(صفحه 355)
العامّ ـ من حيث هو ـ على الخاصّ وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة،فلو كان حجّيّة ظهور العامّ غيرمعلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه، لوجدمورد يفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ من ظنّ العامّ حتّى يقدّم عليه، أومكافئته له حتّى يتوقّف، مع أنّا لم نسمع مورداً يتوقّف في مقابلة العامّ منحيث هو والخاصّ، فضلاً عن أن يرجّح عليه. نعم، لو فرض الخاصّ ظاهرأيضاً خرج عن النصّ، وصار من باب تعارض الظاهرين، فربّما يقدّم العامّ(1).
وحاصل كلامه قدسسره : أنّ المخصّص إن كان قطعيّاً من جميع الجهات يكونتقدّمه على العامّ بنحو الورود، وإن كان ظنيّاً من حيث السند يكون تقدّمهعليه بنحو الحكومة أو الورود، وإن كان ظنّياً من حيث الدلالة قد يكونمقدّماً عليه وقد يتحقّق التعارض بينهما، وقد يكون العامّ مقدّماً عليه.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ التخصيص لا يكون مستلزماً للمجازيّة في العامّ علىما هو التحقيق كما مرّ في مباحث الألفاظ تفصيله.
وثانياً: أنّ مرجع الاُصول اللفظيّة ـ كأصالة العموم، وأصالة الحقيقة،وأصالة الإطلاق، وأصالة عدم القرينة ـ إلى أصالة الظهور، وأنّها من شعبهلا في مقابلها، فالأصل العقلائيّ المعتبر عند العقلاء هو أصالة الظهور، ولكنّهقد تتحقّق في الاستعمالات في المعنى الحقيقي، مثل «رأيت أسداً»، تسمّىبأصالة الحقيقة، وقد تتحقّق في المعنى المجازي، مثل: رأيت أسداً يرمي»،ـ فكما أنّ قولنا: «رأيت أسدا» ظاهر في المعنى الحقيقيّ، كذلك قولنا: «رأيتأسدا يرمي» ظاهر في المعنى المجازي بلحاظ أقوائيّة ظهور القرينة فيه ـ وقدتتحقّق في المعنى العامّ فتسمّى بأصالة العموم، وقد تتحقّق في المعنى المطلقفتسمّى بأصالة الإطلاق، ويكون تعدّد الأسامي بلحاظ اختلاف الموارد، مع
- (1) فرائد الاُصول 4: 15 ـ 17.
(صفحه356)
تحقّق أصالة الظهور في الاستعمالات المجازيّة أيضاً.
فلا مجال للبحث من كون حجّيّة أصالة الظهور من باب أصالة عدم القرينةأو من باب الظنّ النوعيّ بإرادة الحقيقة؛ لعدم اختصاصها في المعنى الحقيقي،فالأصل العقلائي المعتبر الشائع في المحاورات عبارة عن أصالة الظهور.
وثالثاً: أنّه على فرض إثبات حجّيّة أصالة الظهور واعتبارها من باب الظنّالنوعي عند العقلاء، والمفروض أنّ الدليل العمدة لحجّيّة المخصّص مثل الخبرالمعتبر هو بناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع، فيكون بناء العقلاء ملاكالحجّيّة في كليهما، ولا دليل لإطلاق دائرة حجّيّة أحدهما وتقييد دائرة حجّيّةالآخر بعدم الظنّ على خلافه.
ورابعاً: أنّ ما استفاده بعنوان النتيجة والقول بأنّ تقيّد حجّيّة هذالظنّ النوعيّ دليل على عدم وجداننا مورداً يقدّم فيه العامّ على الخاصّليس بصحيح؛ إذ دليل تقديم الخاصّ على العامّ عند العقلاء ـ كما ذكرنا أنّهم لا يروون في مقام التقنين وجعل القانون بينهما مغايرة واختلافاً، بلالخاصّ بيان للعامّ، فلا تصّح المقايسة بينهما من حيث أقوائيّة الظهوروالتكافؤ، فيقدّم الخاصّ وإن كان في أدنى مرتبة الظهور، فما ذكره قدسسره من التفصيل لا يكون قابلاً للالتزام.
