(صفحه324)
التخصيص به يتوقّف على اعتباره معها، واعتباره كذلك يتوقّف علىالتخصيص به؛ إذ لولاه لامورد له معها كما عرفت آنفاً.
وأمّا حديث الحكومة فلا أصل له أصلاً؛ فإنّه لانظر لدليلها إلى مدلولدليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل وإن كان دالاًّ عل إلغائه معها ثبوتاً وواقعاً؛لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها، كما أنّ قضيّة دليلهإلغاؤها كذلك، فإنّ كلاًّ من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل، فيطردكلّ منهما الآخر مع المخالفة.
هذا، مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة، ولا أظنّ أن يلتزم به القائلبالحكومة، فافهم فإنّ المقام لايخلو من دقّة.
وأمّا التوفيق فان كان بما ذكرنا فنعم التوفيق، وإن كان بتخصيص دليلهبدليلها فلا وجه له؛ لما عرفت من أنّه لايكون مع الأخذ به نقض يقين بشكّ،لا أنّه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ(1).
ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من بيان مقدّمة يتّضح في ضمنها ما هوالتحقيق في المقام، وهي:
أنّه إذا لاحظنا الدليلين الصادرين عن المولى، فقد لايتحقّق الارتباط بينهممن حيث الموضوع والمحمول، ولا يتحقّق التعارض بينهما، ولا يتحقّق التقدّموالتأخّر بينهما، مثل: قوله: «يجب إكرام العلماء» وقوله: «يحرم إكرام الجهّال».
وقد يتحقّق بينهما التعارض بدون أن يكون أحدهما متقدّما على الآخر،كلّ يتعرّض لما ينفيه الآخر، مثل: قوله: «يجب إكرام العلماء» وقوله: «يحرمإكرام العلماء».
وقد يتحقّق الترجيح والتقدّم لأحد الدليلين على الآخر بعد التعارض، وإنّم
- (1) كفاية الاُصول 2: 350 ـ 351.
(صفحه 325)
الكلام في مناط الرجحان وملاك الترجيح والتقدّم، والمعروف والمتعارف منهعبارة عن الأقوائيّة في الظهور من تقدّم النصّ على الأظهر، والأظهر علىالظاهر، مثل: قوله: «رأيت أسداً» وقوله في كلام منفصل: «رأيت أسديرمي»؛ إذ يتحقّق لكلّ من الكلامين ظهور إلاّ أنّ أحدهما يكون متقدّما علىالآخر؛ لرجحان ظهوره عليه، ولعلّه كان تقديم الدليل المخصّص على الدليلالعامّ بهذا الملاك كما سيأتي تفصيله في باب التعادل والتراجيح.
و قد يكون ملاك التقديم والترجيح تعرّض أحد الدليلين لما لم يتعرّضهالآخر، مثل: قوله: «أكرم العلماء» وقوله: «الفسّاق ليسوا من العلماء»، بمعنى أنّالحكم الثابت للعلماء لايشمل الفسّاق منهم، كما هو المتداول في المحاوراتالعرفيّة، مع أنّ الدليل الأوّل لايكون متعرّضاً لبيان المصداق، ولا شكّ فيتقديم الدليل الثاني على الأوّل بمناط يعبّر عنه اصطلاحاً بالحكومة، فإنّالدليل الحاكم متعرّض لما يكون الدليل المحكوم فاقداً لتعرّضه لفظاً ودلالة.
وهكذا في مثل قوله: «أكرم العلماء» وقوله: «التحيّة إكرام» أو قوله:«النحوي ليس بعالم» فلا يتحقّق التعارض والتنافي بين الدليلين؛ إذ التعارضفرع التعرّض، ولا منافاة بين التعرّض وعدم التعرّض، بخلاف العامّ والخاصّ،مثل: قوله: «أكرم العلماء» وقوله: «لا تكرم الفسّاق»؛ إذ يتحقّق التعارض بينهمفي مادّة الاجتماع، وتكون دائرة الحكومة وسيعة قد تستفاد منها فائدةالتخصيص، وقد تستفاد منها فائدة التقييد.
مثلاً: إذا لاحظنا آية الوضوء مع آية الحرج، كقوله تعالى: «يَـآأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوآاْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَوةِ فَاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ»(1)،وقوله تعالى: «وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ»(2)، ومعناه: عدم تعلّق
(صفحه326)
الجعل والتشريع بالفعل الحرجي وخروجه عن دائرة الجعل، ومعلوم أنّ آيةالوضوء لاتكون متعرّضة لتعلّق الجعل وعدمه بأيّ شيء، ومفاده: أنّ الوضوءواجب للصلاة وإن كان لازمه المجعوليّة، فدليل الحرج متعرّض لما لم يتعرّضهدليل الوضوء، وهذه هي نتيجة التقييد بلسان الحكومة. وإن قال في مقابل آيةالوضوء: «الوضوء الحرجي ليس بواجب» يكون هذا تقييد لإطلاق الآية،فإنّ أحد الدليلين يكون مقيّدا للآخر بمدلوله اللفظي.
فيكون ملاك تقدّم أحد الدليلين على الآخر إمّا أقوائيّة الظهور كما في تقديمالدليل الخاصّ والدليل المقيّد على العامّ والمطلق، وإمّا تعرّض الدليل المتقدّم لملم يتعرّضه الدليل الآخر، كما في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم، بلا فرق بينأن يكون الدليل الحاكم أقوى ظهوراً منه أم لا؟ مع عدم ملاحظة نسبة العموموالخصوص وسائر النسب بينهما لا يتصوّر ملاكاً ثالثا للتقدّم، فلابدّ من جعلالورود شعبة من شعب الحكومة، وأنّ ثمرتها قد تكون عبارة عن التخصيص،وقد تكون عبارة عن التقييد، وقد تكون عبارة عن الورود، ومعناه: نفيموضوع الحكم تعبّداً بمعونة الدليل الشرعي، لاتكويناً كما ذكره اُستاذنا السيّدالإمام رحمهالله (1).
