(صفحه332)
الوجه الأوّل: أن تقدّم السبب على المسبّب من حيث الرتبة لايكون قابلللإنكار، وهذا يوجب عدم كون نسبة الدليل إليهما على حدّ سواء، وجريانالاستصحاب في السبب مقدّما على المسبّب.
الوجه الثاني: أنّ استصحاب طهارة الماء يوجب زوال نجاسة الثوببالدليل الشرعي، وهو مادلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر، فعدمنقض طهارة الماء لامعنى له إلاّ رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة فيالثوب؛ إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة، وأمّا استصحاببقاء النجاسة في الثوب فلا يوجب زوال الطهارة عن الماء، ولازم شمول«لاتنقض» للشكّ المسبّبي نقض اليقين في مورد الشكّ السببي لالدليل شرعييدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه، فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشكّالسببي طرح عموم «لا تنقض» من غير مخصّص، وهو باطل، واللازم منإهماله في الشكّ المسبّبي عدم قابليّة العموم لشمول المورد، وهو غير منكر.
فجريان الاستصحاب في السبب مع وصف جريانه في المسبّب تعارض،وجريانه في المسبّب وحده تخصيص، والتخصيص مستلزم للدور المحال؛ فإنّتخصيص «لا تنقض» في مورد الشكّ السببي متوقّف على شموله للشكّالمسبّبي، وشموله له متوقّف على تخصيصه في مورد الشكّ السببي، فالتخصيصمتوقّف على التخصيص، وهو محال(1). هذا تمام كلامه مع توضيح وتلخيص.
وأمّا دليله الأوّل فلا شبهة في تقدّم السبب على المسبّب من حيث الرتبة،ولا إشكال أيضا في تحقّق المقارنة المعيّة بينهما من حيث الزمان والوجود، ولمّكان خطاب «لا تنقض» متوجّها إلى العرف لايمكن المشي في الخطاباتالعرفيّة بملاك التقدّم والتأخّر العقلي، فالتقدّم والتأخّر من حيث الرتبة مسألة
- (1) فوائد الاُصول 2: 863 ـ 861 .
(صفحه 333)
عقليّة، ولا يكون قابلاً للدرك والفهم لدى العرف، بل العرف، يحكم بتحقّقالمصداقين؛ لقوله «لاتنقض»، وإضافة العامّ بالنسبة إلى المصاديق على حدّسواء.
وأمّا ماذكره في دليله الثاني ـ من استلزام جريان الاستصحاب في المسبّبالتخصيص في ناحية المسبّب، واستلزام التخصيص للدور المحال ـ فليسبصحيح، فإنّ فرديّة كلّ من المصداقين للعموم لايتوقّف على شيء؛ إذ فرديّةنقض اليقين بالشكّ في ناحية المسبّب أمر وجداني، نقول: «هذا الثوب كاننجساً، الآن مشكوك النجاسة»، فيجرى الاستصحاب فيه، وهكذا في ناحيةالسبب، فالقول بارتباط فرديّة أحدهما بالآخر أمر يكذّبه الوجدان، فلا يلزمالدور.فهذا الطريق ليس بتامّ.
والتحقيق في المقام يحتاج إلى بيان مقدّمة، وهي: أنّ مفاد قوله: «لاتنقضاليقين بالشكّ» هو التعبّد ببقاء المستصحب، بلا فرق بين استصحاب الأحكامواستصحاب الموضوعات، فإن كان الشكّ في الأحكام مثل وجوب صلاةالجمعة ـ مثلاً ـ فمعنى استصحابها الحكم ببقاء صلاة الجمعة تعبّدا، وإن كانالشكّ في الموضوعات ـ كالشكّ في خمريّة مايع ـ فمعنى استصحابها الحكم ببقاءالخمرية، تعبّدا، ولا يستفاد منه حرمته، وإن كان محكوماً بالحرمة لابدّ مندليل آخر، فإثبات الخمريّة بدليل الاستصحاب وإثبات الحرمة بقوله: «كلّخمر حرام» ـ مثلاً ـ وقد عرفت ممّا ذكرناه أنّ نسبة قوله «لاتنقض اليقينبالشكّ» وقوله «كلّ خمر حرام» نسبة الحاكم والمحكوم، فإنّ مفاد الحكم بأنّمستصحب الخمريّة خمر، وهذا تعرّض وتنقيح لموضوع «كل خمر حرام»،فيكون حاكما عليه.
والحاصل: أنّ جريان الاستصحاب في الموضوع لايكون معناه ترتيب
(صفحه334)
الأثر والحكم، بل معناه التعبّد ببقاء الموضوع، كما أنّ استصحاب الحكمـ كالوجوب ـ معناه التعبّد ببقاء الوجوب في زمان الشكّ، وأنّ الحكم ببقاءتعبّديّ الموضوع حاكم على الدليل المتكفّل لبيان حكم هذا الموضوع.
وبعد ملاحظة هذه المقدّمة يتّضح علّة تقدّم الاستصحاب الجاري فيالسبب الشرعي على الاستصحاب الجارى ¨في المسبّب، فإنّ معنى جرياناستصحاب الطهارة في الماء هو الحكم ببقاء طهارته تعبّدا، وهذا حاكم علىقوله: «الماء الطاهر يطهّر» ـ مثلاً ـ فهذا الماء يكون مطهّرا ومؤثّرا في زوالالنجاسة عن سائر الأشياء، فلا معنى للشكّ في بقاء النجاسة في الثوبالمغسول بهذا الماء؛ إذ يكون نقض الحجّة على نجاسة الثوب بحجّة اُخرى، فلنحجّة ودليل على طهارة هذا الثوب، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب فيالمسبّب بعد جريانه في السبب، فيكون الاستصحاب السببي وارداً علىالاستصحاب المسبّبي.
