(صفحه338)
للعلم الإجمالي، بل للإجماع على عدم جواز التفكيك بين أجزاء ماء واحد فيالحكم بنجاسة بعض وطهارة بعض.
وقال اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله : «أمّا الترجيح فلا مجال له، وذلك يتّضح بعدالتنبيه على أمر، وهو أنّ ترجيح أحد الدليلين أو الأصلين على الآخر إنّما هوبعد الفراغ عن تحقّقهما أوّلاً وذلك واضح، وبعد الفراغ عن تحقّق المرجّح معذي المزيّة ومقابله ثانيا، فمع عدم تحقّق المزيّة مع ذيها ومقابله لايمكن الترجيحبها، وبعد الفراغ عن كون مضمونهما واحدا ثالثا؛ ضرورة عدم تقوية شيء بميخالفه أو لايوافقه.
فحينئذ إمّا أن يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بدليل اجتهاديمعتبر أو بدليل ظني غير معتبر أو بأصل من الاُصول الشرعيّة أو العقلائيّةالمعتبرة أو غير المعتبرة.
لاسبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهادي المعتبر؛ لحكومته علىالاستصحاب فلا يبقى ذو المزية معه، وكذا بالاُصول العقلائية المعتبرة؛ لعينماذكر، ولا بالاُصول الشرعيّة كأصالة الإباحة والطهارة والبراءة، ولا العقليّةكأصالة البراءة والاشتغال؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم على كلّ منها، فلا تتحقّقالمزيّة مع ذيها، فلا مجال للترجيح بالشيء المفقود مع مايراد الترجيح به.
ومن ذلك يعلم أنّه لامجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم وبالعكس،فاستصحاب الطهارة لايرجّح بأصلها وبالعكس.
وأمّا الترجيح بدليل ظنّي غير معتبر ـ كترجيح الاستصحاب بالعدلالواحد بناء على عدم اعتباره ـ فلا يمكن أيضا؛ لتخالف موضوعيهمومضمونيهما، فمفاد استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمانالشكّ أو ترتيب آثار الطهارة الواقعيّة في زمان الشكّ، ومفاد الدليل الظنّي
(صفحه 339)
ـ كخبر الواحد ـ هو الطهارة الواقعيّة، فلا يتوافق مضمونهما ولا رتبتهما»(1).
وهذا كلام جيّد لاإشكال فيه، فإذا لم يكن للترجيح مجال في تعارضالاستصحابين يدور الأمر بين الاحتمالين: التساقط والتخيير، ولا بدّ منملاحظة أدلّتهما.
وأمّا وجه التساقط ـ بعد عدم المانع من جريان الاستصحاب في أطرافالعلم الإجمالي إلاّ المخالفة العمليّة القطعيّة أو الدليل الخارجي الدالّ على عدمجواز التفكيك كما مثّلن ـ أنّ نسبة: «لاتنقض» إلى جميع الأفراد والمصاديقعلى السواء، وشموله لها شمولاً واحدا تعيينا، أي يكون شاملاً لجميع الأفرادعلى سبيل التعيين لا الأعمّ من التخيير حتّى يكون شموله لكلّ فرد مرّة معيّنومرّة مخيّرا بين اثنين اثنين، ومرة بين ثلاثة ثلاثة، وهكذا، أو في حال معيّنوفي حال مخيّرا ومعيّنا، فلا يمكن الأخذ بكلّ واحد من الأطراف للزومالمخالفة العمليّة، ولا ببعض الأطراف معيّنا؛ لعدم الترجيح، ولا مخيّرا؛ لعدمشموله للأفراد مخيّرا رأساً؛ فيسقط الاستصحابان.
وأمّا وجه التخيير فما يمكن أن يكون وجها له أمران:
أحدهما: أنّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستشكف العقل خطاباً تخييرياً؛لوجود الملاك التامّ في الأطراف، كما في باب التزاحم، فقوله: «أنقذ الغريق» بعدالتزاحم يستشكف العقل خطاباً تخييرياً؛ لوجود الملاك في كلّ منهما، فما هوالملاك لتعلّق الخطاب التعييني لكلّ غريق يكون ملاكاً للخطاب التخييري فيمانحن فيه، فمحذور المخالفة العمليّة القطعيّة أوجب استكشاف العقل حكمشرعيّاً تخييريّا.
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله بأنّ استكشاف الخطاب
(صفحه340)
التخييري لايمكن في مانحن فيه، فإنّ كشف الخطاب في مثل: «أنقذ الغريق»ممّا لامانع منه؛ لوجود الملاك في كلّ من الطرفين، وهو حفظ النفسالمحترمة دون مثل: «لا تنقض»؛ لعدم الملاك في الطرفين ولا في واحد منهما؛ لأنّهليس تكليفا نفسيّا مشتملاً على الملاك، بل هو تكليف لأجل التحفّظ علىالواقع لابمعنى كونه طريقاً إليه، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاك دركالواقع، مثل ماإذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة البدويّة، فاستصحابالوجوب والحرمة لايوجب حدوث ملاك في المستصحب، بل يكون حجّةعلى الواقع لو أصاب الواقع، وإلاّ يكون التخلّف تجريّا لاغير، وأوضح منهالاستصحاب الموضوعي فإذا علم انتقاض الحالة السابقة في بعض الأطرافوسقط الأصلان لايمكن كشف الحكم التخييري؛ لعدم الملاك ـ أي التحفّظعلى الواقع ـ في الطرفين(1).
