(صفحه372)
فصل
في تشخيص موارد النصّ والظاهر عن الأظهر والظاهر
والتحقيق: أنّه لا يمكن لنا جعل القانون الكلّيّ والضابطة الكلّيّة لتعيينمواردهما؛ لارتباطهما بمقام الدلالة وتختلف الدلالة بحسب اختلاف المقاماتوالموارد، ومع ذلك نرى في كلمات المحقّقين من الاُصوليّين ذكر كلّيّات منهبعنوان المصداق لهما، ولا بّد من البحث فيها لترتّب الأثر الفقهي عليها،وملاحظتها من حيث التماميّة وعدمها، ونتعرّض لما ذكره المحقّق النائينيّ قدسسره لأنّهجامع في المقام، ونضمّ إليه ما عندنا من إشكال.
فنقول: قال المحقّق النائيني قدسسره : فمن الموارد التي تندرج في النصوصيّة ما إذكان أحد الدليلين أخصّ من الآخر وكان نصّاً في مدلوله، قطعيّ الدلالة؛ فإنّهيوجب التصرّف في العامّ وروداً أو حكومة، على التفصيل المتقدّم.
ومنها: ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب؛ فإنّ القدرالمتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لاينفع في مقام تقييد الإطلاق مالم يصل إلىحدّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد، إلاّ أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقامرفع التعارض عن الدليلين؛ فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن، فيصلحلأن يكون قرينة على التصرّف في الدليل الآخر مثلاً: لو كان مفاد أحدالدليلين وجوب إكرام العلماء، وكان مفاد الآخر حرمة إكرام الفسّاق، وعلم
(صفحه 373)
من حال الآمر أنّه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشدّ كراهةً من الفاسق الغيرالعالم، فالعامّ الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قوله: «لا تكرم الفساق»،ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق، فلابّد من تخصيص قوله:«أكرم العلماء» بما عدا الفسّاق منهم(1).
واستشكل عليه اُستاذنا السيّد الإمام قدسسره : أولاً: بأنّ القدر المتيقّن الذييوجب أن يكون الدليل نصّاً بالنسبة إليه هو ما يوجب الانصراف، وليس لهفردان، فرد موجب للانصراف، وفرد غير موجب له، ومع وجود الانصرافلا تعارض بين الدليلين أصلاً، بل يصيران من قبيل العامّ والخاصّ المطلقالذي عرفت أنّه لايصدق عليهما عنوان التعارض أصلاً.
وثانياً: أنّه على تقدير تسليم كون القدر المتيقّن مطلقاً موجباً لصيرورةالدليل نصّاً بالنسبة إليه نقول: تخصيص ذلك بخصوص ماإذا كان هنا قدرمتيقّن في مقام التخاطب لاوجه له؛ فإنّ النصوصيّة على تقديرها ثابتة بالنسبةإلى مطلق القدر المتيقّن، سواء كان في مقام التخاطب أو في غير هذا المقام.
وثالثاً ـ وهو العمدة في الجواب ـ : أنّ المراد بالقدر المتيقّن إن كان هوالمقدار الذي علم حكمه بحيث لم يكن في الحكم المتعلّق به ريب ولا شبهة،مثلاً: علم في المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإكرام، فمع وجود هذا العلم يتحقّقالانصراف بالنسبة إلى الدليل الآخر الدالّ بظاهره على وجوب إكرام العلماءعموماً؛ فإنّه مع العلم بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق بل حرمته كيف يبقىالشكّ في مقدار دلالة ذلك الدليل وإن كان ظاهره العموم؟
وإن كان المراد به أنّ ذلك المقدار متيقّن على تقدير ثبوت الحكم بالنسبةإلى غيره ـ مثلاً: لو كان الجاهل الفاسق محرّم الإكرام لكان العالم الفاسق كذلك
- (1) فوائد الاُصول 4: 728.
(صفحه374)
قطعاً بحيث كان المعلوم هوالملازمة بين الأمرين، بل ثبوت الحكم في القدرالمتيقّن بطريق أولى ـ فمن المعلوم أنّ ذلك لا يوجب كون الدليل الظاهر فيحرمة إكرام مطلق الفسّاق نصّاً بالنسبة إلى العالم الفاسق، بل غايته عدمإمكان التفكيك وإدراج مورد الاجتماع في الدليل الآخر، وأمّا تقديمه على ذلكالدليل فلا، فلِمَ لا يعاملان معاملة المتعارضين؟
وبعبارة اُخرى: اللازم ممّا ذكر عدم جواز تقديم الدليل الآخر على هذالدليل؛ لاستلزام التقديم الانفكاك الذي يكون معلوم الخلاف، وأمّا لزومتقديم هذا الدليل والحكم بحرمة إكرام جميع الفسّاق لأجل ما ذكر فلا دليلعليه، بل يمكن معاملتهما معاملة المتعارضين؛ لأنّها أيضاً لا يوجب الانفكاك،فتدبّر جيّداً(1).
