(صفحه46)
وأضف إلى ذلك: أنّ لحقّ الشفعة مرحلتين: الاُولى: كون بيع الشريك ملكهبيعا جائز الفسخ، قابل الرجوع برجوع الثمن إلى ملك المشتري والمثمن إلىملك البائع، كأنّه لم يقع هناك بيع ولم تتحقّق معاملة أصلاً.
الثانية: قيام الشريك مقام المشتري وانتقال ما للبائع إلى ملكه وضميمةنصف الآخر إلى نصفه بإعطاء الثمن للمشتري، فإن كان لقوله: «لا ضرر ولضرار» دخلاً بعنوان التعليل في حقّ الشفعة، يكون مقتضاه إثبات المرحلةالاُولى فقط؛ لارتفاع الضرر بها قطعا، ولا يقتضي إثبات المرحلة الثانية بقيامالشريك مقام المشتري في هذه المعاملة أصلاً.
واختار شيخ الشريعة الأصفهاني رحمهالله طريقا آخر لعدم ارتباط قوله: «لضرر ولا ضرار» بمسألة الشفعة، وقال: إنّه تتحقّق الروايتان بالنسبة إلى قضايرسول اللّه صلىاللهعليهوآله أحدهما معروف عند أهل السنة، والآخر معروف عند الإماميّة.
الاُولى: رواية عبادة بن صامت وعنوانها: «قضى رسول اللّه بين أهلالمدينة كذا، قضى رسول اللّه بين أهل البادية كذا، قضى رسول اللّه لا ضرر ولضرار، قضى رسول اللّه كذا وكذا»، وجمع فيها جميع ما قضى به رسولاللّه صلىاللهعليهوآله ونقل فيها قوله: «لا ضرر ولا ضرار» بعنوان قضيّة مستقلّة، ونقل قوله «قضىرسول اللّه بالشفعة بين الشركاء في الأراضي والمساكن» بدون التذيل به،وهكذا قوله «قضى رسول اللّه أنّه لايمنع فضل ليمنع به فضل كلاء».
الثانية: رواية عقبة بن خالد، وفيها نقل قضايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله في الأبوابالمختلفة، وإن كان بعض آخر مثل السكوني أيضا ناقلاً لها، ولكنّ العمدة نقلهلها، ويحتمل أن يكون نقله جميع القضايا في رواية واحدة، وتجزأتها وتقطيعهونقل كلّ جزء منها في الباب المناسب من قبل تلامذته ورواة الحديث عنهبلاواسطة أو مع الواسطة، وإذا لاحظنا الروايتين فلا فرق بينهما من حيث
(صفحه 47)
العبارات والألفاظ إلاّ في جعل قوله «لا ضرر ولا ضرار» ذيلاً لقضيّة الشفعةوفضل الماء في رواية عقبة بن خالد، بخلاف رواية عبادة بن صامت.
ومن هنا نستفيد أنّ قوله: «لا ضرر ولا ضرار» قضيّة مستقلّة لاترتبطبقضيّة الشفعة وفضل الماء.
وذكر المحقّق النائيني رحمهالله مؤيّدا لذلك، وقال: «لايبعد أن تكون رواية عقبةبن خالد رواية واحدة مشتملة على قضايا متعدّدة، والشاهد على ذلك وحدةالسند في جميعها كما ذكرنا عن الكليني رحمهالله عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بنالحسين، عن محمّد بن عبداللّه بن هلال، عن عقبة بن خالد عن أبي عبداللّه عليهالسلام :قال: «قضى رسول اللّه بين أهل المدينة...»، وهكذا سائر رواياته، ولكن مثلالكليني رحمهالله لمّا رتّب كتابه على ترتيب أبواب الفقه نقل كلّ قضيّة منها في باب».
