(صفحه380)
«لاتعتق الرقبة الكافرة».
ويستفاد منها أنّ المولى إذا قال: «لا تكرم الفاسق» ـ بعد فرض تماميّةشرائط الإطلاق ومقدّمات الحكمة ـ ثمّ قال: «أكرم كلّ عالم» ـ بعد نظارته إلىالأفراد بالدلالة اللفظيّة الوضعيّة ـ فيصلح أن يكون هذا العامّ مقيّداً لإطلاقالمطلق ومسقطاً له عن صلاحيّة الاحتجاج، فلا يبعد الالتزام بتقدّم العامّوتقييد المطلق عند دوران الأمر بين التخصيص والتقييد، كما قال به الشيخ قدسسره من هذا الطريق، لا من طريق أظهريّة الدلالة وظاهريّتها.
وظهر ممّا ذكرنا: أنّه عند تعارض بعض المفاهيم مع بعض آخر ـ على فرضثبوتها ـ لا ترجيح لواحد منهما على الآخر لو كان ثبوت كلّ منهما بضميمةمقدّمات الحكمة، كما في مفهوم الشرط ومفهوم الوصف.
نعم، لو كان أحد المتعارضين ممّا ثبت بالدلالة اللفظيّة ـ كما لا يبعد دعوىذلك بالنسبة إلى مفهوم الغاية وكذا مفهوم الحصر ـ فالظاهر أنّه حينئذٍ لابدّمن ترجيحه على الآخر؛ لما مرّ من ترجيح العامّ على المطلق الراجع إلى تقديمالتقييد على التخصيص.
وظهر أيضاً أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي ليس بصحيح؛ فإنّلفظ المطلق ـ مثل الرقبة والإنسان ـ وضع للطبيعة، بعضّ النظر عن الكثراتوالموجودات المتّحدة معها في الخارج، والإطلاق يستفاد من مقدّمات الحكمة،فالإطلاق يعني تمام موضوع حكم المولى هي الطبيعة والماهيّة بلا فرق بينقوله: «أعتق الرقبة» وقوله: «أكرم العالم».
وأمّا على القول بكونه على قسمين: الشمولي والبدلي وتحقّق التعارضبينهما، كما في قوله: «أعتق الرقبة»، وقوله: «لا خير في كافر» فلا وجه لتقديمالإطلاق الشمولي وترجيحه على البدلي بمناط تقدّم العامّ على الإطلاق؛
(صفحه 381)
لفقدان المناط ـ أي الدلالة اللفظيّة الوضعيّة ـ هنا؛ فإنّ طريق تحقّق الإطلاقشموليّاً كان أم بدليّاً عبارة عن مقدّمات الحكمة، ومجرّد الشموليّة لا يوجبالتقدّم على البدلي.
(صفحه382)
دوران الأمر بين النسخ والتخصيص
ومن الموارد التي جعلت من مصاديق الأظهر والظاهر ماإذا دار الأمر بينالتخصيص والنسخ، وحيث إنّ النسخ مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ؛لكونه انتهاء أمَدَ الحكم، والتخصيص مشروط بوروده قبل حضور وقتالعمل بالعامّ، فإنّ تأخير البيان عن وقت العمل والحاجة قبيح عقلاً، فلذلكوقع الإشكال في التخصيصات الواردة عن الأئمّة عليهمالسلام بعد حضور وقت العملبالعامّ؛ فإنّه ربّ عامّ نبويّ وخاصّ عسكري، وقد احتمل الشيخ قدسسره في ذلكثلاثة احتمالات:
أحدها: أن تكون ناسخة لحكم العمومات.
ثانيها: أن تكون كاشفة عن اتّصال كلّ عامّ بمخصّصه، وقد خفيت علينالمخصّصات المتّصلة ووصلت إلينا منفصلةً.
ثالثها: أن تكون هي المخصّصات حقيقة، ولا يضرّ تأخّرها عن وقت العملبالعامّ؛ لأنّ العمومات المتقدّمة لم يكن مفادها الحكم الواقعي، بل الحكمالواقعي هو الذي تكفّل المخصّص المنفصل بيانه، وإنّما تأخّر بيانه لمصلحةكانت هناك في التأخير، وإنّما تقدّم العموم ليعمل به ظاهراً إلى أن يردالمخصّص، فيكون مفاد العموم حكماً ظاهريّاً، ولا محذور في ذلك؛ فإنّ المحذورإنّما هو تأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعامّ إذا كان مفاد العامّ حكماً واقعيّاً ل
(صفحه 383)
حكماً ظاهريّاً(1).
