(صفحه328)
نعلم بخروج الجهّال منه تخصّصاً وتكويناً، سواء كان للجهّال حكم أم لميكونوا محكومين بحكم.
وأمّا في مقام تعارض سائر الاُصول مع الاستصحاب فلا خلاف في تقدّمهعليها، فلذا قالوا: إنّ الاستصحاب عرش الاُصول وفرش الأمارات، بلافرقبين كون سائر الاُصول شرعيّاً محضاً، مثل: أصالة الإباحة وأصالة الطهارة، أوعقليّاً محضاً، مثل: أصالة التخيير وأصالة الاشتغال والاحتياط، أو شرعيّوعقليّاً معاً، مثل: أصالة البراءة.
إنّما الكلام في علّة تقدّمه عليها، وأمّا تقدّمه على البراءة العقليّة وقبحالعقاب بلا بيان فيكون من باب الورود؛ إذ مع وجود دليل الاستصحابيتحقّق البيان ولا يبقى مجال لقاعدة قبح العقاب بلابيان.
و هكذا تقدّمه على الاحتياط يكون من باب الورود، فإنّ دليل أصالةالاحتياط هو لزوم دفع العقاب المحتمل عقلاً، كما إذا كان مقتضى الاشتغالوجوب صلاة الظهر والجمعة في عصر الغيبة، ومقتضى الاستصحاب عدموجوب صلاة الظهر في عصر الغيبة، فيكون نفس اعتبار الاستصحابووجود دليله بمعنى أنّه لامجال لاحتمال العقوبة على ترك صلاة الظهر، فلا يبقىمجال لحكم القاعدة بلزوم الاحتياط.
وهكذا تقدّمه على أصالة التخيير يكون من باب الورود؛ لأنّها مبنيّة علىعدم إمكان الاحتياط، ودوران الأمر بين المحذورين كالوجوب والحرمة،وعدم وجود مرجّح لأحدهما في البين، كما إذا دار أمر صلاة الجمعة في عصرالغيبة بين الوجوب والحرمة فيحكم العقل بالتخيير بينهما، وإذا كان مقتضىالاستصحاب وجوبها في هذا العصر فيكون دليل الاستصحاب مرجّحلناحية الوجوب، فإذا كان وجوده بعنوان المرجّح وصالحاً للمرجّحيّة لايبقى
(صفحه 329)
مجال لحكم العقل.
و أمّا تقدّمه على الاُصول الشرعيّة العمليّة كالبراءة الشرعيّة وأصالةالإباحة وأصالة الطهارة فنرى بعد ملاحظة أدلّتها أنّ العلم اُخذ فيها بعنوانالموضوع أو بعنوان الغاية، كقوله في دليل أصالة الحلّيّة: «كلّ شيء فيه حلالوحرام فهو لك حلال أبداً حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه»(1)، ومعناه: أنّكلّ شيء غير معلوم الحرمة يكون محكوماً بالحلّيّة، وقوله في دليل قاعدةالطهارة: «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر»(2) بمعنى أنّ كلّ شيء غير معلومالنجاسة محكوم بالطهارة، وقوله في دليل أصالة البراءة «رفع ما لايعلمون»(3)،ومعلوم أنّ المراد من العلم فيها ليس اليقين الوجداني، بل المراد منه هو تحقّقالحجّة على الطهارة، وتحقّق الحجّة على الحلّيّة، وتحقّق الحجة على التكليففالمراد من العلم هو مطلق الحجّة الشرعيّة أو العقليّة، فمعنى قوله: «رفعمالايعلمون» أنّه رفع التكليف الذي لايكون على إثباته حجّة وقوله «كلّشيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» أنّ كلّ شيء لم تقم الحجّة علىحرمته فهو محكوم بالحلّيّة، وهكذا دليل قاعدة الطهارة، ونظر العرف أيضيساعد على هذا المعنى، كما لا يخفى.
وقد عرفت أنّ مفاد قوله «لاتنقض اليقين بالشكّ» أنّه لاتنقض الحجّةبلاحجّة، فجعل الشارع اليقين السابق حجّة تعبديّة بالنسبة إلى الزماناللاحق وزمان الشكّ، فإذا كان الاستصحاب في مورد الاُصول المذكورةجارياً لايبقى مجال لجريانها، فإنّ مورد جريانها مختصّ بفقدان الحجّة، فوجودالاستصحاب يوجب اضمحلال موضوعاتها؛ لكونه حجّة تعبّديّة لإثبات
- (1) الوسائل 12: 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.
- (2) الوسائل 2: 1054، الباب 37 من أبواب النجاسات، الحديث 4.
- (3) الوسائل 11: 295، الباب 56 من أبواب جهاد النفس وما يناسبه، الحديث 1.
(صفحه330)
الحكم وإثبات الحرمة والنجاسة، فيكون تقدّمه عليها بنحو الورود، وتقدّمالأمارات على الاُصول العمليّة أيضا يكون من هذا القبيل.
تعارض الاستصحابين
وكان لصاحب الكفاية رحمهالله هنا كلام جامع(1) مع تكملة لنا، وهو: أنّالتعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علمبانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهمالتضادّ في زمان الاستصحاب، فهو من باب تزاحم الواجبين والحكم فيهمالتخيير، مثل: إنقاذ الغريقين.
وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما، فتارة لا تكون بينالشكّين السببيّة والمسببيّة، كما إذا علمنا بإصابة النجاسة بأحد الإنائين، فإنّجريان الاستصحاب في كلّ منهما معارض لجريانه في الآخر؛ للعلم الإجماليبنجاسة أحدهما.
واُخرى يكون الشكّ في مستصحب، أحدهما مسبّبا عن الشكّ فيمستصحب الآخر، كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارةوقد كان طاهراً، ومعلوم أنّ استصحاب الطهارة في الماء معارض معاستصحاب نجاسة الثوب ولكنّه مقدّم عليه بالتقدم الشرعي.
وقد تكون السببيّة عاديّة كالشكّ في نبات لحية زيد الناشئ عن الشكّ فيبقاء حياته، وتعارض استصحاب بقاء حياته مع استصحاب عدم نبات لحيته،وتقدّم استصحاب بقاء الحياة عليه تقدّم عادي.
وقد تكون السببيّة عقليّة كالشكّ في تحقّق الحرارة الناشئ من الشكّ في بقاء
- (1) كفاية الاُصول 2: 354.
(صفحه 331)
النار، وتعارض استصحاب عدم تحقّق الحرارة مع استصحاب بقاء النار،وتقدّم استصحاب بقاء النار عليه تقدّم عقلي، فلابدّ لنا من البحث في جميعهذه الصور.
و أمّا البحث فيما كانت السببيّة بينهما سببيّة شرعيّة فالمستفاد من الكلماتتحقّق الاتّفاق بين المحقّقين في تقدّم الاستصحاب في الشكّ السببي علىالاستصحاب في الشكّ المسبّبي، إنّما الكلام في ملاك التقدّم وعلّته، وكان للشيخالأنصاري رحمهالله في المقام كلام مفصّل، حاصله: أنّ الشكّ في أحدهما إن كانمسبّبا عن الشكّ في الآخر، فاللازم تقديم الشكّ السببي وإجراء الاستصحابفيه ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر.
مثاله: استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس، فإنّ الشكّ في بقاءنجاسة الثوب وارتفاعها مسبّب عن الشكّ في بقاء طهارة الماء وارتفاعها،فتستصحب طهارته ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب.
واستشكل على نفسه بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوبالمغسول به كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه، وحكم الشارع بعدمالنقض نسبته إليهما على حدّ سواء؛ لأنّ نسبة حكم العامّ إلى أفراده على حدّسواء، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أوّلاً حتّى يجب نقضاليقين بالنجاسة؛ لأنّه مدلوله ومقتضاه؟
و الحاصل: أنّ جعل شمول حكم العامّ لبعض الأفراد سبباً لخروج بعضالأفراد عن الحكم أو الموضوع كما في ما نحن فيه فاسد بعد فرض تساويالفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم.
وأجاب في مقام دفع تساوي نسبة دليل الاستصحاب بالإضافة إليهمبوجوه، والمهمّ منها وجهان:
(صفحه332)
الوجه الأوّل: أن تقدّم السبب على المسبّب من حيث الرتبة لايكون قابلللإنكار، وهذا يوجب عدم كون نسبة الدليل إليهما على حدّ سواء، وجريانالاستصحاب في السبب مقدّما على المسبّب.
الوجه الثاني: أنّ استصحاب طهارة الماء يوجب زوال نجاسة الثوببالدليل الشرعي، وهو مادلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر، فعدمنقض طهارة الماء لامعنى له إلاّ رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة فيالثوب؛ إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة، وأمّا استصحاببقاء النجاسة في الثوب فلا يوجب زوال الطهارة عن الماء، ولازم شمول«لاتنقض» للشكّ المسبّبي نقض اليقين في مورد الشكّ السببي لالدليل شرعييدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه، فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشكّالسببي طرح عموم «لا تنقض» من غير مخصّص، وهو باطل، واللازم منإهماله في الشكّ المسبّبي عدم قابليّة العموم لشمول المورد، وهو غير منكر.
فجريان الاستصحاب في السبب مع وصف جريانه في المسبّب تعارض،وجريانه في المسبّب وحده تخصيص، والتخصيص مستلزم للدور المحال؛ فإنّتخصيص «لا تنقض» في مورد الشكّ السببي متوقّف على شموله للشكّالمسبّبي، وشموله له متوقّف على تخصيصه في مورد الشكّ السببي، فالتخصيصمتوقّف على التخصيص، وهو محال(1). هذا تمام كلامه مع توضيح وتلخيص.
وأمّا دليله الأوّل فلا شبهة في تقدّم السبب على المسبّب من حيث الرتبة،ولا إشكال أيضا في تحقّق المقارنة المعيّة بينهما من حيث الزمان والوجود، ولمّكان خطاب «لا تنقض» متوجّها إلى العرف لايمكن المشي في الخطاباتالعرفيّة بملاك التقدّم والتأخّر العقلي، فالتقدّم والتأخّر من حيث الرتبة مسألة
- (1) فوائد الاُصول 2: 863 ـ 861 .