والإشكال المؤيّد على هذا الطريق: أنّ الروايات التي نقلها عقبة بن خالدلاتكون أزيد من عشرة قضايا، مع أنّ قضايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله كثيرة، ونقل عدّةمنها السكوني، وعدّة اُخرى بعض آخر، فلا امتياز لعقبة بن خالد في ذلك،بخلاف رواية عبادة بن صامت؛ لاشتمالها للجميع أو أكثر قضايا رسول اللّه صلىاللهعليهوآله مضافا إلى أنّ تكرار قوله: «لا ضرر ولا ضرار» في ذيل قضيّة الشفعة وقضيّةفضل الماء والكلاء دليل على كونه ذيلاً لهما وأنّهما معلّلان به، وإلاّ لا وجهلتكراره، فلا يصحّ الالتزام بهذا الطريق.
والدليل على عدم الارتباط هو ما ذكرناه من استلزام التوالي الفاسدة، معضعف سند الروايتين المذكورتين فيهما القضيّتان؛ لعدم إثبات توثيق محمّد بنعبداللّه بن هلال في الرجال، فلا يمكن الالتزام بارتباطه بالقضيّتين بعد عدمالإشكال في صدوره عن رسول اللّه في ذيل قضيّة سمرة بن جندب، وأمّصدوره مستقلاًّ عنه صلىاللهعليهوآله فلا دليل عليه، كما لا يخفى.
(صفحه48)
وأمّا تحقّق كلمة «على مؤمن» في ذيله فلا دليل عليه؛ لعدم وجودها إلاّ فيالمرسلة الغير المعتبرة، مع تقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة.
وأمّا كلمة «في الإسلام» فهي مذكورة في ذيله في المرسلة المعتبرة للصدوق،ولكن يحتمل أن تكون هي في الواقع: «فالإسلام» بلحاظ الجمل الواقعةبعدها، فحقيقة الرواية أنّه قال النبيّ صلىاللهعليهوآله : لا ضرر ولا ضرار، فالإسلام يزيد خيرولا يوجب فيه شرّا»، وهذا الاحتمال عقلائي. وإن قيل: إنّه خلاف الظاهربلحاظ ذكرها في الكتب اللغوية أيضا في ذيله، فلابدّ له من العمل بالظاهر.هذا تمام الكلام في هذه الجهة.
ولا بدّ من البحث في مفردات الحديث بعد إثبات أصل صدوره عنه صلىاللهعليهوآله وأنّ «لا ضرار» المذكور بعد «لا ضرر» تأكيد لما قبله أو أنّه مغاير له، وعلىفرض المغايرة هل المغايرة مغايرة باب المفاعلة والثلاثي المجرّد ـ أي الصدورمن الاثنين أو الواحد ـ أو أزيد من ذلك؟ فلابدّ من الرجوع إلى أهل اللغةوملاحظة موارد استعماله في الكتاب والسنّة، ثمّ أخذ النتيجة في المسألة.
وأمّا من حيث اللغة ففي صحاح الجوهري أنّ: «الضرّ: خلاف النفع، وقدضرّه وضارّه بمعنى واحد».
يحتمل أن يكون المراد عدم الفرق بينهما في استعمال كلّ واحد منها مكانالآخر، وليس لكلمة «ضارّة» معنى المفاعلة، ويحتمل أن يكون المراد عدمالفرق بينهما بالنسبة إلى عدم النفع، وهذا لاينافي أن يكون لأحدهما العنوانالثلاثي المجرّد وللآخر عنوان المفاعلة والأقوى والأقرب هو الاحتمال الأوّل.
ثمّ قال: «والاسم الضرر» ما يتحقّق من المصدر ـ أي الضرّ مصدر،والضرر اسم المصدر ـ ثمّ قال ـ : «والضرار: المضارّة»، والمعنى: أنّ الضرارعبارة عن المضارّة التي قلنا، وقد ضرّه وضارّه بمعنى واحد، فلا يستفاد من
(صفحه 49)
هذه العبارة تحقّق المغايرة بينهما حتّى المغايرة بعنوان باب المفاعلة،كما هو واضح.