ويستفاد من كلام صاحب الكفاية قدسسره : أنّ دليل تقدّم الخاصّ على العامّ أنّالخاصّ إمّا نصُّ بالنسبة إليه، وإمّا أظهر، وبناء العقلاء على كون النصّ أوالأظهر قرينةً على التصرّف في الظاهر، فيكون المخصّص أبداً أقوى ظهوراً فلذيقدّم على العامّ(1).
وجوابه: أنّ كلّيّة هذا المعنى لا تكون قابلة للقبول؛ إذ لا يتصوّر أظهريّة
- (1) كفاية الاُصول 2: 381.
(صفحه 357)
المخصّص في بعض الموارد، كما إذا قال المولى: «أكرم كلّ عالم»، ثمّ قال: «أهنكلّ عالم فاسق»؛ إذ لا فرق بينهما من حيث ظهور الألفاظ ومقام الدلالة، وإنكان انطباق الخاصّ على مورده أوضح وأظهر من انطباق العامّ بلحاظ قلّةالمصداق، ولكنّه لا يرتبط بمقام الدلالة وظهور اللفظ، فلا تكون أقوائيّة ظهورالخاصّ بنحو الكلّي، وطريق تقديم الخاصّ بنحو الكلّي منحصر بما ذكرناه.
ويستفاد من كلام المحقّق النائيني قدسسره : أوّلاً: ما يكون بمنزلة الصغرى، وهو:أنّ الخاصّ يكون قرينة على التصرّف في ظهور العامّ وعدم إرادة ظهوره؛ فإنّهقطعيّ الدلالة.
وثانياً: ما يكون بمنزلة الكبرى، وهو: أنّ الظهور في كلّ قرينة يكون حاكمعلى أصالة الظهور في ذي القرينة، وعلّة تقدّمه عليها عبارة عن الحكومة، وإنكان ظهور القرينة أضعف من ظهور ذي القرينة، مثل تقدّم ظهور كلمة«يرمي» في قولنا: «رأيت أسداً يرمي» على ظهور كلمة «الأسد» مع أنّظهوره أضعف من كلمة الأسد في المعنى الحقيقيّ؛ فإنّه ظهور إطلاقي بخلافظهور كلمة الأسد؛ لكونه ظهوراً وضعيّاً، وأقوائيّة الظهور الوضعيّ بالنسبةإلى الظهور الإطلاقي ممّا لا ريب فيه، ومع ذلك يكون مقدّماً عليه من بابحكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذي القرينة عندالعقلاء؛ لكونها مفسّراً ومبيّناً لذيها(1).
والإشكال عليه يتوقّف على بيان مقدّمة، وهي: أنّ مورد جريان الاُصولـ لفظيّة كانت أو عمليّة، شرعيّة كانت أو عقلائيّة ـ عبارة عن صورةالشكّ،ولا مجال لجريانها في صورة اليقين بالمراد، فكما لا مجال للتمسّك بأصالةالطهارة في صورة العلم بطهارة شيء أو العلم بنجاسته، وكذلك لا مجال
- (1) فوائد الاُصول 4: 723 ـ 725.
(صفحه358)
للتمسّك بأصالة الظهور في صورة العلم بمراد المتكلّم من قوله: «رأيت أسداً»بأيّ طريق، وأنّه الحيوان المفترس أو الرجل الشجاع.
إذا عرفت ذلك فنقول: يمكن القول بأنّ كلمة «الأسد» في المثال تكونقرينة على التصرّف في كلمة «يرمي» لا بالعكس؛ إذ التصرّف في الظهورالإطلاقي أولى وأسهل من التصرّف في الظهور الوضعيّ، فيكون معناه فيالواقع رأيت أسداً يرمي بالمخلب؛ إذ الأسديّة تلازم الرمي بالمخلب، فلا دليللأن تكون كلمة «يرمي» قرينة، وكلمة «الأسد» ذي القرينة.
