(صفحه 311)
الظنّ والوهم والشكّ المتساوي الطرفين، مضافاً إلى أنّه لايمكن تحصيل اليقينبالوضوء الصحيح الواقعي بالماء الطاهر الواقعي، فإنّ احتمال عدم إباحة الماءوتحقّق أجزاء النجاسة فيه، واحتمال عدم وصول الماء إلى البشرة، وأمثال ذلكليس بمنتفي، ومع ذلك قال الإمام عليهالسلام في رواية زرارة في استصحاب الوضوء:«لاتنقض اليقين بالشكّ» وهكذا في روايته الاُخرى في استصحاب طهارةالثوب.
و يستفاد من ذلك ـ كما ذكرنا سابقاً ـ أنّ المراد باليقين فيها هو الحجّة،فمقابله اللاحجّة، فكأنّه قال: «لاينبغي رفع اليد عن الحجّة بغير الحجّة»، فلذقلنا بجريان الاستصحاب في مؤدّى الأمارات الشرعيّة والعقلائيّة، كما إذقامت البيّنة على ملكيّة زيد لدار كذا، ثمّ شككنا في بقاء ملكيّته له، فيجرياستصحاب بقاء الملكيّة، وهكذا في مؤدّى الخبر الواحد وقاعدة اليد ونحوذلك من الأمارات والحجج، فلا يصحّ انحصار الاستصحاب بما قلّما يتّفق إن لمنقل بعدم اتّفاقه أصلاً.
و ذكرنا أيضا أنّ كلمة «نقض» في قوله: «لا تنقض اليقين» ناظرة إلى نفساليقين وما يقوم مقامه بلحاظ تحقّق الاستحكام والإبرام فيه، فلا يكون قابلللنقض بما ليس كذلك ولا يرتبط بالمتيقّن، فلذا لافرق في المتيقّن بين كونهمستعدّاً للبقاء أم لا؟
وبعبارة اُخرى: لافرق في جريان الاستصحاب بين الشكّ في المقتضيوالشكّ في الرافع.
وأمّا بناء على ماأفاده الشيخ الأنصاري رحمهالله ـ من كون اليقين بمعنى المتيقّنوملاحظة النقض بالنسبة إلى المتيقّن، وكون قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»بمعنى لاتنقض الطهارة المتيقّنة بالشكّ، وعدم إمكان استعمال كلمة «النقض» في
(صفحه312)
المتيقّن الذي لايكون صالحاً للبقاء وجعله شاهداً لانحصار الاستصحاب فيالشكّ في الرافع فقط ـ فلا مجال للاستدلال في مانحن فيه بمقابلة الشكّ لليقينوأن المراد من الشكّ في الأدلّة هو غير اليقين.
ولذا تمسّك الشيخ رحمهالله بأدلّة اُخرى، وذكر صاحب الكفاية رحمهالله دليلين منها،وهما الأوّل: الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف علىتقدير اعتباره من باب الأخبار(1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة، والمحصّل منه بعد العلمبمستند المجمعين لا مجال له.
وثانياً: أنّ الإجماع على قضيّة تعليقيّة كيف يتصوّر أن يكون كاشفاً عنرأي المعصوم؟! فلا يكون الاستدلال بالإجماع قابلاً للبيان.
الثاني: أنّ الظنّ الغير المعتبر ـ بارتفاع الحالة السابقة ـ إن علم بعدم اعتبارهبالدليل كالظنّ المتولّد من القياس فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع، وأنّكلّ مايترتّب شرعاً على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده، وإنكان ممّا شكّ في اعتباره فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببهإلى نقض اليقين بالشكّ، فتأمّل جيّدا(2).
ويرد عليه: أوّلاً: سلّمنا أنّ الدليل القطعي قائم على أنّ الظنّ القياسى ليسبحجّة، ومعناه عدم إثبات مظنونه به شرعا وتعبّدا، وليس معناه أنّه ليس بظنّووجوده كالعدم، فالمنفي بالدليل هي حجّيّة الظنّ القياسي لا واقعيّته.
وثانياً: أنّ نقض اليقين بالظنّ المشكوك الحجّيّة ليس نقض اليقين بالشكّ بلهو نقض اليقين بالظنّ، فإنّ الشكّ المبحوث عنه في كونه ناقضاً لليقين أم لا هو
- (1) كفاية الاُصول 2: 344 ـ 345، فرائد الاُصول 2: 806 .
(صفحه 313)
الشكّ المتعلّق بالمتيقّن كاليقين، والشكّ المتعلّق بالطهارة ـ مثلاً ـ فلا يرتبطالشكّ في شيء آخر باليقين بالطهارة.
كأنّه وقع الخلط في المسألة؛ إذ يتحقّق هنا ثلاثة اُمور: اليقين بالطهارةالسابقة، والظنّ بارتفاعها، والشكّ في حجّيّة هذه المظنّة، ومعلوم أنّ متعلّقالشكّ عبارة عن الحجّيّة لا الطهارة، بل لايرتبط بها، فهذا الوجه أيضا ليسبصحيح، ولكن لانحتاج إلى هذه الوجوه، فإنّ نفس مقابلة اليقين للشكّ فيالأدلّة تهدينا إلى أنّ الشكّ فيها أعمّ من الظنّ بارتفاع الحالة السابقة والظنّعلى وفقها وتساوي طرفي الشكّ.