ثانيهما: أنّ إطلاق أدلّة الاستصحاب يقتضي عدم نقض اليقين بالشكّ فيحال نقض الآخر وعدمه، كما أنّ إطلاق أدلّة الترخيص يقتضيه في حالالإتيان بالآخر وعدمه، وإطلاق مثل: «أنقذ الغريق» يقتضى إنقاذ كلّ غريق،أنقذ الآخر أوّلاً، ولا يجوز رفع اليد عنه إلاّ بما يحكم العقل، وهو ماتلزم منهالمخالفة العمليّة والترخيص في المعصية والتكليف بما لايطاق، ونتيجة ما ذكر:هو الأخذ بمقتضى لاتنقض تخييراً وبالأدلّة المرخّصة كذلك، وبمثل: «أنقذالغريق»، فالمحذور فيها إنّما هو من إطلاق تلك الأدلّة، فلابدّ من رفع اليد منهلامن أصلها(2).
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الإطلاق الشامل لأطراف العلم الإجمالي المستلزم
(صفحه 341)
للمخالفة العمليّة القطعيّة في دليل الاستصحاب يمكن أن لا يتحقّق.
وثانياً: أنّ التخيير العقلي في المتزاحمين ليس كالتخيير الشرعي فيالواجبات الشرعيّة؛ فإنّ ترك الواجب التخييري ـ كترك الخصال الثلاث منكفّارة الإفطار ـ لا يوجب تعدّد استحقاق العقوبة، بل العقوبة فيه واحدة كتركالواجب التعييني، بخلاف المتزاحمين؛ إذ العقل يحكم بأنّ العبد إذا اشتغل بإنقاذكلّ غريق يكون معذورا في ترك الآخر؛ لكونه في حال صرف قدرته لإنقاذهعاجزاً عن إنقاذ الآخر، وأمّا إذا تركهما معاً فلا يكون معذورا في واحد منهما؛لكونه مكلفّاً بكل واحد ومعاقب بهما؛ لكونه قادرا على كلّ واحد، فلا يتحقّقهنا واجبان مشروطان وأنّ وجوب إنقاذ كلّ منهما مشروط بعدم وجوبإنقاذ الآخر حتّى يكون لازم ذلك استحقاق عقوبة واحدة كالواجبالتخييري الشرعي.
والحاصل: أنّ ماذكره ـ من أنّ المحذور في قوله: «أنقذ الغريق» وسائرالأدلّة ناشئ من إطلاقها، ومع صرف النظر عن الإطلاق وتبديله بالتقييديرفع المانع ـ ليس بصحيح، وأنّ المحذور في عدم تطبيق «أنقذ الغريق» في منحن فيه فبعد بطلان أدلّة التخيير يبقى التساقط بلامعارض، فمقتضى القاعدةفي تعارض الاستصحابين هو التساقط.
نسبة الاستصحاب مع سائر القواعد
وأمّا نسبته مع سائر القواعد المجعولة في الشبهات الموضوعيّة ـ كقاعدة اليدوقاعدتي الفراغ والتجاوز والقرعة وأصالة الصّحة ـ فلابدّ من بيان الحال فيها،فأمّا قاعدة اليد فهي ماجعله الشارع والعقلاء دليلاً للملكيّة وعبّر في بعضالروايات عنها بأنّه: «لولا ذلك لماقام للمسلمين سوق»؛ إذ لا طريق لإثبات
(صفحه342)
الملكيّة للبايع أو المشتري سوى هذه القاعدة، ويتحقّق استصحاب عدمالملكيّة في أكثر موارد تحقّق الملكيّة بعنوان ذي اليد، ويتحقّق التعارض بينهما.
نعم، قد تكون القاعدة بلامعارض، كما إذا علمنا بملكية ذي اليد للمال فيزمان قطعا وعدم ملكيّته له في زمان آخر قطعا، وشككنا في تقدّم زمانالملكيّة وتأخّره، وبعد جريان استصحاب الملكيّة واستصحاب عدم الملكيّةوتساقطهما تبقى القاعدة بلامعارض، أو كما إذا كانت ملكيّة ذي اليد للشيءمن أوّل حدوثه مشكوكة، فلا يجري استصحاب عدم الملكيّة؛ لعدم تحقّقالحالة السابقة العدميّة إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، والاستصحاب فيهلايجري عندنا كما ذكرناه في محلّه، فتكون قاعدة اليد بلامعارض.
وإنّما الكلام في تقدّم القاعدة على الاستصحاب عند التعارض وعدمه،فنقول: يحتمل أن تكون قاعدة اليد أمارة شرعيّة وعقلائيّة، ويحتمل أن تكونأصلاً عقلائيّا أمضاه الشارع، وعلى الأوّل ـ كما هو الظاهر ـ لا إشكال فيتقدّمها على الاستصحاب، كما ذكرنا أنّ تقدّم الأمارات والطرق المعتبرة عليهيكون على نحو الورود.
وعلى الثاني أيضا تتقدّم القاعدة عليه بعد الالتفات إلى أمرين:
الأوّل: تحقّق الإجماع على اعتبار قاعدة اليد في جميع الموارد مطلقاً بلا فرقبين تحقّق الاستصحاب على خلافها وعدمه.
الثاني: أنّ بعد تحقّق التعارض بينهما في أكثر موارد القاعدة يهدينا قوله:«ولولا ذلك لما قام للمسلمين سوق» إلى عدم اختصاص القاعدة بالمواردالنادرة، وإلاّ يلزم أن تكون القاعدة قليلة الفائدة، بخلاف الاستصحاب؛ إذيبقى تحته جميع الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة قليلة غير الملكيّة، فلشكّ في تقدّم القاعدة على الاستصحاب، سواء قلنا بأنّها أمارة شرعيّة أو قلن