إن قلت: علمنا بقرينيّة كلمة «يرمي» بطريق من الطرق.
قلت: إذا كنت عالماً بالقرينة فلا مجال للتمسّك بأصالة الظهور، ولا تصلالنوبة إليها، وحكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذيها، فإنّمورد جريانها صورة الشكّ في مراد المتكلّم، وبعد إحراز القرينة لا يبقى مجالللشكّ في القرينيّة، فلا مجال لجريان أصالة الظهور والتمسّك بها حتّى نقولبحكومة أحد الأصلين على الآخر، وإذا لم تكن القرينيّة محرزة فلا أثرللحاكميّة والمحكوميّة.
والتحقيق: أنّ الملاك في تشخيص القرينيّة منحصر في أقوائيّة الظهور،وكلمة «يرمي» في المثال تكون أقوى ظهوراً في الرمي بالنبل عند العرف،ولعلّه كان منشأ ضعف ظهور كلمة «الأسد» شيوع استعمالها في المعنى المجازي،فيصير الظهور الوضعي بلحاظ غلبة الاستعمال في المجاز موهوناً في مقابلالظهور الإطلاقي، ولا تتحقّق قاعدة كلّيّة لأقوائيّة الظهور؛ لاختلافها بحسبالمقامات والموارد، فإذا كان الملاك لتشخيصها أقوائيّة الظهور فلا يبقى مجالللحاكميّة، وبهذا الملاك يكون الخاصّ مقدّماً على العامّ، هذا أوّلاً.
وثانياً: لو سلّمنا كلّيّة تقدّم أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في
(صفحه 359)
ذي القرينة بنحو الحكومة لا يصحّ الالتزام بكون الخاصّ، قرينة علىالتصرّف في العامّ وفي مقابل العامّ؛ لعدم مغايرته معه وعدم التنافي بينهما، كمذكرنا أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة في العامّ؛ إذ التخصيص تضييق فيدائرة المراد الجدّي للمتكلم، ولا دخل له في المراد الاستعمالي والإرادةالاستعماليّة والمستعمل فيه، ولا فرق من هذه الجهة بين العامّ المخصّص وغيره،كما ذكره صاحب الكفاية قدسسره .
وذكرنا أيضاً أنّ عدم التنافي والتعارض مختصّ بمقام جعل القانون ومحيطالتقنين، ولا يتحقّق في المحاورات العرفيّة والتأليفات والتصنيفات والرسائلالعمليّة؛ فإنّ الفقيه لا يكون مقنّناً، بل هو في مقام الإخبار عمّا استنبطه منالقانون، فلا ينبغيله الحكم في مورد بخلاف ما حكم به بنحو العموم؛ إذيتحقّق التنافي بينهما لدى العرف والعقلاء.
وأمّا الشائع في مقام التقنين فهو جعل القانون بنحو العموم، ثمّ إلحاقالتخصيص والتبصرة به بحسب اقتضاء الشرائط والموارد، وربّما لا يلتفتالمقنّن في حال جعل القانون إلى موارد التبصرة والتخصيص، مع ذلك قابليّةإلحاق التبصرة لكلّ قانون محفوظة، فلذا نرى إلحاق التبصرة إليه تدريجاً بعدالالتفات إلى مواردها، فلا منافاة بين العامّ والخاصّ عند العقلاء في محيطالتقنين حتى يكون الخاصّ قرينة على التصرّف فيه.
نكتة: ذكرنا فيما تقدّم أنّ الاُصول اللفظيّة ـ مثل أصالة الحقيقة وأصالةالعموم وأصالة عدم القرينة وأصالة الإطلاق ـ من شعب أصالة الظهور، وأنّهلا تختصّ في الاستعمالات الحقيقيّة، بل تجرى في الاستعمالات المجازيّة أيضاً،فلا تجرى أصالة الظهور لتشخيص صغرى الظهور، وأنّ هذا المعنى ظاهر منهذا اللفظ أم لا، بل تجري لتشخيص الكبرى، ومعناها أصالة كون الظهور