(صفحه 61)
الحقيقيّة يشمل الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود معا، وملاك الحكم فيالقضيّة الخارجيّة يمكن أن يكون متعدّدا بتعدّد الأفراد، والجامع بينها هوالجامع اللفظي والعنواني، مثل: «كلّ من كان في هذا المحبس محكوم بالقتل»،وملاك الحكم في كلّ واحد غير الملاك في الآخر، والجامع هو الكون فيالمحبس، بخلاف القضيّة الحقيقيّة؛ إذ لابدّ فيها من وحدة الملاك وشموله لجميعالأفراد، سواء كانت محقّقة الوجود أو مقدّرة الوجود بملاك واحد، فلابدّ لها منالجامع الحقيقي، وتحقّق الملاك فيه حتّى يكون شاملاً للأفراد بعنوان المصداقيّةله، مثل قولنا: «يجوز الاقتداء بكلّ عادل»، فإنّ ملاك الحكم عبارة عنالعدالة، وهذا الملاك يكون جامعا حقيقيّا كلّيّا لها.
ثمّ قال: «إنّ التخصيص في القضيّة الحقيقيّة قد يكون تصرّفا في نفسالكبرى ومدخول كلمة «كلّ» مثل قوله: «أكرم كلّ عالم»، وقوله: «لاتكرمالفسّاق من العلماء»، وهذا التخصيص يرجع إلى تقييد العامّ، كأنّه قال منالابتداء: «أكرم كلّ عالم غير فاسق»، وقد يكون تصرّفا في كلّيّة الكبرىوكلمة «كلّ»، مثل قوله: «أكرم كلّ عالم» وقوله: «لاتكرم زيد العالم»، وقوله:«لاتكرم بكرا العالم» ونحو ذلك، بخلاف التخصيص في القضيّة الخارجيّة،لانحصاره بالنوع الثاني لتصرّفه في كلمة «كلّ» والأداة المفيدة للعموم، مثلقوله: «كلّ من كان في هذا المحبس صار محكوما بالقتل»، وقوله: «إنّ محبوسكذا لايكون محكوما بالقتل».
ثمّ إنّ تخصيص الأكثر في هذا النوع يكون مستهجنا؛ لتقابل التخصيص معأداة العموم، بخلاف النوع الأوّل؛ إذ التخصيص يكون بعنوان واحد وبمنزلةتقييد مدخول كلمة «كلّ»، ولا يلاحظ فيه كثرة الأفراد وقلّتها، فلا استهجانفي البين».
(صفحه62)
ثمّ قال بعد بيان هذه المقدّمة: «إنّ قوله «لا ضرر» يكون من قبيل القضيّةالخارجيّة لتوجّهه إلى الأحكام المجعولة المحقّقة في الشريعة: فإنّ ظاهر إطلاقهيقتضي عدم الفرق بين كونها ضرريّا أو غير ضرري، فينبغي بقوله: «لضرر» ما كان منها ضرريّا، وقد عرفت أنّ تخصيص الأكثر في القضيّةالحقيقيّة قد يكون مستهجنا، وقد لا يكون كذلك، وأمّا في القضيّة الخارجيّةيكون مستهجنا أبدا، سواء كان التخصيص بعنوان واحد، أو بعناوين متعدّدة؛لتوجّهه إلى الأداة المفيدة للعموم ولا يرتبط بمدخوله، فلا محالة يكونتخصيص الأكثر مستهجنا»(1). هذا تمام الكلام في مقام جواب ما ذكره الشيخالأنصاري رحمهالله .
ولكنّه ليس بتامّ، فإنّ الاختلاف بين القضيّة الحقيقيّة والقضيّة الخارجيّةبوحدة المناط في الأوّل وتعدّد المناط في الثاني خلاف التحقيق؛ إذ الاختلافيكون بسعة دائرة الكلّي والعموم وضيقها، فإنّه قد يكون من العناوين التيتشمل الأفراد المحقّقة الوجود والمقدّرة الوجود معا، وقد يكون من العناوينالمنحصرة بالأفراد المحقّقة الوجود في الخارج.