وقريب من هذا ما ذكره صاحب الكفاية قدسسره بأنّ قبح تأخير البيان عنوقت العمل فيما إذا لم يكن هناك مصلحةُ في إخفاء الخصوصيّات أو مفسدة فيإبدائها(2).
وقد قرّب الشيخ الأنصاري قدسسره الاحتمال الثالث واستبعد الاحتمال الأوّل؛لاستلزامه كثرة النسخ، وكذا الاحتمال الثاني؛ لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائنالمتّصلة واهتمام الرواة بحفظها.
ولكن قرّب هذا الاحتمال المحقّق النائيني قدسسره (3)؛ نظراً إلى أنّ كثيراً منالمخصّصات المنفصلة المرويّة عن طرقنا عن الأئمّة عليهالسلام مرويّة عن العامّة بطرقهمعن النبيّ صلىاللهعليهوآله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علينا، بل احتملاستحالة الوجه الثالث بما أفاده في التقريرات.
ولكنّ الظاهر عدم تماميّة شيء من الاحتمالات الثلاثة، بل التحقيق: أنّجميع الأحكام الإلهيّة والقوانين الشرعيّة من العموم والخصوص، والمطلقوالمقيّد، والناسخ والمنسوخ قد صدر تبليغها من الرسول الأكرم وبيّنها للناسفي مدّة نبوّته.
والشاهد عليه ما ذكره صلىاللهعليهوآله في خطبة حجّة الوداع ممّا يدلّ على أنّه نَهَىالناس عن كلّ شيء يقرّبهم إلى النار ويبعّدهم عن الجنّة، وأمرهم بكلّ شيءيقرّبهم إلى الجنّة ويباعدهم عن النار(4).
والإشكال في أنّ الأحكام التي بلّغها الرسول صلىاللهعليهوآله قد ضبطها وجمعها أمير
- (2) كفاية الاُصول 2: 405.
- (3) فوائد الاُصول 4: 737.
- (4) الوسائل 17: 45، الباب 12 من أبواب مقدّمات التجارة، الحديث 2.
(صفحه384)
المؤمنين صلوات اللّه وسلامه عليه في صحيفته، وهو أعلم الناس بعد رسولاللّه صلىاللهعليهوآله بذلك، لكنّهم أعرضوا عنه وزعموا استغنائهم بكتاب اللّه؛ لأجلاستيلاء الشياطين على اُمورهم وتبعيّتهم لهم.
والشاهد عليه ما أفاده أمير المؤمنين عليهالسلام في جواب سليم بن قيس منتقسيم الصحابة إلى أربع طوائف، وتفصيل القضيّة: أنّه حكى أبان عن سليم،قال: قلت يا أمير المؤمنين، إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبيذر شيئاً منتفسير القرآن، ومن الرواية عن النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعتمنهم، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القران ومن الأحاديثعن النبيّ صلىاللهعليهوآله تخالف الذي سمعته منكم، وأنتم تزعمون أنّ ذلك باطل، أفترىالناس يكذبون على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدين ويفسّرون القرآن برأيهم؟ قال:فأقبل عليّ عليهالسلام فقال لي: «يا سليم، قد سألت فافهم الجواب:إنّ في أيدي الناسحقّا وباطلاً، وصدقا وكذبا، وناسخا منسوخا، وخاصّا وعامّا، ومحكممتشابها، وحفظا ووهما، وقد كذب على رسولاللّه صلىاللهعليهوآله على عهده حتّى قامخطيبا فقال: أيّها الناس، قد كثرت عليّ الكذّابة، فمن كذب عليّ معتمّدا فليتبوّءمقعده من النار، ثمّ كذب عليه من بعده حتّى توفّي رحمة اللّه على نبيّ الرحمةوصلّى اللّه عليه وآله، وإنّما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس:
رجل منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام، لايتأثّم ولا يتحرّج أن يكذبعلى رسول اللّه صلىاللهعليهوآله متعمّدا، فلو علم المسلمون أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولميصدّقوه، ولكنّهم قالوا: هذا صاحب رسول اللّه صلىاللهعليهوآله ، رآه وسمع منه، وهو ليكذب ولا يستحلّ الكذب على رسول اللّه صلىاللهعليهوآله وقد أخبر اللّه عن المنافقين بمأخبر ووصفهم بما وصفهم، فقال اللّه عزّ وجلّ «وَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْوَ إِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ»(1)، ثمّ بقوا بعده وتقرّبوا إلى أئمّة الضلال والدعاة