه ومسألة الصلاة
- (1) كفاية الاُصول 2: 262.
- (2) كشف الغطاء 1: 171، أجود التقريرات 3: 571.
- (3) فرائد الاُصول 2: 627.
(صفحه 33)
والإزالة أوّلاً: بأنّ تضادّ الصلاة والإزالة محسوس بحيث لايمكن الاشتغالبالإزالة في حال الصلاة وبالعكس، ولا نقص في الصلاة من حيث الاشتمالعلى المصلحة التامّة الملزمة. ولو كانت قابلة للجمع مع الإزالة لأمر بهما في آنواحد، ولكن التضادّ ومزاحمة الأهمّ والأقوى يقتضي الأمر بها في الرتبةالمتأخّرة، بخلاف صلاة الإتمام والقصر؛ إذ يمكن للمكلّف الجمع بينهما فيالوقت، فإن كان كلّ منهما ذات مصلحة ملزمة لابدّ للشارع من الأمر بهما فيعرض واحد، ويستفاد من عدم الأمر أنّه لايتحقّق التضادّ والتزاحم بينهما، بليتحقّق النقص في صلاة الإتمام في نفسها، وإذا كانت الناقصة تخرج من دائرةالترتّب، فإنّ الترتّب فيما لايكون نقصا في البين سوى المزاحمة، وهذا المعنىلايتحقّق في ما نحن فيه.
وثانياً: أنّ توجّه الخطاب إلى المكلّف في مسألة الصلاة والإزالة يمكنللشارع أن يقول: أزل النجاسة عن المسجد، وإن عصيت الأمر بالإزالة يجبعليك الصلاة في الرتبة الثانية، بخلاف ما نحن فيه، فإنّ توجّه الخطاب إلىالجاهل يوجب ارتفاع جهله وملازم لزوال جهله، مع أنّ المفروض في البحثهو بقاء الجهل، فعلى فرض إمكان القول بالترتّب ههنا لايمكن الالتزام بههنا(1).
وجوابه أوّلاً: أنّ تشخيص تحقّق التضادّ وعدمه في المسائل التعبّديّة ليسبأيدينا، وعدم إمكان استيفاء مصلحة صلاة القصر بعد إتيانها تماما في أوّلالوقت لمن كان تكليفه القصر هو معنى التضادّ، فكما أنّه بعد إتيان الصلاةقصرا في أوّل الوقت لايبقى مجال لصلاة الإتمام كذلك بعد الإتيان بها إتماما فيصورة الجهل لايبقى مجال لاستيفاء مصلحة صلاة القصر، وهذا معنى التضادّ،
- (1) أجود التقريرات 3: 572.
(صفحه34)
ولا دليل على خلافه وأنّه أمر غير معقول، بل هو أمر ممكن، والدليل علىوقوعه عبارة عن الروايات الدالّة عليه، فلا فرق بين ما نحن فيه ومسألةالصلاة والإزالة، والقائل بالترتّب يقول به في الموضعين.
وثانياً: أنّ الأمر بالمهمّ في باب الترتّب لايحتاج الخطاب فضلاً عن الخطابالشخصي، بل يمكن أن يكون بصورة الجملة الخبريّة بأن يقول: «يجب علىالمكلّف في مكان كذا القصر، وان عصى الأمر بالقصر ولو جهلاً عن تقصيريجب عليه الإتمام»، والجاهل في حال الإتيان بالعمل لايلتفت إلى الأمر، أمّبعد إتيانه في أوّل الوقت بالصلاة إتماما يلتفت إلى وظيفته، وفي هذا الحالينطبق عليه عنوان الأمر بالمهمّ، فما أورده المحقّق النائيني رحمهالله من الإشكالينليس بوارد.
