(صفحه 335)
بالنذر، فلا يكون الاستصحاب السببي متقدّما على الاستصحاب المسبّبي،بل لا ارتباط بينهما؛ إذ المستصحب في الأوّل عبارة عن حياة زيد، وفي الثانيعبارة عن عدم نبات لحيته، ولكلّ منهما آثاره الشرعيّة بخصوصه.
وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الإشكال على صحيحة زرارة الاُولى(1): منأنّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء عند الشكّ في تحقّقه مع أنّ الشكّ فيبقاء الوضوء مسبّب عن الشكّ في تحقّق النوم، فكان ينبغي عليه إجراءاستصحاب عدم النوم.
وجوابه: أنّ استصحاب عدم النوم لايثبت بقاء الوضوء إلاّ على القولبالأصل المثبت؛ لما عرفت من أنّ الميزان في تقدّم الأصل السببي على المسبّبيهو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلّيّة الشرعيّة حتّىيترتّب عليه الحكم المترتّب على ذاك العنوان، كاستصحاب العدالة لا ءدراجالموضوع تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء ونحوها، ومعلوم أنّه لمترد كبرى شرعيّة بـ «أنّ الوضوء باقٍ مع عدم النوم» وإنّما هو حكم عقليمستفاد من أدلّة ناقضيّة النوم، فيحكم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق وكانتنواقضه محصورة في اُمور غير متحقّقة وجداناً ـ إلاّ النوم المنفي بالأصل ـ فهوباقٍ، فالشكّ في بقاء الوضوء وإن كان مسبّبا عن الشكّ في تحقّق النوم لكنّأصالة عدم النوم لاترفع ذلك الشكّ إلاّ بالأصل المثبت، فلذا نرى في كلامالإمام عليهالسلام جريان الاستصحاب في الوضوء دون النوم، وهكذا في السببيّةالعقليّة.
وأمّا القسم الآخر من تعارض الاستصحابين وهو ما إذا كان الشكّ فيكليهما مسبّبا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين (كالطهارة)
- (1) الوسائل 1: 174، الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء، الحديث 1.
(صفحه336)
لابعينه وشكّ في تعيينه، كما لو علم إجمالاً بنجاسة أحد الإنائين الطاهرين،فإنّ استصحاب طهارة كلّ منهما يعارض الآخر. والبحث في أنّ مقتضىالقاعدة هل هو التساقط أو التخيير أو ترجيح ذا المزيّة على فرض وجودها؟وقبل الورود في البحث لابدّ من بيان أنّ الاُصول العمليّة ـ ومنهالاستصحاب ـ هل تكون جارية في أطراف العلم الإجمالي أم لا؟ واختلفالقوم على ثلاثة أقوال:
الأوّل: ما التزم به الشيخ الأنصاري رحمهالله من عدم جريانها في أطراف العلمالإجمالي؛ لقصور أدلّتها عن شمولها؛ للزوم التناقض في مدلول الأدلّة، فإنّصدر دليل الاستصحاب ـ أي «لاتنقض اليقين بالشكّ» ـ يدلّ على جريانالاستصحاب في جميع الأطراف ولكن ذيله ـ أي «بل انقضه بيقين آخر» ـ يدلّعلى عدم الجريان، فالاستصحاب لايكون حجّة هنا وإن لم يستلزم منجريان كلا الاستصحابين مخالفة عمليّة، كما إذا كانت الحالة السابقة في كلالإنائين النجاسة، وعلمنا بطهارة أحدهما لابعينه، فلا تلزم مخالفة عمليّة معالتكليف المعلوم بالإجمال من جريان استصحاب النجاسة في كليهما(1).
الثاني: ماذكره المحقّق الخراساني رحمهالله من التفصيل بين ما إذا كان مستلزمللمخالفة العمليّة مع التكليف المعلوم بالإجمال، وبين ما إذا لم يكن مستلزملذلك، ففي جريان استصحاب الطهارة في كلا الإنائين بلحاظ استلزامهللمخالفة مع قوله «اجتنب عن النجس» قائل بالمنع، بخلاف استصحابالنجاسة في كليهما؛ لعدم استلزامه للمخالفة العمليّة القطعيّة(2).
الثالث: ماذكره المحقّق النائيني رحمهالله وهو أنّ مع قطع النظر عن لزوم التناقض
- (1) فرائد الاُصول 2: 872 .
- (2) كفاية الاُصول 2: 356.
(صفحه 337)
في مقام الإثبات لايمكن تعبّد الشارع المكلّف العالم بنجاسة أحد الإنائين ببقاءالطهارة في كلّ واحد منهما، فإنّ كاشفيّة العلم وحجّيّته ذاتيّة كعدم إمكانالتعبّد به في صورة العلم التفصيلي بالنجاسة وإن كان مرجع هذا القول إلىمقالة الشيخ رحمهالله ولكنّ محذور عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلمالإجمالي عنده ثبوتي(1).
والأولى تمحيض البحث في تعارض الاستصحابين بعد الفراغ عن جريانهموأنّ مقتضى القاعدة بعد البناء على الجريان هل هو سقوطهما أو العملبأحدهما مخيّرا مطلقا أو بعد فقدان المرجّح وإلاّ فيؤخذ بالأرجح؟
وأمّا بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي،إمّا للمحذور منه ثبوتاً أو لقصور أدلّته إثباتا، فلا يبقى مجال لهذه البحث.
