(صفحه 429)
فموسّع عليك»(1).
ويرد عليه: أنّ الفرق بين الأمارات والاُصول العمليّة عبارة عن ترتّبالآثار واللوازم والملازمات العقليّة والعاديّة على الأمارات، بخلاف الاُصول؛لعدم حجّيّة مثبتات الاُصول، ولازم هذا القول الاقتصار في مقام الأخذ بأحدالخبرين على مجرّد مدلوله المطابقي دون لازمه؛ لما ذكرنا من كون التخيير هنبعنوان الأصل العملي والحكم الظاهري لتساقط الأمارتين، مع أنّ هذا مخالفلما استفاده المحقّقين في هذا الفن من التخيير المستفاد من الأخبار العلاجيّة منترتّب جميع المداليل المطابقيّة والالتزاميّة على الخبر الذي أخذه في هذا المقام،ومعاملته كأنّ لم يكن له معارض، فلا يمكن الالتزام بهذا القول.
وقد يقال بأنّ مرجع جعل التخيير لتلك الأخبار إلى جعل الطريقيّة منالشارع عند التعارض في مقابل إمضائه طريقيّة ما هو طريقا عند العقلاء فيصورة عدم المعارضة، مثل: إمضاء طريقيّة الخبر.
ويرد عيه: أوّلاً: أنّ أصل جعل الطريقيّة والكاشفيّة ولو مع عدم التعارضغيرمعقول؛ لكونها من الاُمور التكوينيّة ومن اللوازم العقليّة للكاشف، وليعقل تعلّق الجعل الشرعي بها.
وبعبارة اُخرى: أنّ الكاشفيّة والطريقيّة محفوظة لجميع الطرق الظنّية، ولتكون قابلة للسلب عنها، وما يكون قابلاً للجعل من الشارع هو اعتبارهوحجّيّتها، فلذا يعبّر عن بعضها بالأمارة الغير المعتبرة، وعن بعض آخربالأمارة المعتبرة.
وثانياً: أنّه إن كان المراد جعل الطريقيّة لكلا الخبرين فهو مستحيل بعدفرض التعارض وعدم إمكان الاجتماع؛ إذ لو لميكن مستحيلاً لما حكم العقل
- (1) الوسائل 18: 88 ، الباب 9، من أبواب صفات القاضي، الحديث 44.
(صفحه430)
بالتساقط، كما هو واضح.
وإن كان المراد الطريقيّة لأحد الخبرين بالخصوص، فمضافا إلى أنّه لمرجّح في البين، مناف لمقتضى الأدلّة، حيث إنّها تدلّ على التخيير لا الأخذبخصوص واحد منهما، وإن كان المراد جعلها لأحدهما غير المعيّن فمن الواضحأنّ أحدهما لا على سبيل التعيين ليس شيئا وراء كلا الخبرين؛ إذ ليس هنأمر آخر في البين، وقد عرفت استحالة جعل الطريقيّة لكليهما أو واحد معيّنمنهما.
هذا، وكان لاُستاذنا السيّد الإمام رحمهالله طريق آخر في المسألة، وهو قوله:«والتحقيق في المقام أن يقال: إنّ الحكم بالتخيير في المتعارضين ليس حكمثانويا وراء الحكم بحجّيّة كلّ واحد من الخبرين إمضاءً لحكم العقلاء وبنائهمعلى العمل بخبر الواحد، غاية الأمر أنّ مرجعه إلى تخطئة العقلاء في حكمهمبالتساقط مع التعارض، ومرجعه إلى أنّه كما كان الواجب عليكم الأخذ بالخبروالتعبّد بمضمونه وجعله حجّة وطريقا إلى الواقع مع عدم التعارض مع الخبرالآخر، كذلك يجب عليكم في مقام التعارض أيضا الأخذ، غاية الأمر أنّهحيث لايكون ترجيح في البين يتخيّر المكلّف في الأخذ بكلّ واحد منهما، فهذالأخذ لايكون مغايرا للأخذ بالخبر مع عدم المعارضة أصلاً، وحينئذ لا فرقبينهما من جهة حجّيّة اللوازم والملزومات.
ثمّ ذكر تنظيرا بعنوان الدليل وقال: والدليل على ما ذكرنا أنّ الظاهر عدمالفرق فيما يرجع إلى معنى الأخذ بين المتكافئين والمتعارضين مع ثبوت المزيّةلأحدهما، فكما أنّ الأمر بأخذ ذي المزيّة ليس حكما آخر وراء الحكم بحجّيّةالخبر، فكذلك الأمر بأخذ أحد الخبرين مع التكافؤ، فإنّه ليس أيضا حكمآخر ناظرا إلى جعل الطريقيّة وجعل حكم ظاهري، كما هو واضح»(1).
(صفحه 431)
ويرد عليه: أنّ تخطئة حكم العقلاء وإن كان بمكان من الإمكان، ولكنلامجال لتخطئة حكم العقل، وقد عرفت أنّ التساقط مقتضى حكم العقلأيضا، وعليه فيبقى الإشكال بحاله، بأنّ العقل إذا حكم بالتساقط في الخبرينالمتعارضين فكيف يمكن الحكم بالتخيير في ضمن روايات التخيير مع تصرّفهفي الآيات القرآنيّة بعنوان قرينة متّصلة، وتقدّم الدليل العقلي القطعي علىالدليل التعبدي؟ فبعد اعترافه رحمهالله هناك بأنّ مقتضى القاعدة بنظر العقل هوالتساقط لايمكن التعبّد بخلافه.