وأمّا إذا كانت السببيّة عاديّة فهو كالشكّ في نبات لحية زيد الناشئ منالشكّ في بقاء حياته، ولا يخفى أنّ استصحاب بقاء حياته معارض معاستصحاب عدم نبات لحيته؛ للعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة بالنسبةإلى أحد المستصحبين، ولا يمكن أن يكون تقدّم الاستصحاب السببي علىالاستصحاب المسبّبي بالدليل المذكور في السببيّة الشرعيّة، فإنّ الآثارالشرعيّة المترتّبة على الاستصحاب السببي ـ أي حياة زيد ـ عبارة عن عدمجواز تقسيم أمواله، وعدم جواز تزويج امرأته، وعدم جواز التصرّف فيأمواله بدون إذنه، وهكذا سائر الأحكام، وأما نبات اللحية من اللوازمالعاديّة، فلا يترتّب على استصحاب الحياة كما ذكر في بحث الأصل المثبت.
وهكذا لايترتّب عليه الأثر الشرعي المترتّب على اللازم العادي كالوفاء
(صفحه 335)
بالنذر، فلا يكون الاستصحاب السببي متقدّما على الاستصحاب المسبّبي،بل لا ارتباط بينهما؛ إذ المستصحب في الأوّل عبارة عن حياة زيد، وفي الثانيعبارة عن عدم نبات لحيته، ولكلّ منهما آثاره الشرعيّة بخصوصه.
وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الإشكال على صحيحة زرارة الاُولى(1): منأنّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء عند الشكّ في تحقّقه مع أنّ الشكّ فيبقاء الوضوء مسبّب عن الشكّ في تحقّق النوم، فكان ينبغي عليه إجراءاستصحاب عدم النوم.
وجوابه: أنّ استصحاب عدم النوم لايثبت بقاء الوضوء إلاّ على القولبالأصل المثبت؛ لما عرفت من أنّ الميزان في تقدّم الأصل السببي على المسبّبيهو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلّيّة الشرعيّة حتّىيترتّب عليه الحكم المترتّب على ذاك العنوان، كاستصحاب العدالة لا ءدراجالموضوع تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء ونحوها، ومعلوم أنّه لمترد كبرى شرعيّة بـ «أنّ الوضوء باقٍ مع عدم النوم» وإنّما هو حكم عقليمستفاد من أدلّة ناقضيّة النوم، فيحكم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق وكانتنواقضه محصورة في اُمور غير متحقّقة وجداناً ـ إلاّ النوم المنفي بالأصل ـ فهوباقٍ، فالشكّ في بقاء الوضوء وإن كان مسبّبا عن الشكّ في تحقّق النوم لكنّأصالة عدم النوم لاترفع ذلك الشكّ إلاّ بالأصل المثبت، فلذا نرى في كلامالإمام عليهالسلام جريان الاستصحاب في الوضوء دون النوم، وهكذا في السببيّةالعقليّة.
وأمّا القسم الآخر من تعارض الاستصحابين وهو ما إذا كان الشكّ فيكليهما مسبّبا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين (كالطهارة)
- (1) الوسائل 1: 174، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه336)
لابعينه وشكّ في تعيينه، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين الطاهرين،فإنّ استصحاب طهارة كلّ منهما يعارض الآخر. والبحث في أنّ مقتضىالقاعدة هل هو التساقط أو التخيير أو ترجيح ذا المزيّة على فرض وجودها؟وقبل الورود في البحث لابدّ من بيان أنّ الاُصول العمليّة ـ ومنهالاستصحاب ـ هل تكون جارية في أطراف العلم الإجمالي أم لا؟ واختلفالقوم على ثلاثة أقوال:
الأوّل: ما التزم به الشيخ الأنصاري رحمهالله من عدم جريانها في أطراف العلمالإجمالي؛ لقصور أدلّتها عن شمولها؛ للزوم التناقض في مدلول الأدلّة، فإنّصدر دليل الاستصحاب ـ أي «لاتنقض اليقين بالشكّ» ـ يدلّ على جريانالاستصحاب في جميع الأطراف ولكن ذيله ـ أي «بل انقضه بيقين آخر» ـ يدلّعلى عدم الجريان، فالاستصحاب لايكون حجّة هنا وإن لم يستلزم منجريان كلا الاستصحابين مخالفة عمليّة، كما إذا كانت الحالة السابقة في كلالإنائين النجاسة، وعلمنا بطهارة أحدهما لابعينه، فلا تلزم مخالفة عمليّة معالتكليف المعلوم بالإجمال من جريان استصحاب النجاسة في كليهما(1).
الثاني: ماذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من التفصيل بين ما إذا كان مستلزمللمخالفة العمليّة مع التكليف المعلوم بالإجمال، وبين ما إذا لم يكن مستلزملذلك، ففي جريان استصحاب الطهارة في كلا الإنائين بلحاظ استلزامهللمخالفة مع قوله «اجتنب عن النجس» قائل بالمنع، بخلاف استصحابالنجاسة في كليهما؛ لعدم استلزامه للمخالفة العمليّة القطعيّة(2).
الثالث: ماذكره المحقّق النائيني رحمهالله وهو أنّ مع قطع النظر عن لزوم التناقض
- (1) فرائد الاُصول 2: 872 .
- (2) كفاية الاُصول 2: 356.