والحاصل: أنّ البحث ها هنا إنّما هو في تعارض الاستصحابين لافيجريانهما وعدمه في أطراف العلم، فنقول: بناء على جريان الاستصحاب فيأطراف العلم ذاتاً وكون المحذور هو المخالفة العمليّة أو قيام الدليل على عدمالجمع بين المستصحبين، هل القاعدة تقتضي ترجيح أحد الأصلين أوسقوطهما أو التخيير بينهما؟
يمكن أن يتحقّق موضوع آخر لتعارض الاستصحابين غير أطراف العلمالإجمالي بدون أن يكون بينهما السببيّة والمسببيّة، كما إذا قام الدليل من الخارجـ كالإجماع ـ على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين، كما في الماء المتمّم كرّاً،فإذا لم نستفد من الأدلّة طهارته ولا نجاسته ووصلت النوبة إلى الأصل يكونمقتضى الاستصحاب في المتمَّم هو النجاسة، وفي المتمِّم هو الطهارة، مع العلمبمخالفة أحد الاستصحابين للواقع، ولا يمكن الأخذ بكلا الاستصحابين ل
- (1) فوائد الاُصول 4: 687.
(صفحه338)
للعلم الإجمالي، بل للإجماع على عدم جواز التفكيك بين أجزاء ماء واحد فيالحكم بنجاسة بعض وطهارة بعض.
وقال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «أمّا الترجيح فلا مجال له، وذلك يتّضح بعدالتنبيه على أمر، وهو أنّ ترجيح أحد الدليلين أو الأصلين على الآخر إنّما هوبعد الفراغ عن تحقّقهما أوّلاً وذلك واضح، وبعد الفراغ عن تحقّق المرجّح معذي المزيّة ومقابله ثانيا، فمع عدم تحقّق المزيّة مع ذيها ومقابله لايمكن الترجيحبها، وبعد الفراغ عن كون مضمونهما واحدا ثالثا؛ ضرورة عدم تقوية شيء بميخالفه أو لايوافقه.
فحينئذ إمّا أن يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بدليل اجتهاديمعتبر أو بدليل ظني غير معتبر أو بأصل من الاُصول الشرعيّة أو العقلائيّةالمعتبرة أو غير المعتبرة.
لاسبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهادي المعتبر؛ لحكومته علىالاستصحاب فلا يبقى ذو المزية معه، وكذا بالاُصول العقلائية المعتبرة؛ لعينماذكر، ولا بالاُصول الشرعيّة كأصالة الإباحة والطهارة والبراءة، ولا العقليّةكأصالة البراءة والاشتغال؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم على كلّ منها، فلا تتحقّقالمزيّة مع ذيها، فلا مجال للترجيح بالشيء المفقود مع مايراد الترجيح به.
ومن ذلك يعلم أنّه لامجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم وبالعكس،فاستصحاب الطهارة لايرجّح بأصلها وبالعكس.
وأمّا الترجيح بدليل ظنّي غير معتبر ـ كترجيح الاستصحاب بالعدلالواحد بناء على عدم اعتباره ـ فلا يمكن أيضا؛ لتخالف موضوعيهمومضمونيهما، فمفاد استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمانالشكّ أو ترتيب آثار الطهارة الواقعيّة في زمان الشكّ، ومفاد الدليل الظنّي
(صفحه 339)
ـ كخبر الواحد ـ هو الطهارة الواقعيّة، فلا يتوافق مضمونهما ولا رتبتهما»(1).
وهذا كلام جيّد لاإشكال فيه، فإذا لم يكن للترجيح مجال في تعارضالاستصحابين يدور الأمر بين الاحتمالين: التساقط والتخيير، ولا بدّ منملاحظة أدلّتهما.
وأمّا وجه التساقط ـ بعد عدم المانع من جريان الاستصحاب في أطرافالعلم الإجمالي إلاّ المخالفة العمليّة القطعيّة أو الدليل الخارجي الدالّ على عدمجواز التفكيك كما مثّلن ـ أنّ نسبة: «لاتنقض» إلى جميع الأفراد والمصاديقعلى السواء، وشموله لها شمولاً واحدا تعيينا، أي يكون شاملاً لجميع الأفرادعلى سبيل التعيين لا الأعمّ من التخيير حتّى يكون شموله لكلّ فرد مرّة معيّنومرّة مخيّرا بين اثنين اثنين، ومرة بين ثلاثة ثلاثة، وهكذا، أو في حال معيّنوفي حال مخيّرا ومعيّنا، فلا يمكن الأخذ بكلّ واحد من الأطراف للزومالمخالفة العمليّة، ولا ببعض الأطراف معيّنا؛ لعدم الترجيح، ولا مخيّرا؛ لعدمشموله للأفراد مخيّرا رأساً؛ فيسقط الاستصحابان.
وأمّا وجه التخيير فما يمكن أن يكون وجها له أمران:
أحدهما: أنّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستشكف العقل خطاباً تخييرياً؛لوجود الملاك التامّ في الأطراف، كما في باب التزاحم، فقوله: «أنقذ الغريق» بعدالتزاحم يستشكف العقل خطاباً تخييرياً؛ لوجود الملاك في كلّ منهما، فما هوالملاك لتعلّق الخطاب التعييني لكلّ غريق يكون ملاكاً للخطاب التخييري فيمانحن فيه، فمحذور المخالفة العمليّة القطعيّة أوجب استكشاف العقل حكمشرعيّاً تخييريّا.
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بأنّ استكشاف الخطاب