خاتمة
يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة هناك ولو علىوفاقه، فههنا مقامان:في خاتمة الاستصحاب
المقام الأوّل: أنّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع في جريانالاستصحاب، ولكنّ البحث أوّلاً أنّ المراد من بقاء الموضوع ما هو؟ وثانياً: أنّالدليل على اعتباره ما هو؟ ويستفاد من التتّبع في الكلمات تحقّق ثلاثة أقوالفي بقاء الموضوع:
الأوّل: أن يكون المراد منه البقاء بحسب الخارج والوجود الخارجي،ولازم ذلك أنّه إذا علمنا بقيام زيد في السابق ثمّ شككنا في بقائه له معناه: أنّزيدا الموجود هل يكون قائماً أم لا؟ فنجري استصحاب البقاء، وأمّا إذا علمنبوجود زيد في السابق ثمّ شككنا في بقائه فلا يجري استصحاب بقاء الوجود؛لعدم إحراز الموضوع خارجا، وإن كان بقاؤه محرزاً فلا يبقى شكّ في البين، ففيصورة الشكّ في الوجود لايجري الاستصحاب.
(صفحه314)
الثاني: أنّ الشيخ الأنصاري رحمهالله بعد ملاحظة ورود هذا الإشكال على القولالأوّل اختار قولاً آخر، وهو أنّ المراد ببقاء الموضوع في الزمان اللاحق هومعروض المستصحب، فإذا اُريد استصحاب قيام زيد أو وجوده فلابدّ منتحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضاً في السابق، سواءكان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهناً أو بوجوده خارجا، فزيد معروض للقيام فيالسابق بوصف وجوده الخارجي، وللوجود بوصف تقرّره ذهناً لاوجودهالخارجي(1).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الوجود الذهني والوجود الخارجي متضادّان غيرقابلين للاجتماع، فلا يعقل أن يكون الموجود الذهني مع وصف وجوده فيالذهن متحقّقا في الخارج، وهكذا في الموجود الخارجي، فلا يعقل أنّ تكونقضيّة «زيد موجود» بمعنى «زيد المتقرّر في الذهن موجود في الخارج» فإنّهممتنع وبديهي البطلان، بل الموضوع فيها هو ذات زيد مع قطع النظر عنإضافته إلى الوجودين الذهني والخارجي، نظير قضيّة «الماهيّة موجودة»؛ فإنّالموضوع فيها نفس الماهيّة وذاتها مع قطع النظر عن الوجود الذهنيوالخارجي، فليسئل عن الشيخ رحمهالله أنّه بعد اعتبار إحراز بقاء الموضوع فيالاستصحاب ما معنى إحراز بقائه في قضيّة «زيد موجود؟» هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّ المستفاد من كلام الشيخ رحمهالله أنّ المستصحب في قضيّة «زيد قائم»هو قائم وفي قضيّة «زيد موجود» هو موجود، والموضوع والمعروض فيالاُولى عبارة عن زيد الموجود في الخارج، وفي الثانية عبارة عن زيد الموجودفي الذهن، والإشكال عليه يحتاج إلى مقدّمة وبيانها يهدينا إلى القول الثالثوما هو التحقيق في المسألة، والمقدّمة وهي: أنّ الدليل في باب الاستصحاب
- (1) فرائد الاُصول 2: 808 ـ 809 .
(صفحه 315)
منحصر في قوله: «لا تنقض اليقين بالشكّ»، ومعلوم أنّ متعلّق اليقين والشكّعبارة عن القضايا والمعاني التصديقيّة، ولا يمكن تعلّقهما بالمفاهيم التصّوريّة،فإنّها قابلة للوجود والعدم، فتكون متعلّقات الأوصاف النفسانيّة من اليقينوالشكّ والظنّ والوهم عبارة عن المعاني التصديقيّة والقضايا.
إذا عرفت ذلك فنقول: إنّ الاستصحاب يجري في المتيقّن، والمتيقّن قضيّة،فالاستصحاب في جميع الموارد يجري في القضيّة والمسند والمسند إليه،فالمستصحب قضيّة مشتملة على الموضوع والمحمول، ومعنى استصحابالوضوء: «أني كنت متطهّرا والشكّ في هذا الحال هل أكون متطهّرا أم لا؟».
ويستفاد من استعمال كلمة اليقين والشكّ في دليل الاستصحاب تحقّقالقضيّة المتيقّنة والمشكوكة، كأنّه قال: لاتنقض القضيّة المتيقّنة بالمشكوكة.
ويستفاد من استعمال كلمة النقض فيه تحقّق الاتّحاد بين القضيّتين بتمام المعنىإلاّ من حيث الزمان ـ أي السبق واللحوق ـ فلابدّ من اتّحادهما موضوعومحمولاً.
وعلى هذا المعنى لافرق بين قضيّة «زيد قائم» وقضيّة «زيد موجود»؛ إذالمستصحب فيهما نفس القضيّة، وتحقّق الاتّحاد بين القضيّتين من حيثالموضوع والمحمول ممّا لاريب فيه، ولا نحتاج إلى القول بلزوم بقاء الموضوعولا إلى ما ذكره الشيخ رحمهالله من التوجيه في قضيّة: «زيد موجود»، فالمعتبر فيجريان الاستصحاب هو اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعومحمولاً، فلا إشكال في البين، وهذا المعنى يستفاد من نفس أدلّةالاستصحاب.
ثمّ إنّ الشيخ رحمهالله ـ بعد القول بأنّ المراد ببقاء الموضوع هو معروضالمستصحب ـ استدل بالدليل العقلي على اعتبار هذا الشرط في جريان