وقال صاحب القاموس: «الضرر: ضدّ النفع، ضارّه يضارّه ضرارا،والضرر: سوء الحال، الضرار: الضيق»(1).
والمستفاد منه إجمالاً أنّ المغايرة بينهما لا تكون مغايرة باب المفاعلة، بل هوالنوع الآخر من المغايرة، فإنّ سوء الحال يستعمل نوعا مّا في موارد الخسرانوالضرر المالي والجسمي، والضيق يستعمل في موارد الخسران العرضيوالروحي والمعنوي.
وقال في المصباح المنير: «ضرّه يضرّه إذا فعل به مكروها وأضرّ به، يتعدّيبنفسه ثلاثيّا، والباء رباعيّا» ـ أي إذا كان ثلاثيّا يتعدّى بنفسه، ويقول: ضرّهويضرّه مثل قتله يقتله، وإذا كان رباعيّا يقول: أضرّ بالرجل، لا أضرّ الرجل،فيتعدّىبالباء ـ ثمّقال: «والاسمالضرر، وقديطلق علىنقصفيالأعيان، وضارّهيضارّه مضارّة وضرارا، يعنى ضرّ». والمستفاد منه أنّه لا فرق بينهما أصلاً(2).
وقال ابن الأثير في النهاية: «في الحديث: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»الضرر: ضدّ النفع، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا، وأضرّ به يضرّه إضرارا، فمعنىقوله «لا ضرر»: لايضرّ الرجل أخا، فينقصه شيئا من حقّه، والضرار فِعالمن الضرّ، أي لايجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه، والضرر فعلالواحد، والضرار فعل الاثنين، والضرر ابتداء الفعل، والضرار الجزاء عليه،وقيل: الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنفع أنت به، والضرار أن تضرّه بغير أنتنفع، وقيل: هما بمعنى واحد والتكرار للتأكيد»(3). هذا ما لاحظناه في كتب
- (1) القاموس المحيط 2: 75.
- (3) النهاية في غريب الأثر 3: 172.
(صفحه50)
اللغة ومن الاختلاف فيها.
ولكنّ المستفاد من موارد استعمال كلمة «الضرار» في القرآن هو ما ذكره فيالقاموس من استعمال الضرر في الخسران الجسمي والمالي، والضرار فيالخسران الاعتقادي والروحي، كما في مثل قوله تعالى: «وَ الَّذِينَ اتَّخَذُواْمَسْجِدًا ضِرَارًا...»(1)، فإنّ الغرض من تأسيس المسجد المذكور إيجاد الضعففي عقائد المسلمين والتشكيك في إيمانهم والتفرقة بينهم، ولا يتصوّر هنالإضرار بين الاثنين والمفاعلة.
وكما في مثل قوله تعالى: «وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا»(2)، والظاهر أنّه في قبالقوله تعالى: «الطَّـلَـقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكُم بِمَعْرُوفٍ...»(3).
ومن الروايات الواردة في تفسير الآية ما عن الصادق عليهالسلام : أنّه قال:«لاينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها،فهذا الضرار الذي نهى اللّه عنه إلاّ أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك»(4).
والمستفاد منها أنّ الإمساك بقصد التحقير وإيجاد النقص الروحي، ومقدّمةللطلاق الثالث أو التاسع بدون الاحتياج إلى الاستمتاع منها يكون إضراربها.
وهكذا في قوله تعالى: «لاَ تُضَآرَّ وَ لِدَةُم بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُو بِوَلَدِهِى»(5)،وفي تفسيرها اختلاف، ويقول بعض: إنّه لايصحّ إيقاع الوالدة موردا للضرربالنسبة إلى ولدها، وهكذا الوالد بالنسبة إلى مولود له، وكأنّه كان عنوانان
- (4) وسائل الشيعة 22: 171، الباب 34 من أقسام الطلاق وأحكامه، الحديث 1.