والإشكال الوارد على القول بالترتّب: أولاً: أنّ معنى الترتّب هو الإلتزامبتعدّد الأمر، ولازم ذلك الالتزام بتعدّد استحقاق العقوبة في صورة مخالفة كلالأمرين، ولا يبعد الالتزام بذلك في مسألة الصلاة والإزالة ـ وإن كان بعيدبنظر المحقّق الخراساني رحمهالله ـ ولكن لايمكن الالتزام بذلك هنا بأنّ تارك الصلاةرأسا يتعدّد استحقاق عقوبته بلحاظ تعدّد الأمر المتوجّه إليه ـ أي الأمربالقصر أوّلاً، والأمر بالإتمام في الرتبة المتأخّرة ـ فإنّ لازم ذلك كون الجاهلالمقصّر أسوأ حالاً من تارك الصلاة عالما عامدا، كما لا يخفى.
وثانياً: أنّ عصيان الأمر بالإزالة يتحقّق بمجرّد التأخير وعدم الذهاب إلىمقدّمات الإزالة، ولا يتوقّف على آخر الوقت؛ لكونها من الواجبات الفوريّة،وأمّا عصيان الأمر بالقصر فلا يتحقّق إلاّ بعد مضي تمام الوقت. ومعنى الترتّبحينئذٍ أنّه «إن عصيت الأمر بالقصر في تمام الوقت يجب عليك الإتمام» ولمعنى لوجوب الإتمام في خارج الوقت، فلا يتصوّر الترتّب هنا إلاّ بتعليق
(صفحه 35)
الأمر بالقصر بنيّة عصيانه، كما هو غير خفيّ.
وأجاب المحقّق العراقي رحمهالله عن أصل الإشكال بأنّه لا مانع من الالتزام بتعدّدالمطلوب لتصحيح ما أتى به الجاهل المقصّر بدون الفحص بأنّ المطلوبالمطلق للمولى هو نفس الصلاة بدون دخل أيّ خصوصيّة فيها، وأنّ الجامعالصلاتي بما هو ذو مصلحة لازمة الاستيفاء، وهذه المصلحة متقوّمة بنفسعنوان الصلاة فقط، مضافا إلى أنّ له مطلوبا آخر، وهي الصلاة المخصّصةبخصوصيّة القصريّة والمتقيّدة بقيد القصريّة، وهي أيضا ذات مصلحة كاملةلازمة الاستيفاء، ولكن لايتحقّق بينهما الترتّب والطوليّة، بل كلاهما في عرضواحد، واختلافهما اختلاف الإطلاق والتقييد، واختلاف الجامع والخصوصيّة،واختلاف النوع والصنف لا التضادّ، إلاّ أنّ بعد الإتيان بالمطلوب الأوّل لايبقىمجال للمطلوب الثاني، كما أنّه لايبقى مجال لشرب الماء البارد بعد شرب غيرهـ مثلاً ـ فالمصلحة متقوّمة بطبيعة الصلاة وعنوانها لا بصلاة الإتمام أوّلاً، ولمانع من تعلّق أمر بطبيعة الصلاة وأمر آخر بصلاة متخصّصة بخصوصيّةالقصريّة ثانيا، ولا يتحقّق التضادّ بينهما ثالثا، هذا توضيح ما ذكره رحمهالله هنا(1).
ويمكن للقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي أن يقول: إنّ التضادّ الواقعييتحقّق بين الأحكام الخمسة التكليفيّة، كما أنّ صاحب الكفاية رحمهالله ينفي الريبعنه ظاهرا، فكما أنّ اجتماع الضدّين مثل الوجوب والحرمة في موضوع واحدمحال، كذلك اجتماع المثلين فيه محال، فلا يمكن تعلّق الوجوبين بالصلاة.
ولكن ذكرنا في مقام إنكار هذا المعنى: أنّ التضادّ لايتحقّق في الاُمورالاعتباريّة؛ لانحصاره بالوجودات الواقعيّة كالسواد والبياض، ومعنى التضادّبينهما أنّه لايمكن أن يكون الجسم معروضا لهما في آن واحد من أيّ طريق كان
- (1) نهاية الأفكار 3: 484.