والتحقيق: أنّ حصر الملاك بالنسبة إلى ظهورات الأدلّة ودلالاتها بهذينالملاكين لاشبهة فيه ولا كلام، ولكن يمكن أن يتصوّر ملاك ثالث خارجا عنهذا المقسم، وهو أن يكون وجود الدليل المقدّم موجباً لأن لايبقى مجال للدليلالمؤخّر بدون الارتباط باللفظ والدلالة والظهور اللفظي، مثل: تقدّم قولالشارع بحرمة «شرب التتن» ـ مثلاً ـ على قاعدة قبح العقاب بلا بيان والبراءة
(صفحه 327)
العقليّة، فإنّ نفس وجود الدليل على الحرمة مصداق للبيان، ومعه لايبقى مجالللقاعدة، وهذا مانسميّه بالورود كما أشار إليه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله في ذيلكلامه(1).
فيكون ملاك التقدّم في باب الورود ملاكاً آخر غير مرتبط بالظهوراتاللّفظيّة؛ إذ يمكن أن يتحقّق بين الدليلين اللفظيّين أو بين الدليلين اللّبّيين أو بينالدليل اللفظي والدليل اللبّي، فإذا كان مفاد الاستصحاب وجوب صلاةالجمعة في عصر الغيبة، ومفاد رواية معتبرة عدم وجوبها، يكون تقدّم الأمارةعلى الاستصحاب بملاك الورود، فإنّ مفاد دليل الاستصحاب أنّه «لاتنقضالحجّة بلا حجّة، بل انقضها بحجّة اُخرى»، ونفس وجود الرواية المعتبرةوتحقّقها في مقابله حجّة، فلا يبقى مجال لقوله: «لاتنقض الحجّة بلا حجّة»،فهذا التقدّم يكون على نحو الورود، فكما أنّ تقدّم دليل حرمة شرب التتن علىقاعدة قبح العقاب بلابيان يكون تقدّما وروديّا، كذلك تقدّم دليل حجّيّةالخبر على دليل الاستصحاب، فلا يكون الورود شعبة من شعب الحكومةبخلاف ماذكره الإمام رحمهالله (2).
ومن هنا علم الفرق والمغايرة بين الورود والحكومة والتخصّص، بأنّالحكومة تتحقّق بين الدليلين الواجد لتعرّض خصوصيّة والفاقد له، ولا منافاةبينهما وملاك تقدّم الدليل الحاكم هو تعرضه لها، والورود أيضا يتحقّق بينالدليلين إلاّ أنّ ملاك التقدّم لايرتبط بدلالة اللفظ، بل لايبقى مجال للدليلالمورود مع وجود الدليل الوارد تعبّدا.
وأمّا التخصّص فلا يتحقّق بين الدليلين، بل المولى إذا قال: «أكرم العلماء»
(صفحه328)
نعلم بخروج الجهّال منه تخصّصاً وتكويناً، سواء كان للجهّال حكم أم لميكونوا محكومين بحكم.
وأمّا في مقام تعارض سائر الاُصول مع الاستصحاب فلا خلاف في تقدّمهعليها، فلذا قالوا: إنّ الاستصحاب عرش الاُصول وفرش الأمارات، بلافرقبين كون سائر الاُصول شرعيّاً محضاً، مثل: أصالة الإباحة وأصالة الطهارة، أوعقليّاً محضاً، مثل: أصالة التخيير وأصالة الاشتغال والاحتياط، أو شرعيّوعقليّاً معاً، مثل: أصالة البراءة.
إنّما الكلام في علّة تقدّمه عليها، وأمّا تقدّمه على البراءة العقليّة وقبحالعقاب بلا بيان فيكون من باب الورود؛ إذ مع وجود دليل الاستصحابيتحقّق البيان ولا يبقى مجال لقاعدة قبح العقاب بلابيان.
و هكذا تقدّمه على الاحتياط يكون من باب الورود، فإنّ دليل أصالةالاحتياط هو لزوم دفع العقاب المحتمل عقلاً، كما إذا كان مقتضى الاشتغالوجوب صلاة الظهر والجمعة في عصر الغيبة، ومقتضى الاستصحاب عدموجوب صلاة الظهر في عصر الغيبة، فيكون نفس اعتبار الاستصحابووجود دليله بمعنى أنّه لامجال لاحتمال العقوبة على ترك صلاة الظهر، فلا يبقىمجال لحكم القاعدة بلزوم الاحتياط.
وهكذا تقدّمه على أصالة التخيير يكون من باب الورود؛ لأنّها مبنيّة علىعدم إمكان الاحتياط، ودوران الأمر بين المحذورين كالوجوب والحرمة،وعدم وجود مرجّح لأحدهما في البين، كما إذا دار أمر صلاة الجمعة في عصرالغيبة بين الوجوب والحرمة فيحكم العقل بالتخيير بينهما، وإذا كان مقتضىالاستصحاب وجوبها في هذا العصر فيكون دليل الاستصحاب مرجّحلناحية الوجوب، فإذا كان وجوده بعنوان المرجّح وصالحاً للمرجّحيّة لايبقى