ويرد عليه ـ بعد الإغماض عن ذلك ـ : أنّه لا شكّ في توجّه قوله: «لاضرر»إلى جميع الأحكام المجعولة المستلزمة للضرر بمناط واحد، وهو استلزام الحكمللضرر، سواء كان حكما تكليفيّا أو حكما وضعيّا، فكونه من القضيّةالخارجيّة ليس بتامّ؛ لعدم انطباقه على مبناه.
والظاهر أنّ تخصيص الأكثر مستهجن مطلقا، سواء كان بعنوان واحد أومتعدّد، كما إذا قال: «أكرم العلماء»، ثمّ قال: «لاتكرم غير المراجع من العلماء»،إلاّ أن يكون التخصيص متّصلاً، وهو في الحقيقة ليس بتخصيص، بل إطلاق
- (1) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني: 149 ـ 151.
(صفحه 63)
هذا العنوان عليه يكون من باب المسامحة.
ولكنّ المحقّق النائيني رحمهالله بعد الجواب عمّا ذكره الشيخ الأنصاري رحمهالله ذكرطريقين للتخلّص عن إشكال تخصيص الأكثر.
الطريق الأوّل: أنّ بعد مقايسة قوله: «لا ضرر» مع الأدلّة الأوّليّة نلتفت إلىتخصيصه لها بعنوان الحكومة، فإنّ لسانه بالنسبة إليها لسان التوضيحوالتفسير، ولكنّ الحكومة فيما كان الحكم بمقتضى طبعه مستلزما للضررأحيانا لا دائما مثل حكومته على دليل وجوب الوضوء؛ لأنّه قد يكونضرريّا، وقد يكون غير ضرري وصار محدودا بمورد غير ضرري بواسطةحكومته عليه، بخلاف ما إذا كان الحكم بمقتضى طبعه متمحّضا في الضرر، فلتتحقّق هنا حكومة، بل النسبة بينهما عبارة عن التعارض، وكان سائر الأدلّةمقدّما عليه.
الطريق الثاني: أنّ أكثر الموارد المذكورة بعنوان المتمحّض في الضرر ليسبصحيح، كالحكم بالضمان في مورد إتلاف مال الغير، فإنّ جبران ما أتلفباختياره ومباشرته لايكون ضرريّا، وكذا الحكم بالدية في مورد القتلالعمدي أو الخطائي، والحكم بإعطاء الزكاة بعد ما جعل الشارع سهما للفقراءفي الأموال، فكيف يكون الحكم بإعطاء الشريك سهم شريكه ضرريّا؟ نعم،في مثل باب الجهاد والحجّ مستلزم للضرر وتحمّل المشقّات الكثيرة بدون أيّعنوان آخر، ولكنّه لايكون موجبا لتحقّق عنوان تخصيص الأكثر(1).
وأجاب سيّدنا الاُستاذ الامام رحمهالله عن الطريق الثاني بجوابين:
الأوّل: أنّه سلّمنا أنّ بعد فرض كون الفقراء شركاء في باب الزكاة لايكونإعطاء سهم الشريك ضرريّا، إلاّ أنّ أصل جعل الحكم بشركة الفقراء
- (1) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم النائيني: 152 ـ 153.
(صفحه64)
ضرري، وهكذا الحكم بالضمان في مورد إتلاف مال الغير عالما عامدا ليسبضرري، ولكنّ الحكم بالضمان على النائم المتلف وغير الملتفت عن غيراختيار لا إشكال في كونه ضرريّا، فلا يكون أكثر الموارد خارجا عن عنوانالضرر.
الثاني: أنّ العموم قد يكون قابلاً وصالحا للتخصيص، وتخصيص الأكثرفيه يكون مستهجنا، وقد يكون آبيا عن التخصيص، كالقواعد الواردة في مقامالامتثال، مثل حديث الرفع، وقاعدة لاحرج، وغير ذلك؛ لمنافاتها مع أصلالتخصيص، وقاعدة لا ضرر أيضا من هذا القبيل، وكلمة «على مؤمن» فيبعض الروايات شاهد على ورودها في مقام الامتنان، فيكون سياقها آبيا عنتخصيص فضلاً عن تخصيص الأكثر(1).
أمّا الجواب عن الطريق الأوّل، فإنّ نتيجته الوقوع فيما فُرر منه؛ إذ بعدوقوع التعارض بين دليل نفي الضرر ودليل وجوب الزكاة والخمس بلحاظنفي الأوّل جنس الحكم الضرري بعنوان المطلق، وإثبات الثاني الحكمالضرري الخاصّ في مورد، فلابدّ من كونه مخصّصا له، فيعود الإشكال بقوّته،فإذا كان معنى قوله: «لا ضرر» نفي الحكم الضرري يكون مستلزما لإشكالتخصيص الأكثر، وهو غيرقابل للجواب، كما لا يخفى.
وأسند الشيخ الأنصاري رحمهالله معنى آخر لقوله: «لاضرر» إلى بعض الفحول،وقال: «هذا أردء الاحتمالات وأضعفها، وهو: أنّ معناه نفي الضرر، لا نفيالضرر المطلق، ولا نفي الحكم الضرري، بل الضرر الموصوف بوصف والمقيّدبقيد، وهو كونه غير متدارك، فإن كان الضرر متداركا مثل تدارك العباءالمغصوب بالمثل أو القيمة، فلا يتحقّق الضرر، فكلّ ضرر غير متدارك في
- (1) بدائع الدّرر في قاعدة نفي الضرر: 89 ـ 90.
(صفحه 65)
الإسلام منفي لتداركه بالمثل أو القيمة أو الأرش.
ثمّ استشكل عليه بأنّ مجرّد إيجاب المثل أو القيمة أو الأرش لايوجبتدارك الضرر في الخارج، وما يتدارك به الضرر واقعا يمكن أن لايتحقّقللعصيان والنسيان، فكيف يمكن نفي حقيقة الضرر(1)؟!.
وقال المحقّق شيخ الشريعة الاصفهاني رحمهالله : إنّ قوله: «لا ضرر» يدلّ على النهيعن الضرر، كأنّه قال: «لايجوز في الإسلام أن يضرّ رجل رجلاً»، وهذا المعنىيستفاد من الأذهان العرفيّة الخالية عن الشبهات ومن الاستعمالات الكثيرة،مثل قوله تعالى: «فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ»(2)، والمعنى: أنّهلايجوز الرفث ولا يجوز الفسوق، ولا يجوز الجدال في الحجّ، ومثل الروايةالواردة في باب السبق والرماية أنّه: «لا سبق إلاّ في خفّ أو حافرٍ أو نصل»(3)،يعنى لاتجوز المسابقة في غير هذه الثلاثة، ومثل قوله: «لا غشّ بينالمسلمين»(4)، ونحو ذلك، مضافا إلى أنّ كلمة «على مؤمن» في ذيل بعضالروايات لايكون متناسبا مع النفي، وإلاّ يكون معناه جواز المعاملة الغبنيّة إذكان المغبون كافرا ذمّيّا، والحال أنّ اشتراك الكافر والمسلم في الأحكام لإشكال فيه، وهذا دليل على كون «لا» ناهية.
ومضافا إلى أنّ ترتيب الصغرى والكبرى في بعض الروايات، مثل: قوله:«إنّك رجل مضارّ، ولا ضرر ولا ضرار» يناسب هذا المعنى.
على أنّه يستفاد من الكتب اللّغويّة كما ذكر في النهاية، والمعنى: «لايضرّالرجل أخاه شيئا»، فالمراد من «لاضرر» هو النهي إمّا لكون «لا» ناهية، وإمّ