والتحقيق: الالتزام بالقول الأوّل من الأقوال الثلاثة من كون التخيير فيالخبرين المتعارضين المتكافئين أصلاً عمليّا شرعيّا مثل سائر الاُصول العمليّةالشرعيّة في قبال أصالة التخيير العقليّة الجارية في دوران الأمر بينالمحذورين.
ولا منافاة بينه وبين حكم العقل بتساقط الخبرين وعدم صلاحيتهمللطريقيّة والأماريّة للتعارض، ففي صورة فقدان الطريق والتحيّر حكمالشارع بالتخيير بينهما بعنوان الأصل العملي، وبهذا المعنى ينطبق ما فيقوله عليهالسلام : «ما لمتعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».
فإن قيل: إنّ لازم ذلك الأخذ بمدلول مطابقي ما اُخذ من الخبرين دوناللوازم والملازمات.
وجوابه؛ أوّلاً: أنّه لا مانع من الالتزام بذلك.
وثانياً: سلّمنا عدم حجّيّة لوازم مفاد الأصل العملي بمعنى عدم ترتّباللوازم العقليّة على أصالة التخيير بعنوان الأصل العملي، ولكن لا دخل لنباللوازم وملازماته، بل نتعبّد بطرفي التخيير ومخيّر فيه، وهو الأخذ بهذا الخبر
- (1) معتمد الاُصول 2: 392.
(صفحه432)
بتمام مفاده من المطابقي والالتزامي وغيرهما، وعدم طريقيّته لايمنع من التعبّدبالتخيير، وإلاّ يمنع من حجّيته في المدلول المطابقي أيضا؛ إذ التعارض يقع أوّلوبالذات في المدلول المطابقي.
فالتخيير هنا أصل عملي ومثبتاته ليست بحجّة، ولكن لايسري هذا إلىالخبر الذي اُخذ بعنوان طرفي التخيير، كأنّه قال الشارع: «أنت مخيّر في الأخذبهذا الخبر في تمام مداليله والأخذ بذاك الخبر في تمام مداليله»، وليس معناهحجّيّة مثبتات الاُصول، ولا يمكن القول بأنّه لايمكن للشارع التعدّي منالمدلول المطابقي كما لا يخفى، فهذا الوجه أقرب عندنا.
التنبيه الثاني: في اختصاص التخيير بالمفتي وعدمه
بعد ما عرفت من كون التخيير الذي يدلّ عليه أخباره هو التخيير فيالمسألة الاُصوليّة، فهل يجوز للمجتهد الفتوى بالتخيير في المسألة الفرعيّةالراجعة إلى كون المقلّد مخيّرا في مقام العمل، أم التخيير ينحصر بالمجتهد ويجبعليه الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقه، بعد ما علم أن جريانالاُصول في الشبهات الموضوعيّة لاينحصر بالمجتهد، بل يجوز للمقلّد أيضإجراؤها؟
وأمّا في إجرائها في الشبهات الحكميّة فوجهان:
قد يقال: بانحصار الخطابات الواردة في المسائل الاُصوليّة بخصوصالمجتهد؛ نظرا إلى أنّه هو الذي يتحقّق عند موضوع تلك الخطابات؛ لأنّه هوالذي يشكّ في الحكم الفلاني بالشبهة الحكميّة، وهو الذي يجيء عنده الخبرانالمتعارضان، وغير ذلك من الموضوعات، ومع انحصار تحقّق الموضوع بهلاتكون تلك الخطابات شاملة لغيره.
(صفحه 433)
هذا، ولكنّ الظاهر خلافه؛ لأنّ مجرّد كون المقلّد غير مشخّص لموضوعاتتلك الخطابات لايوجب انحصارها بالمجتهد، بل يمكن أن يقال: بأنّ المجتهديشخّص الموضوع للمقلّد ويفتي بمفاد تلك الخطابات، وبالنتيجة يكونجريانها في ذلك الموضوع عند المقلّد، فالمجتهد يعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعةكانت واجبة في عصر ظهور أئمّة النور عليهمالسلام ، والآن مشكوك الوجوب، ويفتيبأنّ كلّ شيء كان كذلك يحرم نقض اليقين فيه بالشكّ على ما هو مدلولخطابات الاستصحاب، فالمقلّد حينئذ يتمسّك بالاستصحاب ويحكمبوجوبها في هذه الأعصار أيضا.
وإن كانت الشبهة حكميّة فلا يصحّ القول بالتبعيض في خطاب واحد، مثل:قوله عليهالسلام : «لاتنقض اليقين بالشكّ»، وقوله عليهالسلام : «كلّ شيء لك حلال»، والحكمالمستفاد منه من حيث عموميّته بالنسبة إلى المجتهد والمقلّد في الشبهاتالموضوعيّة واختصاصه بالمجتهد في الشبهات الحكميّة، ومجرّد كون تشخيصالموضوع فيها بيد المجتهد لايوجب اختصاص الخطاب به، بل الخطابوالحكم عامّ.
والحاصل: أنّ المجتهد عند تعارض الخبرين يتخيّر بين الأخذ بمفاد أحدالخبرين والفتوى على طبقه، كالأخذ بالخبر مع عدم المعارض له، وبين إعلامالمقلّد بالحال وأنّ هذا المورد ممّا ورد فيه الخبران المتعارضان وحكمه التخييرفي الأخذ، وبين الفتوى بالتخيير في مقام العمل من دون إعلامه بالحال.
أمّا الأوّل والثاني فواضحان، وأمّا الثالث فلأنّ التخيير ـ كما عرفت ـ حكمطريقي ومرجعه إلى جواز أخذ كلّ من الخبرين طريقا وأمارة، فلا مانع منالفتوى بالتخيير.
والتحقيق: أنّ الفتوى بالتخيير في المقام غير قابلة للالتزام، فإنّ الظاهر منه