ومنها: ما إذا كانت أفراد أحد العامّين من وجه بمرتبة من القلّة بحيث لوخصّص بماعدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم التخصيص المستهجن،فيجمع بين الدليلين بتخصيص ما لا يلزم منه التخصيص المستهجن وإبقاء ميلزم منه ذلك على حاله؛ لأنّ العامّ يكون نصّا في المقدار الذي يلزم منخروجه عنه التخصيص المستهجن، ولا عبرة بقلّة أحد أفراد العامّين وكثرتها،بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن(2). إنتهى.
ويرد عليه: أوّلاً: أن النصوصيّة من حالات الدلالة، واستلزام التخصيصللاستهجان العقلي لا يغيّر حال الدلالة أصلاً، مع أنّ لازم ذلك أن يكون لمثل«أكرم العلماء» دلالتان: إحداهما الدلالة النصّيّة بالنسبة إلى حدّ التخصيصالمستهجن، والاُخرى الدلالة الظهوريّة بالنسبة إلى الأقلّ منه، وما سمعنا بهذ
- (1) معتمد الاُصول 2: 344 ـ 345.
- (2) فوائد الاُصول 4: 728.
(صفحه 375)
في آبائنا الأوّلين.
وثانياً: أنّ استلزام تقديم العامّ الآخر للتخصيص المستهجن إنّما يمنع منالتقديم، ولا يوجب تقديم ما يلزم من تخصيصه ذلك، فيمكن معاملتهما معاملةالمتعارضين، فالدليل لا ينطبق على المدّعي؛ إذ المدّعى هو تقديم ما يلزم منتخصيصه الاستهجان، والدليل لا يدلّ إلاّ على المنع من تقديم العامّ الآخر الذيلا يوجب تخصيصه ذلك.
ومنها: ما إذا كان أحد الدليلين واردا مورد التحديدات والأوزان والمقاديروالمسافة ونحو ذلك؛ فإنّ وروده في هذه الموارد يوجب قوّة الظهور في المدلولبحيث يلحقه بالنصّ، فيقدّم على غيره عند التعارض(1) إنتهى.
ويرد عليه: أوّلاً: أنّ الفرق بين الأدلّة الواردة في مقام التحديدات وغيرهليس بصحيح؛ إذ المعيار في تشخيص مفاد الروايات هو نظر العرف الدقّيّ، بلفرقٍ بين ماورد في مقام التحديد وغيره، كما لا يخفى.
وثانياً: أنّ النتيجة في الروايات الواردة في مقام التحديد أيضاً تختلفبملاحظات مختلفة، كما في مسألة الكرّ ـ أي ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبارونصف في ثلاثة أشبار ونصف ـ فإنّ الشبر المتوسط ـ مثلاً ـ يختلف بالنسبةإلى الأشبار المتوسطة، وهكذا، فكيف تكون في مفادها نصّاً؟ فلذا نرى البحثوالإشكالات المهمّة في هذه المسألة بين الفقهاء بلحاظ اختلاف نتيجة التحديدبالوزن مع التحديد بالأشبار مع ورود كليهما في مقام تعريف وتحديد الكرّ، فليقتضي الوقوع في مقام التحديد النصوصيّة.
ومنها: ما إذا كان أحد العامّين من وجه وارداً في مورد الاجتماع مع العامّالآخر، كما إذا ورد قوله: «كلّ مسكر حرام» جواباً عن سؤال حكم الخمر،
(صفحه376)
وورد أيضاً ابتداءً قوله: «لا بأس بالماء المتّخذمن التمر»، فإنّ النسبة بينالدليلين وإن كانت هي العموم من وجه، إلاّ أنّه لا يمكن تخصيص قوله: «كلّمسكر حرام» بماعدا الخمر؛ فإنّه لا يجوز إخراج المورد؛ لأنّ الدليل يكوننصّاً فيه، فلابّد من تخصيص قوله: «لا بأس بالماء المتّخد من التمر» بماعدالخمر(1)، إنتهى.
وهذا إنّما يتمّ فيما لو كانت النسبة بين المورد والدليل الآخر العموموالخصوص مطلقاً كما في المثال، حيث إنّ النسبة بين الخمر وبين قوله: «لبأس بالماء المتّخذ من التمر» هو العموم المطلق، بناء على إطلاق لفظ الخمرعلى المسكر من الماء المتّخذ من التمر فقط، كما هو المفروض؛ ضرورة أنّه بدونهلا تعارض بين الدليلين.
وأمّا لو كانت النسبة بين المورد والدليل الآخر هو العموم من وجه ـ أيبناءً على إطلاق لفظ الخمر على الأعم من الماء المتّخذ من التمر ـ فلا وجه لهذالتقديم؛ فإنّ نصوصيّة «كلّ مسكر حرام» ثابتة بالنسبة إلى الفرد المتّخذ منالتمر، بلحاظ كونه القدر المتيقّن ومورد السؤال، وأمّا بالنسبة إلى غيره فتتحقّقالمعارضة بين العامّين.
وأمّا الموارد التي ادّعي اندراجها في الأظهر والظاهر فهي: